Min Balaghat al-Qur'an fi al-Ta'bir bi al-Guduw wa al-Asal

Muhammad Desouki d. Unknown

Min Balaghat al-Qur'an fi al-Ta'bir bi al-Guduw wa al-Asal

من بلاغة القرآن فى التعبير بالغدو والأصال

Genre-genre

من بلاغة القرآن في التعبير بالغدو والآصال والعشي والإبكار إعداد: الدكتور محمد محمد عبد العليم دسوقي المقدمة الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد: فما من شك فى أن معرفة مواضع ودلالات الألفاظ فى سياقاتها، وبخاصة ما اشتجر القوم فيه واشتد الخلاف على دلالته.. يتوقف أولأً على تحرير معاني تيك الألفاظ في معجمات العربية وقواميسها، كما أن تدبر مواقع لفظة ما، بغية الوقوف على دلالتها ومدى أثرها في نسق الذكر الحكيم، هو من النصيحة لكتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.. وتدعونا هذه التوطئة لأن أقرر أن الحديث عن سر مجيىء النظم الكريم معبَّرًا فيه عن الطرف الأول للنهار بـ (الغدو) تارة، وبـ (قبل طلوع الشمس) أخرى، وبـ (الإبكار) ثالثة، وبـ (بالإشراق) رابعة، ومجيؤه معبّرًا فيه عن الطرف الثاني بـ (العشي) تارة، وبـ (قبل الغروب) أخرى، وبـ (الآصال) ثالثة.. وكذا الحديث عن مقابلة (العشي) بـ (الإبكار) تارة وبـ (الغداة) أخرى وبـ (الإشراق) ثالثة، (ومقابلة (البُكرة) ببعض ما ذُكر تارة وبـ (الأصيل) أخرى.. وكذا مجيؤ تلك المفردات معرّفةً في بعض الأحيان ومنكرةً في بعضها الآخر إلى غير ذلك.. لهو مما يستدعي بل يستوجب الوقوف على أسباب هذا التنوع وعن أسرار مجيئه على الصورة التي ورد عليها، ذلك أن الألفاظ في هذا وما جاء على شاكلته "تختلف ولا تراها إلا متفقة وتفترق ولا تراها إلا مجتمعة، وتذهب في طبقات البيان وتنتقل في منازل البلاغة، وأنت لا تعرف منها إلا روحًا تداخلك بالطرب وتُشرب قلبك الروعة، وتنتزع من نفسك حس الاختلاف الذي طالما تدبرت به سائر الكلام وتصفحت به على البلغاء في ألوان خطابهم وأساليب كلامهم

1 / 1

وطبقات نظامهم مما يعلو ويسفل أو يستمر وينتقض أو يأتلف ويختلف ... فأنت ما دمت في القرآن حتى تفرغ منه، لا ترى غير صورة واحدة من الكمال وإن اختلفت أجزاؤها في جهات التركيب وموضع التأليف وألوان التصوير وأغراض الكلام" (١) . وقد كان دافعي لخوض غمار هذا البحث مع الرغبة في استجلاء أسرار التنوع فيما ذكرتُ، واستكناه الحكمة من وراء اصطفاء هذين الوقتين وانفرادهما - دون سواهما – بالذكر.. ندرة بل لا أبالغ إن قلت انعدام تخصيصه - فيما أعلم - بدراسة مستقلة تكشف عن هذا الكم غير القليل من المترادفات والمتقابلات، ومن عجيب ما لاحظت أن الدراسات التي عنيت بالبحث عن مثل هذا، وحتى التي تناول مصنفوها ما اشتبه من النظم، وأفردوا لأجله العديد من الكتب والمجلدات من نحو ما فعله الإسكافي في كتابه (درة التنزيل وغرة التأويل)، والدامغاني في كتابه (الوجوه والنظائر)، والغرناطي في كتابه (ملاك التأويل)، لم تعرض هي الأخرى لشيئ من ذلك، الأمر الذى دعاني للاعتماد كلية بعد الله أولًا، على ما كتبه أهل التأويل على الرغم من تحفظي على كثير مما ذكروه في هذا الصدد.

(١) إعجاز القرآن لمصطفى صادق الرافعي ص ١٨٨، ١٨٩.

