ينصرف الزوجان وقد أعلن إليهما ميشيل أنه مستأنف سفره إلى آسيا الصغرى؛ لأنه كلف البحث عن الآثار فيها، فإذا خلا إلى صاحبته سألته عن هذا السفر، فلا تلبث أن تتبين أن مصدره الحب، فهو يحبها ويعلم أن ليس له عليها سبيل، وأنه لا يستطيع الحياة في باريس مع هذا الحرمان، ولكنها أيضا تحبه ولا تفهم أن يفترق المحبان مهما يحتملا من الخطوب، فكل شيء أهون من الفراق ... وهي تلح عليه في أن يبقى ليكون لها أملا وعونا على احتمال الحياة، هو يريد ذلك، ولكنه لا يستطيعه؛ لأنه شديد الغيرة يؤذيه أن يرى زوجها، وأن يفكر فيما بينه وبينها من صلة الزواج، هنا تعده بما يهدئ غيرته، تعده بأنها لن تكون لزوجها أبدا، وأنها ستستأنف حياة العذارى، تعد وتقسم، فيطمئن وينصرف وقد وعد بالبقاء.
تلبث وحدها حينا، ثم يعود زوجها فيدخل دون أن تشعر بعودته، ولكنه قد عاد لطيفا ظريفا فهو يتملقها، ويتحبب إليها، ويريد أن يخاصرها، وأن يرافقها إلى غرفتها، فتدفعه دفعا شديدا، ثم تفلت منه إلى حيث تستخفي، وتوصد من ورائها الباب، فينطلق لسانه مغضبا بهذه الجملة: «ستدفعين ثمن هذا.» •••
فإذا كان الفصل الثاني فقد مضت أشهر على هذا الموقف، وازداد الأمر فسادا بين الزوجين، انقطعت بينهما كل صلة حتى استيأس الرجل، وظن بامرأته المرض أو الجنون، فأزمع أن ينقلها من باريس إلى الريف، وأقبل يعلن إليها ذلك على أنه أمر لا يقبل المناقشة ولا الجدال، ثم يتركها لتفكر، ولكنها لا تريد أن تفكر، ولا تريد أن تأتمر، وإنما تريد أن تفارق زوجها، تفارقه بالطلاق إن رضي بالطلاق، وبالموت إن رفض الطلاق.
وتأتي أختها فلا تبلغ من تهدئتها شيئا، وإنما تقتنع بوجوب الطلاق، وتأخذ نفسها بالسعي فيه، تذهب لتلقى الزوج، وتتحدث إليه في الطلاق، ويأتي ميشيل فإذا هو لا يطيق صبرا على هذه الحال، وإذا هو قد اعتزم السفر من جديد، فتضرع إليه أن يبقى، وتنبئه بأنها جادة في الطلاق، وأنها ستظفر به وستكون له زوجا، وإن ذلك قد يتقرر الآن، فلينتظر ولينتظر في مكان قريب لتستطيع أن تنبئه النبأ بعد حين.
ينصرف الفتى وقد تمت بينهما الخطبة، وتأتي أختها فتنبئها بأن زوجها يرفض الطلاق، ويأتي الزوج نفسه فيعلن إليها في عنف وشدة أنه لن يطلقها مهما تفعل، وأن القانون يؤيده في ذلك، فهو لم يقترف إثما، ولم يسئ إلى زوجه، وإنما أدى واجبه كما ينبغي، وإذ كان قد أدى واجبه فهو يحتفظ بحقه، وبحقه كاملا، لا يريد أن يطلق، ولن يطلق مهما تتكلف زوجه من حيلة أو نذير.
وفي الحق أن زوجه تتكلف الحيلة فتضرع وتستعطف، ثم تنذر باقتراف الآثام، ثم تضرع وتستعطف فلا تجد منه إلا إباء ورفضا، يتركها وقد أعلن إليها إصراره على أن ينقلها من باريس، يتركها وقد ملكها الغيظ ، ثم الهلع، ثم شيء يشبه الذهول، فتسرع إلى الباب وتدعو صاحبها، فإذا أقبل تلقته بهذه الجملة: «أما أنت فافعل بي ما تريد.» •••
فإذا كان الفصل الثالث فقد مضى على هذا الموقف عشر سنين، ونحن في قصر من قصور الريف يعيش فيه الزوجان، وقد عاد إلى حياتهما شيء من الهدوء والدعة، ويعيش بينهما غلام في العاشرة، فأما الزوج فسعيد مغتبط، يعلم أن زوجه لا تحبه، ولكنه يعلم أنها قد عادت إلى الطاعة، وهذا يكفيه، وأما امرأته فكئيبة، كاسفة البال، لا تبسم لشيء، ولا تحفل بشيء، ولا تحيا إلا لابنها.
