خلقا من جفائه مستجدا
اغتدى راضيا وقد بت غضبا
ن وأمسى مولى وأصبح عبدا
وربما كان أخص ما يمتاز به الحب أنه صلة بين طرفين أحدهما قوي دائما والآخر ضعيف دائما، أحدهما يدل ويتيه والآخر يذل ويستكين، أحدهما يتحكم ويتجنى والآخر يتوسل ويتمنى، ولا سبيل إلى غير ذلك. فلو قد أتيح للمحبين حظ متشابه متساو من القوة لما أمكن أن يلتقيا، ولفسد أمرهما فسادا عظيما. فقوام الحب نعيم لا يكاد يتجدد حتى يتبدد، وجحيم لا يكاد يملأ النفوس يأسا وقنوطا حتى ينجاب عنها فيردها إلى الأمل والرجاء. وقوام الحب أيضا أن بين المحبين أسبابا تمتد وتشتد حتى توشك أن تنقطع ثم تسمح وتلين، فإذا العبوس قد صار إلى ابتسام، وإذا البكاء قد صار إلى ضحك، وإذا العذاب قد صار إلى نعيم.
وقوام الحب كذلك أنه تردد بين جنة ينعم فيها العاشقون بما لا عين رأيت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب إنسان - وإن كان كل الناس يستمتع بنعيمه هذا وقتا ما - ونار يصلى فيها العاشقون عذابا أليما مهينا ينغص يقظة النهار ويذود نوم الليل. وهذا هو الذي جعل الحب خلاصة ما في الآداب كلها على اختلافها في الزمان والمكان واللغة من فن شائق رائق وجمال رائع بارع.
وقد يدهش القارئ لكل هذا الحديث عن الحب وأطواره وآثاره وظواهره ومظاهره، وقد يسأل ما الذي دعا إليه وما الذي يراد به؟ وقد يزداد دهش القارئ وقد يدفعه هذا الدهش إلى الضحك والإغراق في الضحك حين يعلم أن حديث المفاوضات هو الذي دفعني إلى التفكير في الحب وأعراضه وأمراضه، ودفعني إلى ذلك دفعا لا تعمد له ولا تكلف فيه!
فقد يخيل إلي أن بين فريق من ساستنا وبين فريق من الإنجليز حبا ليس أقل خطرا ولا أيسر أثرا من هذا الحب الذي تغناه البحتري وتغناه غيره من الشعراء في كل مكان وفي كل جيل. فمن المصريين قوم لا يصبرون على هجر الإنجليز؛ وإنما يجدون في هذا الهجر العذاب كل العذاب والتباب كل التباب، تظلم له حياتهم إظلاما حتى يضيقوا بالحياة وتضيق بهم الحياة، وإذا هم يبتذلون في سبيل الوصل كل عزيز، ويمتهنون كل كريم، ويقولون كما كان يقول البحتري لحبيبه:
أتراني مستبدلا بك ما عش
ت بديلا أو واجدا منك ندا
حاشا لله! أنت أفتن ألفا
Halaman tidak diketahui