1 / 2

هذا وقد اقتضى الحديث عن طرفي النهار في النسق الكريم وعن طرائق التعبير عنهما وسر تنوعها، أن تأتي تلك الدراسة في ثلاثة مباحث تناول أولها مدلولات هذه الألفاظ وأسباب تنوعها وتخصيصها بالذكر دون سائر الأوقات الأخرى، وجاء ثانيها متحدثًا عما خُص به هذان الوقتان من أمر التسبيح وما إذا كان المعنى فيه محمولًا على ظاهره المعروف في اصطلاح التخاطب من التنزيه ومن قول (سبحان الله) أم غير ذلك من معانيه المستعمل فيها على جهة المجاز، كما تطرق المبحث الثالث للحديث عن المقامات التي ورد فيها التعبير عن طرفي النهار وكيف جاء كلٌّ منها متناغمًا مع ما ناسبه من هذه المتقابلات، ومع ما تلاءم وكان منه بسبب من تعريف أو تنكير ومن تقديم أو تأخير. والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل. المبحث الأول: مدلولات الألفاظ الواردة في معنى طرفي النهاروسر تنوعها وتخصيصها بالذكر مما تجدر الإشارة إليه أنه لا غناء عند تناول أيٍّ من الموضوعات التي تتنوع طرق الحديث عنه، من الوقوف أولًا على معاني المفردات المعبرة عنه، وبخاصة عندما يتم التقابل بين بعضها البعض، إذ بغير الوقوف على دلالة هذه المتقابلات، بل وعلى دلالة كلِّ مفردة مما احتوته واشتملت عليه لا يتسنى بحال استكناه ما بسياقاتها، ولا بحث ما بأسرار تنوعها وبلاغة مواقعها. والحق أن المفردات التي عُبر بها عن طرفي النهار وقوبلت بأضدادها تمثل في موضوعنا هذا لآلئ متقابلة، نُثرت حباتها المتطابقة في النسق الكريم هنا وهناك، في نظام بديع هو غاية في الدقة والإحكام. تحرير القول في معنى ما ورد في طرفي النهار:

1 / 3

ولتكن البداية تتبعًا لمعاني أكثر هذه الألفاظ ورودًا في النظم القرآني، وهي كلمة (العشي) .. فقد وردت هذه الكلمة المراد بها آخر النهار في مقابلة أوله تسع مرات، أربعا منها قوبلت بـ (الإبكار) وذلك في قوله سبحانه: (واذكر ربك كثيرًا وسبح بالعشي والإبكار.. آل عمران/٤١)، وقوله:) فأوحى إليهم أن سبحوه بكرة وعشيًا.. مريم /١١)، وقوله: (لا يسمعون فيها لغوًا إلا سلامًا ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيًا.. مريم /٦٢)، وقوله: (واستغفر لذنبك وسبح بحمد ربك بالعشي والإبكار.. غافر/٥٥) .. وثلاثا قوبلت فيها بلفظة (الغدو)، وهي قوله: (ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي.. الأنعام/٥٢)، وقوله: (واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي.. الكهف/٢٨)، وقوله: (النار يعرضون عليها غدوًا وعشيًا.. غافر/٤٦) .. كما قوبلت مرة بـ (الإشراق)، وذلك في قوله: (إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والإشراق.. ص/١٨) وأخرى بالإظهار، وذلك في قوله: (فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون. وله الحمد في السموات والأرض وعشيًا وحين تظهرون.. الروم/١٧، ١٨)، وقدمت كلمة (العشيّ) في هذه المرات التسع أربع مرات، وتأخرت عن أضدادها في الخمس المتبقية. والعشي في أصله من العشا وهو سوء البصر بالليل والنهار من غير عمى، ويكون في الناس والدواب والإبل والطير (١) يقال: (ركب فلان عُِشوة): إذا باشر أمرًا على غير بيان (٢) ومن أمثالهم السائرة: (هو يخبط خبْط عشواء)، يُضرب مثلًا للسادر الذي يركب رأسه، ولا يهتم لعاقبته، كالناقة العشواء التي لا تبصر فهي تخبط بيديها كلّ ما مرت به، وشبه زهير في قوله: رأيت المنايا خبْط عشواء من تُصبْ تُمِتْه ومن تخطىء يُعَمِّر فيهرِم

(١) ينظر لسان العرب ٤/٢٩٥٩. (٢) أساس البلاغة ٢/١١٨.

1 / 4

شبه المنايا التي مُثّلت في صورة شاخصة للعيان وهي تطيح بكل ما اعترض طريقها فتأخذه دون ما مساءلة ودون ما استثناء، بالجمل الذي يخبط خبط عشواء.. وتتعدى تلك المفردة بنفسها فيقال: عشوته أي قصدته ليلًا، وتُعدى بـ (إلى) كما في قولهم: (عشا إلى النار وعشاها)، إذا أتى نارًا للضيافة واستدل عليها ببصر ضعيف، و(عشا الرجل إلى أهله يعشو)، إذا علم مكان أهله فقصد إليهم أول الليل، كما تُعدى بـ (عن) إن صدر عنه إلى غيره كما في قول الله تعالى: (ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانًا فهو له قرين.. الزخرف/٣٦)، قال الفراء: معناه من يعرض عن ذكر الرحمن. قال: ومن قرأ (يَعْشَ عن ذكر الرحمن) فمعناه من يعمَ عنه، وقيل أي يظلم بصره (١) . فالمادة على ما هو متضح تدور حول ضعف الرؤية وقِصر النظر في البصر أو في البصيرة، ومن ثمّ أطلقت على ما يتحقق فيه ذلك في الحال أو الزمان، فإذا زالت الشمس فتحول الظلّ شرقيًا وتحولت الشمس غربية دعي ذلك الوقت (العشي)، كذا قال أبو الهيثم فيما نقله عنه صاحب اللسان، وقال الأزهري فيما نقله عنه أيضًا: (يقع العَشِي على ما بين زوال الشمس إلى وقت غروبها، فإذا غابت فهو العِشاء) (٢) .

