عرس القرية
كانت «راجية» تعلم أنها مفارقة المدينة غدا، ما من ذلك بد؛ لقد حاولت ما حاولت أن تنسأ الأجل إلى الرحيل فلم تظفر بطائل، وافتنت في الاحتجاج لرأيها ما افتنت فلم يستمع لها أحد. وأجمعت الأسرة أمرها على السفر إلى الريف؛ لتكون بمنجاة من ويلات الحرب ... حقا؟ أيكون الريف أبعد من المدينة عن ويلات الحرب؟ هكذا زعم أبوها وأخوها وليس لرأيهما معقب ...
وراشت راجية آخر سهم في كنانتها؛ فاصطنعت العزم والقوة، وتماسكت من ضعف ورخاوة، وقالت: «ولكن، يا أبي، إن للوطن علي حقا يقتضيني الوفاء. ليس من المروءة أن أفر والوطن يدعوني إليه ... ينبغي أن أبقى لأقوم بواجبي في التمريض والإسعاف إذا لم تكن لي طاقة بحمل السلاح للدفاع والمقاومة، ينبغي ...»
وقاطعها أبوها: «نعم، ينبغي، ولكن واجبك هناك، في القرية؛ إن إخوتك وأخواتك هناك في حاجة إلى التمريض والإسعاف أكثر من جرحى الحرب!»
وابتسم ابتسامة عابسة؛ لقد كان يعلم أي فتاة هي في رخاوتها وضعف احتمالها، ولكنه يقاوم حجة بحجة ...
وصمتت الفتاة برهة وهي تنقل النظر بين أبيها وأخيها وأمها، ثم همت أن تتكلم حين ارتفع صوت المذياع يعلن أنباء الحرب في الميدان القريب، ويصف مواقع القتال على الحدود في الصحراء الغربية. ثم سكت المذياع، وتلاشى الصدى في الغرفة المغلقة على أربع أنفس قلقة مضطربة تتنازعها أهواء وعلل وآمال على خشية وحذر ورقبة. وقال الفتى بعد صمت: «لقد بدأت البادئة فما بد من الخاتمة ...!»
وحدقت أمه في وجهه مذعورة، وهتفت: «صلاح، أتعني ...؟»
قال صلاح: «نعم يا أمي؛ إنه فرض علي يجب أن أتهيأ للوفاء به.»
وأطرق أبوه وشفته تختلج، وعم الجميع الصمت ... وشعرت راجية لأول مرة أنها بإزاء أمر خطير يقتضيها أن تفكر في هدوء وروية ... وعادت تنظر إلى أبيها وأخيها وفي عينيها سؤال ليس معها جوابه، وأحست إحساس المفارق يودع أحبابه إلى حيث لا يدري متى يكون اللقاء، ووجدت حاجتها إلى الدمع فأسرعت إلى خلوتها!
وأغفت راجية لحظات واستيقظت ذكرياتها وأمانيها، فتعاقبت عليها الرؤى والأحلام، ثم أصبحت ... ونسيت ما كان من حديث الأمس ومن خبره، فلم تعد تذكر شيئا إلا أنها مفارقة المدينة بعد قليل لأمر لا تكاد تعرف له وجها ولا علة، وأنها لن تذهب إلى السينما بعد اليوم، ولن تلقى أصدقاءها وصديقاتها، ولن تستمتع بما كانت تستمتع به من اللهو حين كانت تخرج كل يوم إلى رياضتها بين حدائق الجيزة والجزيرة ومصر الجديدة، وحضرتها صور عدة، وانثالت عليها ذكريات ... وذكرت ... إن ثيابها الجديدة ما تزال عند الخياطة لم تفرغ منها بعد، وقد كانت حقيقة بأن تفرغ منها منذ أيام لولا أن راجية كانت تؤثر الروية في تفصيل ثيابها ريثما ترى أحدث الأزياء فتقيس عليها. ماذا تفعل اليوم؟ أف للحرب! لولاها لكانت اليوم - على عادتها في كل سنة - جالسة تحت الشمسية الظليلة على شاطئ سيدي بشر، أو رائحة غادية في معرض زينتها بين كليوباترا وخليج ستانلي. ولكن الإسكندرية اليوم منطقة حرام، فمن ذا يخاطر بعمره بين الموت الأحمر من أجل ساعة على الشاطئ العريان؟ ومن ذي تحاول أن تشتري بعمرها كلمة إعجاب من شاب طائش تستهويه بزيها وزينتها؟ ... ثم ذكرت القرية ... ياه! منذ كم لم تذهب راجية إلى القرية؟ القرية التي نمتها ونمت أباها وما تزال تغذوهما بخيرها وبرها الدائم على عنف ما تلقى منهم من العقوق ونكران الجميل!
Halaman tidak diketahui