غيضن من عبراتهن وقلن لي
ماذا لقيت من الهوى ولقينا
ولكن الإنجليز لم يكونوا يقولون لهذا العاشق المهيم المتيم الولهان في ذلك الوقت: ماذا لقيت من الهوى ولقينا؟ وإنما كانوا يذكرون له الشركة التي تقوم على المساواة بين الند والند، والاستقلال الذي يظفر به السودانيون بعد الاستفتاء، والجلاء الذي يمكن أن يتحقق بشرط أن تستبقى المطارات والقواعد البحرية ... وما زال ذلك العاشق يترجح بين القرب والبعد، وبين الأمل واليأس، حتى تقطعت به الأسباب، وأغلق من دونه الباب، ووكل بليله ونهاره العذاب، وأقبل سياسي مصري آخر تقدمت به السن وسكتت عنه دواعي الهوى. ولكن القارئ يذكر أن عمر بن أبي ربيعة قد عاوده الهيام حين رأى عاشقين فقال:
وذو الشوق القديم وإن تسلى
مشوق حين يلقى العاشقين
وإذا سياسينا الجديد القديم، الشيخ الشاب، يمتحن بمثل ما امتحن به سلفه، فيشقى من العشق بمثل ما شقي به. ولكنه أوسع من سلفه حيلة وأمضى منه عزما وأقدر منه على وصل الأسباب حين تتقطع، وتجديد الثياب حين تتمزق ويدركها البلى. وهو من أجل ذلك قد بلغ ما لا يبلغه سلفه، فما زال يدعو ويلح في الدعاء، ويرجو ويمعن في الرجاء، حتى استجيب له، فأقبلت رسل الحبيب تحمل إليه شعاعا من أمل وبريقا من رجاء، وكان كريما، فلم يستأثر وحده بكل شيء، وإن استأثر بأعظم الحظ، فقد جمع من حوله العشاق والمتيمين، وأتاح لهم شيئا من لقاء الرسل، مرة أو مرتين أو مرات، واختص نفسه باللقاء المتصل والحديث المتجدد والنعيم المقيم.
ولكن الحب كما علمت أطوار؛ فيه الرضا والسخط، وفيه الأمل واليأس، وفيه القرب والبعد. وقد اختلفت هذه الأطوار نفسها على هذا الحب السياسي البديع؛ فاتصلت المفاوضات حتى استيقن الناس أنها منتهية إلى غايتها، وأن مقدم الحبيب البعيد بشخصه القريب برسله واقع لا شك فيه.
فقد كان يقال إن المستر بيفن سيشرف مصر بزيارته للقاء الأحباء وإمضاء المعاهدة، ثم انقطعت المفاوضات حتى استيقن الناس أن مقدم الحبيب البعيد بشخصه القريب برسله ميئوس منه لا أمل فيه. ثم جعلت المفاوضات تتصل وتنقطع، وتتجدد وتبلى، حتى ضجر الشعب وملت كثرة العاشقين إلا جماعة هم الذين يحسنون العشق ويعرفون للحب حقه ويرون ظلم الحبيب - بضم الظاء - كظلم الحبيب بفتح الظاء؛ فهؤلاء يحبون عذاب الحب، ويستلذون ألمه ويسعدون بشقائه وينعمون بجحيمه ويأبون أن يجد اليأس إلى قلوبهم سبيلا. أبى الحبيب أن يقدم ودعا رسله إليه، فما لهم لا يسعون هم إلى الحبيب! وما لهم لا يجشمون أنفسهم المصاعب والأهوال في سبيل اللقاء! وقد قيل لهم إن الحبيب مزمع رحلة بعيدة إلى ما وراء المحيط، فقال قائلهم: فلنسرع إليه قبل أن يرتحل. وغنى مغنيهم قول العاشق العربي القديم:
ألما بمي قبل أن تطرح النوى
بها مطرحا أو قبل بين يزيلها
Halaman tidak diketahui