(١) ينظر لسان العرب ٤/٢٩٦٠. (٢) ينظر السابق.

1 / 5

وهذا فيما أرى أدق مما ساقه صاحب اللسان وصاحب بصائر ذوي التمييز بأسلوب التضعيف (١)، بل وساقه الأصفهاني بدونه من أنه (من زوال الشمس إلى الصباح) (٢)، حيث أفرده الأخير بالذكر في الدلالة على هذا المعنى ولم يذكر غيره.. فإن ذلك يرد عليه ما أفاده سياق الآيات التي جاءت فيها هذه المفردة مع ما قابلها، حيث وقع التسبيح فيهما عطفًا على الذكر المطلق كما في نحو قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرًا كثيراُ وسبحوه بكرة وأصيلًا.. الأحزاب/٤١، ٤٢) والعطف - على ما هو معلوم - يقتضي المغايرة، وعليه فالمعنى- والله تعالى أعلم بمراده- اذكروا الله أيها المؤمنون في كل وقت وخصوا هذين الوقتين بما هو أدل على كمال نعمته ودلائل قدرته وعجيب صنعه بتنزيهه تعالى وتسبيحه.

(١) السابق وينظر بصائر ذوي التمييز للفيروزابادي ٤/٦٩. (٢) المفردات في غريب القرآن للراغب الأصفهاني ص ٣٣٥ وينظر التحرير والتنوير ٧/٢٤٧ مجلد ٤.

1 / 6

كما يرد عليه الآية الكريمة: (ولله يسجد من في السموات والأرض طوعًا وكرهًا وظلالهم بالغدو والآصال ... الرعد/١٥)، إذ وقوع الآصال الذي يفيده، في مقابلة ما يقابله غالبًا وهو (الغدو)، يشير إلى تعيين المراد من العشي، ويوجب أن يكون المراد به ما قبل غروب الشمس لان ظلال الأشياء لا تحدث - كما هو متعالم لدى الخاصة والعامة- إلا فيما بين طلوع الشمس وغروبها.. ويردعليه كذلك قوله تعالى: (وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفًا من الليل.. هود/١١٤) لأن "الإقامة: وهي إيقاع العمل على ما يستحقه، تقتضي أن يكون المراد بالصلاة هنا الصلاة المفروضة، فالطّرفان ظرفان لإقامة الصلاة المفروضة، فعلم أن المأمور إيقاع صلاة في أول النهار وهي الصبح، وصلاة في آخره وهي العصر، ويكون ذلك هو المراد من الغداة والعشي الذي كثر ورودهما في آي التنزيل وفي السنة المطهرة.. والزلف جمع زلفة، وهي الساعة القريبة من أختها، وهذا أيضًا يُعلم منه أن المأمور به، إيقاع الصلاة في طائفة من الليل الذي يبدأ من صلاة المغرب وهي - بالطبع- غير الصلاة التي في طرفي النهار.." (١)، وفي بصائر ذوي التمييز: "قوله: (وأقم الصلاة طرفي النهار) أي الغداة والعشي" (٢)، وفيه: "قوله تعالى: (طرفي النهار) أي الفجر والعصر" (٣)، رُوي ذلك عن الحسن وقتادة والضحاك ونص عليه الزمخشري والبيضاوي (٤) واستظهره أبو حيان بناء على أن طرف الشيئ يقتضي أن يكون من الشيئ، والتزم أن أول النهار من الفجر" (٥) . وعليه فقد "وجب - على حد قول الرازي- حمل الطرف الثاني على صلاة العصر" (٦)، فيكون المراد

(١) التحرير ١٢/١٧٩ من المجلد ٦ بتصرف. (٢) البصائر ٣/٥٠٣ وينظر الكشاف ٢/٢٩٦. (٣) البصائر ٣/٥٠٣. (٤) ينظر الكشاف ٤/٢٠٠ وتفسير البيضاوي بحاشية الشهاب٦/٢٥٦والآلوسي ١٢/٢٣٤ مجلد ٧. (٥) ومن جعله من طلوع الشمس، عدّ الصبح كالمغرب طرف مجازي، وجعْله حقيقة فيهما، هو من زخرف القول لما ذكرنا من أدلة. (٦) مفاتيح الغيب ٨/٦٣١.