وقد نزل على الزوجين ضيفان، هما بولين وزوجها، فترى الرجلين يتحدثان فيذكران ما كان منذ عشر سنين، ولكنك تشعر بأن هناك خلافا جديدا قد نشأ بين الزوجين وهو شديد الخطر. أشرف الغلام على العاشرة فلا بد من أن يذهب إلى المدرسة، وأمه تأبى ذلك كل الإباء، وستفتح المدرسة غدا، فلا بد من إرغام الأم على فراق ابنها، والأب مصر على أن يسلك في هذه المسألة مسلكه في غيرها من المسائل، على أن يحتفظ بسلطته الأبوية كما احتفظ قديما بسلطته الزوجية، ثم ينصرف صاحبه ويبقى هو، وتقبل الأختان فيتركهما حينا لأمر ما، فتذكران الماضي، وتفهم من حديثهما أن ميشيل قد مات؛ لأنه كان مسلولا قد ورث السل عن أبيه، فإذا ذكر لفظ السل رأيت على وجه الأم وفي لفظها ألما ظاهرا، ثم يقبل الصبي فإذا هو نحيف ضعيف، وإذا هو يذكر سفرا قريبا قد وعده به أبوه، فلا تحفل أمه بشيء من ذلك، وإنما تأخذ في مداعبته وتأنيبه؛ لأنه عاد إليها قذر الثياب، وقد كان نظيفا، وهي في هذا إذ يقبل الزوج فينصرف الغلام مع خالته لتصلح من أمره، ويتحدث الزوجان في أمر الغلام والمدرسة، فتأبى الأم، وتلح في الإباء، ويريد الأب، ويلح في الإرادة، ثم يستحيل الأمر بينهما إلى العنف، فإذا أعلنت أن ابنها ضعيف رد الأب بأنها مصدر ضعفه؛ لأنها تسرف في العناية به، وإذا أعلنت الأم أن الأطباء يلحون في حاجة الطفل إلى أمه رد الأب بأنها قد أفسدت الأطباء، ثم يعلن إليها آمرا عنيفا، أن الغلام يجب أن يسلك سبيل أبيه، وأن ينشأ كما نشأ، وأن يذهب إلى المدرسة، وأنه ذاهب إليها الليلة، وأن عليها أن تعد متاع الطفل أثناء يأمر هو بإعداد العربة.
هنا تثور الأم، وتعلن إليه في ثورتها أن الطفل ليس ابنه! لا يكاد الرجل يصدق، ولكن الحقائق البينة لا تزال تفجؤه واحدة بعد أخرى، حتى يتبين أن امرأته قد خانته، وأن الطفل ليس ابنه، وهو لا يعلم من أبو الطفل، ولكنك أنت قد علمت من أبوه.
فانظر إلى هذا الرجل العنيف القاسي الذي لم تكن تعرف الرحمة ولا الضعف إلى نفسه سبيلا، هو الآن يبكي لأنه قد جرح في كبريائه، هو يبكي وزوجه جامدة العين مرفوعة الرأس؛ لأنها الآن ليست زوجا وليست امرأة خائنة، وإنما هي أم بائسة تدافع عن ابنها، ويقبل الصبي فرحا مبتهجا فيسأل: متى السفر؟ فإذا رأى الرجل يبكي والمرأة تنتصر سأل: ما بال أبيه يبكي الآن ولم يكن يبكي قط؟ وما بال أمه لا تبكي وقد كانت حياتها بكاء؟ تجيبه أمه: لأني فقدت الدموع يا بني، ثم تصرفه، ويخلو الزوجان أو العدوان، فإذا الرجل يطلب الطلاق وإذا المرأة تأباه، يطلبه لأنه أهين، وتأباه لأنها تريد أن تحتفظ بمستقبل ابنها، وإذا الرجل مرغم بحكم القانون على أن يعترف ببنوة هذا الطفل الذي ليس له، وإذا هو مرغم بحكم الأوضاع الاجتماعية التي يقدسها على ألا يعلن إلى الناس أن امرأته خانته، وأنه عاش في الخيانة عشر سنين.
Halaman tidak diketahui