وتصرمت بضع سنين لم تره زوجته ولم يرها. أما هي فعاشت هناك صابرة قانعة بما يرسل إليها كل شهر من نفقة، تمسي وتصبح حالمة بالدار والنخيل والمزرعة، ويوم تكون ويكون؛ وأما هو فتبدلت حياته بما تبدل من حاله، وأجدت له النعماء أماني فأنسته أماني، وعاش لنفسه ولماله!
وشب الغلام واخضر شاربه، ونهدت البنت وكعب ثدياها، وشابت الأم وتخدد لحمها، ولكن شباب قلبها لم يزل يجد لها أملا بعد أمل، وينشئ لها في كل مشرق شمس ومغربها حنينا ولهفة؛ والرجل هناك يبيع ويشتري ويتعوض ويراوح بين جنبيه من فراش إلى فراش ...!
وفجأة، أظلمت القاهرة بعد نور، وهمدت بعد نشاط، وسكنت بعد حركة، ونعب النذير يوقظ النائم ويحرك الساكن ويبدد الشمل المجتمع ليجمع الشمل المتفرق؛ وكسدت سوق همام بعد نفاق، فأزمع الغريب الإياب!
لم يعد همام في هذه المرة إلى القرية على رمث في البحر تدفعه الريح، ولم يكن على كتفه خرج فيه زاده ومتاعه، ولم تكن رحلته طويلة موحشة تقاس بالليالي والأيام، ولكنه عاد في القطار السريع يصحبه أنيس غير مملول، في يمناه حقيبة سفره، وفي يسراه زوجته الحضرية المصقولة!
وكانت «مسعدة» وولداها ينتظرونه لميعاده ... ونظرت امرأة إلى امرأة ثم أغضتا، أما واحدة فصبرت وشكرت؛ لقد سلخت شبابها متزوجة ولا زوج لها، فإنها لنعمة أن تظفر اليوم بنصف زوج ...! وأما الأخرى فحنقت وسخطت؛ لقد كان لها زوج يؤثرها ففقدت نصفه!
وأغلق الباب على رجل وامرأتين؛ وعرفت كل واحدة منهما مكانها من صاحبتها ومن صاحبها؛ أما مسعدة فراحت تتحبب إلى صاحبتها وتتعبد لها لتنال رضاها ورضا همام، وأما صاحبتها فراحت تشمخ وتتأمر لتتسلط وتحظى؛ واقتسمت المرأتان الدار، فواحدة لها الفراش وواحدة للمهنة والعمل؛ وقالت المرآة لكل منهما: لقد عرفت مكانك ...! ولكن أحظاهما كانت أسخط لحظها وأشقى؛ لأنها لم تألف الحياة في القرية ولم ترض الشركة في رجل ...
وأصبح همام ذات صباح فإذا امرأة واحدة في الدار وقد فرت الأخرى ... وثارت نخوة الرجل وغضب لعرضه غضبة أهله، فأزمع أمرا؛ وغضب الولد لأبيه وأقسم ليغسلن العار بالدم ... ... وعاد «حمدان» بن همام من القاهرة بعد أيام وسكينه يقطر دما ... واستقبله أبوه مزهوا فخورا فضمه إليه وقبل جبينه، واستقبلته أمه وأخته ...
وجلست الأسرة الأربعة مجلسهم لأول مرة، مجلسا لم يجمعهم مثله منذ كانوا على صفاء ومودة، وقالت مسعدة: «همام ...!»
وكان في عينيها عتاب وفيهما رضا واطمئنان.
وقال همام: «مسعدة! معذرة إليك؛ إنك أنت وحدك ... وكانت غلطة ...!»
Halaman tidak diketahui