1 / 7

به العشي، إذ ليس قبل غروب الشمس سواه. وأصرح من ذلك في دلالة (الطرف الثاني) على (العشي) المأمور فيه بالتسبيح، قوله تعالى في ذات الأمر، وفي إطلاقه على نفس الوقت، (وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها.. طه/١٣٠)، وقوله في سياق مماثل: (وقبل الغروب.. ق/٣٩) إذ ليس قبل الغروب- لتأدية ما صدر الأمر به في العشي من تسبيح- خلا العصر، وعليه فإنه لا يجوز أن يكون المراد من (العشي) صلاة المغرب، على ما هو المختار لدى الطبري وغيره والمروي عن ابن عباس، لأن ما ذكروه يعكر صفوه الأدلة التي سقناها، وكونها داخلة تحت قوله تعالى: (وزلفًا من الليل) (١) اللهم إلا على سبيل الحمل على المجاز فإنه يسوغ حينذاك، "لأن ما يقرب من الشيئ يجوز أن يطلق عليه اسمه" (٢) ولعل الذي حدا بمن ذهب إلى هذا لأن يقول به، ويجعله أحد قولين مشهورين في معنى التسبيح بالغدو والآصال كما سيأتي بيانه، تعذر العمل بظاهر هذه الآية لإجماع الأمة على أن إقامة الصلاة في ذلك الوقت غير مشروعة، فتعين من ثمّ تفسير الطرف الثاني بصلاة المغرب.. وجوابه أن هذا التعين محمول على المجاز، وذلك لا يمنع من أن يكون مراده على الحقيقة هو العصر، وعليه "فإن كان النهار في أول الفجر إلى غروب الشمس فالمغرب (طرف)، مجازًا وهو حقيقةً طرفُ الليل، وإن كان من طلوع الشمس إلى غروبها فالصبح كالمغرب طرف مجازي" (٣) والحقيقة فيه هو ركعتا الضحى، يعضد هذا قوله سبحانه في حق داود ﵇ (إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والإشراق..ص /١٨)، وكذا ما ورد من الآثار ومن أدلة السنة المطهرة مما يفيد أن الإشراق مراد به صلاة الضحى.

(١) مفاتيح الغيب ٨/٦٣١ بتصرف. (٢) السابق. (٣) الآوسي ١٢/٢٣٤ مجلد ٧وينظرالوجوه والنظائر للدامغاني ٢/٤٩.

1 / 8

والأصيل هو في معنى ما ذكر، يقول الزمحشري: "الآصال جمع أُصُل وهي العشي" (١)، وإن كان من فرق بينهما فيكمن في أنه يتوسع في العشي بما لا يتوسع في الأصيل، وفي اللسان: "الأصيل: العشي.. والأصيل: الوقت بعد العصر إلى المغرب" (٢) والجمع أُصُلٌ وأُصلان.. قال الزجاج: آصال جمع أُصُل فهو على هذا جمع الجمع (٣)، وإنما سمي كذلك لالتصاقه واتصاله بما هو الأصل لليوم التالي وأوله.. وقالوا في تصغير الأصيل أصيلانُ وأصيلال على البدل، أبدلوا من النون لامًا، ومنه قول النابغة: وقفتُ فيها أصيلالًا أسائلها عيَّت جواباَ وما بالربع من أحد" (٤)

(١) الكشاف ٣/٦٨. (٢) لسان العرب ١/٨٩. (٣) وحاصل ما ذكره وغيره في (آصال) أنها جمع أُصُل، وأُصُل جمع أصيل فهي بذلك جمع الجمع، أو هي جمع أصيل كيمين وأيمان، أو هي جمع أُصُل مفردًا كعنق وأعناق وهذه تجمع أيضًا على أُصلان. (٤) لسان العرب ١/٨٩ وينظر الكشاف ٣/٦٨ومفاتيح الغيب ١١/٥٩٤ ونظم الدرر٣/١٧٩ والتحرير ٩/٢٤٢ مجلد ٥ ومفردات الراغب ص١٩ والوابل الصيب ص١٩٢ والآلوسي ٩ /٢٢٤مجلد ٦، ١٨/٢٥٨ مجلد ١٠.

1 / 9

ومحصلة ما ذكر أن وقت (العشي) و(الأصيل) هو ما بعد صلاة العصر إلى ما قبيل غروب الشمس وتلك هي حقيقتهما على ما تقضي به لغة العرب وتفيده سياقات الآيات الوارد فيها ذان اللفظان.. وإذا ما أُطلقا – سيما الأخير منهما - على ما بعيد غروب الشمس وهو ما يوافق صلاة المغرب، فإنه يكون على سبيل المجاز المرسل لعلاقة المجاورة، وقد يكنى بهما عن استغراق الشطر الثاني للنهار إذا اقتضاه المقام وأومأ إليه السياق (١) .

