وتصورت في خياله القرية التي مس ترابها جلده منذ ربع قرن، والتي لا يذكر - لبعد العهد - متى هاجر أهله منها إلى المدينة؟ ولمه ...؟ لا شك أنه سيجد هناك من جدة العيش وطرافته ما يحمل عن صدره أثقال الهموم، ويهدي إلى نفسه الموحشة بعض الأنس والهدوء والدعة.
وتراقصت أمام عينيه صورة جذابة من حياة القرية ويسر الحياة فيها بعيدا عن أسر التقاليد وتكاليف الحضر، وحضرته ذكريات حلوة من زياراته القليلة لأخته في القرية، فذكر مجالسه مع شبانها على حافة الساقية تحت شجرة التوت الغليظة تساقط عليه ثمرا شهيا، ورياضاته في جلبابه الفضفاض تحت المعطف الأبيض على شاطئ الترعة وبين الحقول، يتملى بجمال القرويات غاديات رائحات من الترعة وإليها أسرابا أسرابا يجررن الذيول ويحملن الجرار على رءوسهن ويهمسن بالغناء الساحر تسيل في نبراته الرقة والعذوبة والحنين. وذكر مجالس الأنس والسمر في الليلة المقمرة على مصطبة الدار وحديث القرويين يتنقل في لذة وسحر بعيدا عن التزويق والادعاء الفاخر ... وزهته مظاهر التبجيل والاحترام التي تحيط به هناك!
وفي اليوم التالي كان القطار يغذ السير بتوفيق إلى القرية، وقد أشعل بين إصبعيه دخينة وسبح في أحلام لذيذة بهدوء القرية وسحر بناتها ...
وتلقته أخته بالترحيب والعناق، وجلست إليه قليلا تحدثه ويحدثها، ثم تركته لتهيئ له الطعام بيدها، طعام القرية الشهي الدسم اللذيذ. وتوافد عليه عارفوه وشبان أسرته يحيونه ويتجاذبون وإياه أطراف الحديث، يقطعون بين فتراته بالتحية المكررة والسؤال عن الصحة والأحوال ...!
وخرج معهم في العصر يطوف بأزقة القرية يتعرف الوجوه والأبنية، واخترق سبلا وعرة بين الحفر وكومات السماد، وبيوت متواضعة متقاربة كأنما تدانت للعناق! وانتهى به المطاف إلى دار له بها عهد؛ لأن صاحبها من ذوي قرابته؛ واجتمع لفيف من شبان القرية وشيوخها يبعثون التاريخ، ويتناولون أنباء القرية وحوادثها، وأنباء السياسة أيضا؛ وإن لهم في السياسة لأحاديث لا تخلو من حكمة وبعد نظر!
وأعجب توفيق بحديثهم كما تعجب بحديث الطفل؛ فأنصت إليه في لذة وأنس، كما يستمع السائح المؤرخ إلى خرافيات دليله الجاهل عن سر أبي الهول وأطياف وادي الملوك ...!
وأديرت فناجين القهوة، وانعقدت في جو الغرفة سحائب الدخان، واشتد الحر فأسال العرق على الجباه؛ وشعر توفيق أنه يكاد يختنق، وأن أعصابه تخونه، فهم بالانصراف، ولكنهم ألحوا عليه أن يجلس فجلس.
وأخذوا في حديث الشياطين والجن، فراح كل واحد منهم يحدث بما سمع وما رأى، وتفننت عبقرية الجهل في اختراع القصص المروعة والروايات الغريبة، وطفقوا يعددون الشياطين بأسمائها وحوادثها وضحاياها ... وأشار «الشيخ» بيده فأنصتوا ومالوا برءوسهم إليه، وقد أخذ شاربه يرقص وترتجف شفتاه في انفعال عصبي، وشرع يقص على الحاضرين قصة العفريت الذي كان يتسور عليه البيت وهو شاب ليالي متتابعة، فيقاسمه طعامه وشرابه، وفراشه أيضا، فلا ينصرف إلا مع أذان الفجر، والزنجية الحسناء التي كانت تصحب العفريت ليالي، فتحتل موضعه من الفراش وتضطره أن يقضي الليل معقودة يداه خلف ظهره ورأسه بين ركبتيه إلى حائط الدار، ثم لا يفارقه العفريت وصاحبته قبيل الصباح إلا بنفحة من دراهم أو عصوين من نار تلهبان ظهره؛ جزاء رضاه أو سخطه على ما يصنعان ...
وكان حديثا غريبا على الضيف، فحاول أن يفلسف وينكر ويعلل، ولكنهم أنكروا منه ذلك، وطلبوا إليه التسليم أو يتعرض لغضب الشياطين وأذاهم؛ وكانت أعصابه مهيأة للتسليم فسكت. واستمروا يتحدثون ...
وأحس رعدة خفيفة تتمشى في جسده، فسحب رجليه في هدوء فدفنهما في أطراف ثيابه، وجمع يديه في حجره، ومال إلى المحدث يستمع إليه هادئا منصتا في شبه إيمان. لقد حطمت هذه الليلة الصاخبة أعصابه، وهاجت وساوس نفسه المريضة.
Halaman tidak diketahui