واجتازا طرقات القرية صامتين، يسوق إبراهيم ماشيته، وتحمل زاهية مكتلا على رأسها وقد تلفعت من البرد بلفاع قديم أسود.
وأشرفا على الحقول المزروعة تهتز فيها سنابل القمح الخضراء على سوقها الدقيقة كما تتكسر أمواج البحر على الشاطئ هادئة لينة، وتبرق قطرات الندى على أوراق البرسيم صافية كحبات اللؤلؤ، ويفوح العطر من زهر الفول عبقا ريان، والفتى والفتاة يسيران في طريقهما على حافة القناة.
ومد إبراهيم نظره إلى بعيد يتبين فتاة مقبلة عليهما، وكانت هي نعيمة ... وأحست زاهية شيئا يجيش في أعماقها حين رأت خطيبها يقبل على الفتاة مبتسما، وفي عينيه بريق زعمت زاهية لنفسها أنها تفهم معناه!
واجتمعت في صدرها الوساوس، ونهشتها عقارب الحقد والغيرة حين ملأت عينيها من الفتاة، وقد خلع الصباح على وجهها من روائه وإشراقه ...
لم تكن زاهية تحب إبراهيم حب الأثرة، ولكنها مع ذلك لم تكن تحب أن ينظر إلى غيرها هذه النظرة التي رأتها في عينيه وهو يحيي نعيمة؛ وودت في تلك اللحظة لو أمكنتها الفرصة لتثأر وتنتقم ...!
آه! لو أقبل «سرحان» في تلك اللحظة! إذن لأذاقت زاهية إبراهيم مرارة الغيرة في ابتسامة وتحية ناعمة تقدمهما إلى سرحان!
وانطوت على آلامها تفكر في أمرها وتلتمس الوسائل لتحقيق أمانيها، وعادت الخواطر المظلمة إلى رأسها، وتناهبتها الأفكار السود، وتمثلت لها نعيمة في ذلك الثوب الأنيق، وهذا الوجه المشرق، وذلك الجسم الريان، وتلك الرشاقة الفاتنة؛ وعاد حديث المساء الذاهب يرن في أذنيها موسيقيا عذبا يصور لها القاهرة بما فيها من النعيم والملذات، القاهرة التي تصنع للعذارى الجمال الذي يسبي ويسحر ويصيد قلوب الشباب ويحقق مستحيلات الحب. وأجمعت قلبها على أمر ...!
وسافرت زاهية في اليوم التالي إلى القاهرة، ليس معها بعد أجرة السفر إلا دراهم معدودة، وصرة قد جمعت فيها ثيابها وما تملك؛ ولم تجد ضراعة إبراهيم ولا وسائله في استبقائها شيئا، وما أصاخت إلى ندائه ونصائحه، وخلفته وراءها يبكي خطيبته وابنة عمه، وشرفه الذي عرضته للهوان بسفرها وحدها إلى القاهرة تبتذل نفسها في خدمة الناس غير مضطرة ولا مقهورة!
وعاد الفتى وحده إلى الدار ذليلا منكسرا تفيض نفسه بالسخط والألم، ويجيش قلبه بالحب العميق لزاهية، الحب الذي لم يكشفه في نفسه ولم يعرفه إلا بعد رحيلها. حب مشفق يائس ذليل، تشوبه مرارة الغيظ وثورة الحقد والبغضاء!
ووصلت زاهية إلى القاهرة!
Halaman tidak diketahui