(١) وأغرب من قال بأن معنى (العشي) هو ما كان وقتًا لصلاة الظهر قاله مجاهد ومحمد بن كعب القرظي وابن عطية، لـ"أن في جعل الظهر من الطرف الثاني خفاء، وإنما الظهر نصف النهار، والنصف– على حد قول صاحب روح المعاني- لايسمى طرفًا إلا بمجاز بعيد [تفسير الآلوسي ١٢/٢٣٤من المجلد ٧]، وأُضيف بأن لو كان هذا صحيحًا لما كان هناك معنى للعطف في قوله تعالى: (وله الحمد في السموات والأرض وعشيًا وحين تظهرون.. الروم/١٨) إذ يصير من عطف الشيىء على نفسه، وهو مما لا يسوغ القول به، وأغرب منه للسبب ذاته ما ذكرناه من حده من الزوال إلى الصباح- كذا فعل الراغب في المفردات (ص ٣٣٥) دون أن يذكر غيره، وابن عاشور في التحرير- ٧/٢٤٧من المجلد ٤- الذي ناقض نفسه فذكر في قوله تعالى: (يسبحن بالعشي والإشراق) وقوله: (إذ عرض عليه بالعشي ... ص/٣١) أنه ما بعد العصر إلى الغروب [ينظر التحرير ٢٣/٢٢٨ مجلد ١١، ٢٣/٢٥٤ مجلد ١١] .

1 / 10

وابتناء على ما سبق ذكره يكون وقت الغداة والإبكار، والمراد منهما حقيقة: الطرف الأول من النهار، وهو ما يكون من النهار من أول الفجر إلى ما قبيل طلوع الشمس إذ هو المقابل للطرف الثاني منه، ويطلق على ما بعيد ذلك على سبيل المجاز لعلاقة المجاورة أيضًا، وقد يكنى بهما كذلك عن الاستغراق لجميع أجزاء الشطر الأول من النهار إذا اقتضى المقام ذلك وأملاه السياق.. يقول ابن منظور: "الغُدوة بالضم: البُكرة. وهي ما بين صلاة الغداة وطلوع الشمس.. والغداة كالغدوة وجمعها غدوات.. وقال الليث: الغُدوة جمعٌ مثل الغدوات، والغُدى جمع غُدوة.. وأنشد) بالغُدى والأصائل) وقالوا: إني لآتيه بالغدايا والعشايا، والغداة لا تجمع على الغدايا ولكنهم كسَّروه على ذلك - أي جمعوه جمع تكسير- ليطابقوا بين لفظه ولفظ العشايا، وليزاوجوا بينهما، فإذا أفردوه لم يكسِّروه.. ويستعمل مصدرًا، يقال: غدا عليه غَدْوة وغُدُوًّا، واغتدى: بكَّر، والاغتداء: الغدو، وغاداه باكره وغدا عليه.. وقوله تعالى: (بالغدو والآصال) أي بالغدوات (١)، فعبر بالفعل عن الوقت - إذ الأصل فيه: يغدون بالتسبيح أول النهار أي بعيد طلوع الفجر- كما يقال: أتيتك طلوع الشمس أي وقت طلوع الشمس، ويقال: غدا الرجل يغدو فهو غادٍ، وفي الحديث: (لغدوة أوروحة في سبيل الله..)، والغدوة: المرة من الغُدُوِّ وهو سير أول النهار، نقيض الرواح (٢) ".

(١) وفي حال جعل (غدو) مصدرًا لا جمعًا. يقدر معه مضاف مجموع أي أوقات الغدو، ليطابق قوله (الآصال) كذا في روح المعاني ٩/٢٢٤ مجلد ٦. (٢) اللسان ٦/٣٢٢٠، ٣٢٢١ بتصرف وينظر تمييز ذوي البصائر ٤/١٢٢ والرازي ٧/٤٢٤ والآلوسي ٩/٢٢٤ مجلد ٦.

1 / 11

ويكشف ﵀ في كتابه لسان العرب عن معنى البكرة مفصحًا عن مرادفتها لصاحبتها فيقول: إنها تعني "الغداة.. والبكور والتبكير: الخروج في ذلك الوقت، والإبكار: الدخول فيه، قال سيبويه: لا يستعمل إلا ظرفًا، والإبكار كالإصباح هذا قول أهل اللغة، وعندي - والكلام لا يزال لابن منظور- أنه مصدر أبكر، (١) وبكَرَ على الشيئ وإليه يبكر بكورًا، وبكّر تبكيرًا وابتكر وأبكر وباكره: أتاه بكرة.. وكلُّ من بادر إلى شيئ فقد أبكر عليه، وبكّر أي وقت كان، يقال: بكِّروا بصلاة المغرب أي صلوها عند سقوط القرص، وقوله تعالى: (بالعشي والإبكار) جعل الإبكار وهو فعل، يدل على الوقت وهو البُكرة – يريد أنه كسابقه، الأصل فيه: يبكرون بالتسبيح أول النهار أي بُعيد طلوع الفجر- والباكور من كلّ شيئ المعجل المجيئ والإدراك وبَكْرُ كل شيئ أوله" (٢) ومنه قوله تعالى: (ولقد صبّحهم بكرة عذاب مستقر ... القمر /٣٨) يعني أول النهار وباكره (٣) . فالمادة على هذا تدور حول معنى الإسراع والمبادرة والمعاجلة في أول الوقت وهي إن نُوّنت صارت ظرفًا أو مصدرًا، وأريد بها وقت الغدوة، وفي معنى ذلك يقول الراغب: "أصل الكلمة هي البُكرة التي هي أول النهار فاشتق من لفظه لفظ الفعل فقيل: بَكَرَ فلان بكورًا إذا خرج بُكرة، وتُصُوِّر منها معنى التعجيل لتقدمها على سائر أوقات النهار" (٤) .

