Dari Belakang Teropong
من وراء المنظار: صور انتقادية فكهة من حياتنا الاجتماعية
Genre-genre
ومشيت ضائق الصدر، حيران الخطى، ملء نفسي الألم مما أشهد من مخازي مجتمعنا العظيم، فإذا أنا تلقاء عتل يستوقفني قل أن رأيت مثله ضخامة وطولا، له عنق هو وحده أضخم من ذلك الجذع الذي كان يزحف على الأرض، أما بدنه فيضل البصر في ضواحيه، ومد إلي ذلك المارد يدا تتسع لحمل أو غلام، وقال في غير تلعثم أو تردد: «يا بيه ... أنا جوعان ... عاوز حق لقمة.» وحرت والله بين أن أضحك فأسري عن نفسه بعض ما بها، أو أصرخ في وجهه علي أنفس عني بعض همي، وغلبتني الثانية فقلت: اغرب عني، فلن يشبعك كل ما في جيبي، إنك تبني عمارة وحدك، وتمشي جماعة وحدك، فهل يصح أن تطلب لقمة!
وبعد، فيا حكومة ... يا وزارة الشئون الاجتماعية ... يا جماعات البر والإحسان ... يا دعاة الإصلاح ... يا من تغارون على كرامة وطنكم وسمعة عاصمتكم ... الغوث ... الغوث ... إن جميع ما رأيته في زوايا الطريق في ليلة واحدة، وعلى أبعاد متقاربة في أهم بقاع القاهرة العظيمة الجميلة، مما بينته وكثيرا مثله مما لم أبين، يصرخ صراخا عاليا لمن كان له سمع أن هذا عيب ... اجعلوها من باب الترف، فأزيلوا من الطرقات هذا الأذى، فما أطمع أن تجعلوها من الإنسانية!
شيخ وشيخ
هأنذا في الريف أضع على أنفي منظار القرية، وقد تركت فوق مكتبي في «الرسالة» منظار القاهرة حتى أعود إليه بعد حين، وكان أول ما وقع عليه في القرية منظاري الجديد بعض ما صنع هذان الشيخان في ضحى يوم من أيام رمضان.
أما أولهما فشيخ من حيث الاصطلاح والملبس، فقد لبث في الأزهر من عمره سنين، ولا يزال في القرية يضع على رأسه عمامة هي كل حجته على العلم والورع، وإن كانت بعض وسائله إلى المال والشبع، وأما ثانيهما فشيخ من حيث العمر، فقد تخطى السبعين منذ سنتين وبعض سنة كما ذكر لي حين حدثني عن سنه ...
جلست أمام داري عند مخرج القرية إلى الحقول، وأنا أعجب كيف يغدو الفلاحون إلى أعمالهم صابرين، وقد قضى الصوم والحر على كل ما كان من نشاط في بدني، فما أتحرك لكي أبقى في الظل إلا في مشقة وجهد، وبينما كنت أتفكر في أمر هؤلاء المساكين، إذا أقبل علي أحدهم فسلم وجلس القرفصاء إلى جانب كرسي وأسند إلى الحائط ظهره، ونظرت إليه فإذا هو من فرط نحوله وشحوبه أشبه شيء بعود الذرة جف، فاغتدى عودا من الحطب!
وتكلم فقال: «لن ينقذني من الشيخ فلان إلا أنت؛ فقد اضطرتني الحاجة إلى أن أقترض منه منذ شهرين جنيهين ونصف جنيه، على أن أعطيه وفاء لديني إردبا كاملا من القمح الجديد، ولما كنت أستطيع أن أبيع الإردب اليوم بخمسة جنيهات، فقد ألححت عليه أن يأخذ ثلاثة جنيهات؛ ولكنه تمسك بإردب القمح كاملا، وها هي ذي ثلاثة جنيهات ونصف أرجو منك أن تتوسط لدى الشيخ ليقبلها.» ومد الرجل إلي يده بالنقود وهي ترتعش، ولمحت في وجهه من السخط المكظوم ما زاده بؤسا على بؤس ... ولكنني أخذت منه قيمة الدين ورددت إليه جنيها، فنظر إلي دهشا وسكت.
ومضيت إلى الشيخ وفي خاطري خيال «شايلوك» يهودي شكسبير، وسلمت، وقلت: إن فلانا ذو عسرة؛ وقد توسل إلي أن أؤدي عنه ما عليه لك من دين ، ومددت إليه يدي بجنيهين ونصف جنيه فحسب، فما إن عدها حتى اصفر وجهه وتكره لي كأني أشتمه، ثم أخذته حيرة من أمره، وتمتم وعبس وتأفف، ودس المال في جيبه وهو يلعن هؤلاء الفلاحين الذين لا أمانة لهم ولا عهد ولا ذمة، وتعجبت أو تظاهرت بالتعجب وقلت متجاهلا: ها هو ذا دينه يؤدى إليك، فنظر إلي نظرة كلها لؤم وخبث يتبين ما إذا كنت أعلم شيئا عن قصة إردب القمح، ثم تركته في غيظه وألمه ينتفض انتفاضة من لدغته عقرب، ويقسم أغلظ القسم أن لن يعين أحدا من هؤلاء الفلاحين ناكري الجميل بعد اليوم ...
ومررت أثناء عودتي بدار «عم محمد» النجار، فأبصرته في مدخل الدار وبين يديه أدوات عمله وبعض أشياء من الخشب كان يصلحها؛ فسلمت على الشيخ فنهض للقائي في خفة ودعاني إلى الجلوس، فجلست بجانه على حصيره وهو يكرر في بشاشة وترحاب قوله: «رمضان كريم.» وإنه ليعلم أني أحبه كما أعلم أنه يحبني ويأنس إلي، وقلما رآه أحد من القرية يقبل على امرئ أو يهش له كما يقبل علي ويهش لي، وذلك أن هذا النجار الشيخ على فاقته الشديدة يظن الظنون بمن يراهم أكبر منه قدرا أو أكثر منه مالا؛ لأنه يكره أشد الكره أن يتكبر عليه أحد مهما بلغ من جاهه أو ثرائه، والويل كل الويل لمن يغلظ له في القول من أعيان القرية، فإنه عند ذاك ينقلب من شيخ وديع هادئ إلى نمر شرس هائج لا يخيفه شيء، وقد أحس الشيخ أني أكبره وأحب حديثه فخفض لي جناحه وبسط لي مودته.
ونظرت إلى وجهه المسنون وإلى عينيه البراقتين وهو يصلح بعض أدوات الزراعة، وكأنما يزداد هذا المحيا بشاشة ونضرة كلما علت بصاحبه السن، وأراد أن يعتذر إلي من عدم انصرافه عن العمل احفتاء بي كما كان ينبغي في رأيه، فقال إنه يصلح هذه الأشياء الزراعية الصغيرة بغير أجر في رمضان من كل عام؛ ليغنم الثواب مضاعفا على الصوم، وهو لا يحب أن يخلف الوعد، فعما قليل سيأتي أصحاب هذه الأدوات ليأخذوها، وأثنيت عليه ما وسعني الثناء، فقال إنه يحمد الله على العافية وأنه يرى أعظم أنعم الله عليه أنه لم يقف مرة واحدة موقف الحاجة من أحد، وأنه لا يذكر لأي امرئ يدا عليه حتى أولاده الأربعة الذين يعيشون كل في داره عيشة هي أوسع من عيشته، ونظر إلي مبتسما وقال: إن خير ما أدعو لك به وأنا أحبك، أن يديم الله عليك العافية وألا تحتاج يوما إلى إنسان ...
Halaman tidak diketahui