(١) وعليه فإذا قوبل بالعشي كان على تقدير: وقت الإبكار، واللفظان (بكرة وعشيًا) هما على أيّ حال معربان غير منصرفين، ويطلقان ظرفًا وعلمًا للجنسية على وقتيهما سواء قصد تعيينهما ليوم معين أو لم يقصد، ويجوز تنوينهما على الحالين اتفاقًا [ينظر البحر ٢/ ٤٥٣ ودراسات لأسلوب القرآن د/ عضيمة ٩/ ٧٢٧] . (٢) اللسان١/٣٣٢ وينظر مفاتيح الغيب ٤/٢٠٥. (٣) الكشاف ٤/٤٠١. (٤) المفردات ص٥٧

1 / 12

وإن كان من فرق بين كلمة (بكرة) التي اتضح من خلال كلام أهل اللغة أن وقتها هو ما بين صلاة الصبح وطلوع الشمس.. وما راد فها مما وقع في مقابل العشي لكن بلفظ (الإشراق) هو أن الإشراق يكون عند من التزم جعل أول النهار من طلوع الشمس، إذ هو بهذا حقيقة فيه، ولذا قالوا في تفسير قول الله تعالى في حق داود ﵇: (إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والإشراق.. ص/١٨) يعنى حين تشرق الشمس أي تضيئ ويصفو شعاعها، "يقال شرقت الشمس شروقًا: طلعت، وأشرقت: أضاءت" (١)، "وأشرق القوم: دخلوا في وقت الشروق" (٢)، "وأشرق الرجل: أي دخل في شروق الشمس، وفي التنزيل: (فأخذتهم الصيحة مشرقين.. الحجر/٧٣) أي مصبحين، (فأتبعوهم مشرقين.. الشعراء/٦٠) أي لحقوهم وقت دخولهم في شروق الشمس وهو طلوعها" (٣) . مدلولات الغداة والعشي وما في معناهما بين الحقيقة والمجاز: والذي ينعم النظر في تتبع مقولات أهل التأويل من المفسرين والمشغولين بالدراسات القرآنية في معنى ما جاء في طرفي النهار، يلحظ أنهم لا يقصرون مدلولي الغداة والعشي على وقتيهما المعلومين والمخصصين لهما عند أهل اللغة على جهة الحقيقة، أعنى من الفجر إلى طلوع الشمس ومن العصر إلى انتهاء النهار.. بل إنهم يتوسعون فيهما ليمتدا لديهم وليشملا سائر ساعات الليل والنهار، وما ذلك إلا حملًاَ لمعنى الأمر بالتسبيح بالغداة والعشيّ على معنى المداومة وفقًا لمدلولات النصوص وسياقات الآيات المُومِئَة إلى ذلك.

(١) تمييز ذوي البصائر ٣/٣١١. (٢) اللسان ٤/٢٢٤٥. (٣) السابق.

1 / 13

ولنتأمل في ذلك مثلًا ما ذكره صاحب الكشاف تفسيرًا لقول الله تعالى عن أهل الجنة: (ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيًا.. مريم/٦٢) وقد تبعه فيه غيره، يقول: - "أراد دوام الرزق ودروره كما تقول: (أنا عند فلان صباحًا ومساءً وبكرةً وعشيًا)، تريد الديمومة ولا تقصد الوقتين المعلومين" (١)، وما ذكره الطاهر ابن عاشور في تفسيره لقول الله تعالى: (ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشيّ يريدون وجهه.. الأنعام/٥٢) حيث يقول: "الغداة: أول النهار، والعشيّ من الزوال إلى الصباح، والباء للظرفية.. والمعنى أنهم يدعون الله اليوم كله، فالغداة والعشي قصد بهما استيعاب الزمان والأيام كما يقصد بالمشرق والمغرب استيعاب الأمكنة، وكما يقال: الحمد لله بكرةً وأصيلًا" (٢)، وفي معناه يقول الآلوسي تفسيرًا لنفس الآية: "والمراد بهما ها هنا الدوام كما يقال فعله مساءً وصباحًا إذا داوم عليه" (٣)، وعلى هذا دأب جلّ المفسرين وربما كان مستندهم في هذا صحة ما ورد عن العرب "إني لآتيه بالعشايا والغدايا" (٤) يقصدون بذلك استدامة المجيئ.

(١) تفسير الكشاف ٢/٥١٦، ٥١٥وينظر الرازي ٩/٤٨٧ وحاشية الشهاب لى البيضاوي ٦/٢٩٢. (٢) التحرير٧/٢٤٧ مجلد٤. (٣) الآلوسي ٧/٢٣٢ مجلد٥. (٤) اللسان ٤/٢٩٦٢.

1 / 14

والحق أن الأمر في هذا لا يعدو أن يكون كناية عن المداومة في فعل المجيئ، وفي استدامة الدعاء، وفي عدم انقطاع الرزق عن أهل الجنة، ولا يعني بحال أن يخرج اللفظان عن حقيقتهما الموضوعة لهما في اصطلاح التخاطب، إذ ليس من المعقول أن يظل هؤلاء المتحدث عنهم في آية الأنعام على حال واحدة لا يحيدون عنه ولا يميدون، كما لا يعقل أن يبقى أهل الجنة الوارد ذكرهم في آية مريم يطعمون ويشربون مدة خلودهم الأبدي وبقائهم السرمدي، إذ ذلك - مما لا شك فيه- مما يبعث على الملل ومما يتنافى مع خلق التوسط والزهادة اللذين تربوا عليهما في الدنيا، كما أن فيه مشغلة كذلك عن التمتع بسائر ألوان النعيم الأخرى التي أعدها الله لعباده الصالحين من نحو التسري بالحور العين والتقابل على السرر والأرائك والورود على الحوض ومصاحبة الأخلاء من المتقين والنبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقًا، بل وفوق كل ذلك وأعلاه السعي لنيل رضا الله سبحانه والتمتع بالنظر إلى وجهه الكريم كما في قوله ﷺ عن رب العزة سبحانه من أنه (يقول لأهل الجنة: يا أهل الجنة، فيقولون: لبيك ربنا وسعديك والخير بين يديك، فيقول: هل رضيتم؟ فيقولون: وما لنا لا نرضى يا رب وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدًا من خلقك؟ فيقول: ألا أعطيكم أفضل من ذلك؟ فيقولون: يارب وأي شيئ أفضل من ذلك؟ فيقول: أحلّ عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبدًا) (١)، وقوله فيما رواه مسلم: (إذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار نادى مناديًا يا أهل الجنة إن لكم عند الله موعدًا يريد أن ينجزكموه فيقولون: وما هو؟ ألم يثقل موازيننا ألم يبيض وجوهنا ويدخلنا الجنة ويُجِرْنا من النار؟ قال: فيكشف لهم الحجاب فينظرون إليه فوالله ما أعطاهم شيئًا أحب إليهم من النظر إليه ولا أقر لأعينهم) .

(١) رواه البخاري ومسلم واللفظ له.

1 / 15

وقد استشعرالبيضاوي كل هذه المعاني فراح يمرض حمل المعنى على الديمومة ويتورك على القائلين به، ويقدم عليه ما يفيد الحمل على الحقيقة، يقول: قوله (ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيًا): "على عادة المتنعمين والتوسط بين الزهادة والرغابة (١)، وقيل المراد دوام الرزق ودروره" (٢) والعجيب أن يستنكر ابنُ منظور على من يذهب إلى إطلاق (العِشاء) على فترة ما بين زوال الشمس إلى طلوع الفجر ولا ينكر بنفس القدر على من ذهب إلى أن العشيّ: من زوال الشمس إلى الصباح، مكتفيًا في ذلك بلفظ التضعيف، إذ يقول: "وقيل العشي من زوال الشمس إلى الصباح، ويقال لما بين المغرب والعتمة: عِشاء وزعم قوم أن العِشاء من زوال الشمس إلى طلوع الفجر وأنشد في ذلك: غدونا غدوة سحرًا بليلٍ عِشاءً بعد ما انتصف النهار" (٣) . على الرغم من أن قول الشاعر: (بعد ما انتصف النهار) يفيد اقتراب ما بعد منتصف النهار إلى وقت العِشاء، فيكون الحمل على المجاز لعلاقة المجاورة مستساغًا لقرب المسافة الزمنية.. وليس من هذا في شيئ القول بأن العَشيّ هو ما يمتد وقته ليتسع لما بين زوال الشمس إلى صباح اليوم التالي.. والأعجب منه أن يورد في ذلك ما أنشده ابن الأعرابي من قوله: هيفاءُ عجزاءُ خريدٌ بالعشيّ تضحك عن ذي أشرٍ عذْبٍ نقي

(١) وكان العرب يسمون الأكل مرة واحدة في اليوم والليلة (الوجبة) باعتبار أن أكلها يوجب زهادة، وكان إذا أصاب أحدهم الغداء والعشاء أعجبهم ذلك ويسمون ماعداهما (الرغبة) أي في كثرة الأكل، فأخبرهم سبحانه أن لهم في الجنة هذه الحالة التي تعجبهم [ينظر أضواء على متشابهات القرآن للشيخ خليل ياسين ٢/١٠] . (٢) تفسير البيضاوي ٦/٢٩٢. (٣) اللسان٤/٢٩٦٢.

1 / 16

فينفي عنه وضع العشيّ موضع الليل، ويتلمس له مخرجًا ويعلق عليه بقوله: "فإن أراد (بالليل)، فإما أن يكون سمى الليل عشيًا لمكان العِشاء الذي هو الظلمة، وإما أن يكون وضع (العشيّ) موضع الليل لقربه منه من حيث كان العشي آخر النهار وآخر النهار متصل بأول الليل" (١) ... يقول: "وإنما أراد الشاعر أن يبالغ بتخرُّدِها واستحيائها، لأن الليل قد يعدم فيه الرقباء والجلساء وأكثر من يُستحيا منه، فإذا كان ذلك مع عدم هؤلاء فما ظنك بتخرُّدها نهارًا إذا حضروا؟ " (٢)، وإذا ما اتفقنا على أن لفظ (الأصيل) هو في معنى العشيّ كما قرر أهل اللغة وأهل التأويل وعلى ماسبق ذكره، فإن الزوال وما يقرب منه – على ماقرروا أيضًا – لا يسمى أصيلًا، وما قيل من أنه يسمى كذلك، لو سلم فهو ارتكاب لغير المألوف من غير ضرورة تدعو إليه (٣)، وطرقًا للباب على وتيرة واحدة وقياسًا على ما سبق نقول: إن إطلاق العشي كذلك ليمتد إلى صباح اليوم التالي هو أيضًا ارتكاب لغير المألوف من غير ضرورة تدعو إليه. ونظير ما مضى - مما يعد مقبولًا- في الحمل على المجاز مع ما يفيده من الدلالة على الاستغراق والاستدامة على فعل الشيئ في الوقتين المذكورين، ما ذكره الرازي في تفسيره لقول الله تعالى: (واستغفر لذنبك وسبح بحمد ربك بالعشي والإبكار.. غافر/٥٥) قال: "الإبكار عبارة عن أول النهار إلى النصف، والعشيّ عبارة عن النصف إلى آخر النهار، فيدخل فيه كل الأوقات" (٤)، وأحسب أن هذا هو الأليق فيما هذا شأنه وفيما يقتضي المقام حمله على معنى الاستغراق في الزمن وفاءً بحق السياق، على اعتبار أن ما يقرب من الشيئ يطلق عليه اسمه، وقد نحا كثير من المفسرين هذا المنحى مقدمين إياه على القول بمغالطة أهل اللغة والجنوح بالعشيّ وجعله من زوال الشمس إلى الصباح.

(١) السابق. (٢) السابق بتصرف. (٣) ينظر حاشية الشهاب٩/٣٦٣. (٤) مفاتيح الغيب١٣/٥٦٩.

1 / 17

من هؤلاء صاحب التحرير والتنوير فقد ذهب في تفسيره لنفس الآية التي حمل الزمخشري فيها معنى العشيّ والإبكار على الاستدامة الشاملة لسائر ساعات اليوم والليلة، وهي قوله تعالى: (ولهم رزقهم فيها بكرةً وعشيًا.. مريم/٦٢)، إلى أن المقصود من " (البكرة): النصف الأول من النهار، و(العشيّ) النصف الأخير (١) . والجمع بينهما كناية عن استغراق الزمن (٢)، أي لهم رزقهم غير محصور ولا مقدر بل كلما شاءوا" (٣) .. وإن كان يعاب عليه أنه لم يستمر على هذا المنحى وراح في مواضع أخرى يحمل معنى العشي على ما بين زوال الشمس إلى الصباح على نحو ما فعل في تفسيره لآية الأنعام. ولا يُحتج لهذا أن المقصد من كلامه الذي أورده في تفسير آية الأنعام، وكذا كلام من حجل بقيده، التكنية عن الاستدامة، لأن الجواب عن ذلك أن الكناية لا تمنع من إرادة ظاهر اللفظ، وظاهر اللفظ يصعب حمله – على نحو ما ارتأينا- في آيتي مريم والأنعام على وجه الحقيقة.

(١) ولعل هذا ما عناه ابن منظور بقوله: "إنما أراد لهم رزقهم في مقدار ما بين الغداة والعشي". (٢) والأليق منه حمل المعنى على الحقيقة، لإفادة التوسط بين الزهادة والرغابة لما سبق ذكره. (٣) التحرير والتنوير ١٦/١٣٨ مجلد٨.

1 / 18

على أن هذا المنحى قد يحمد في مثل قوله سبحانه: (واذكر ربك في نفسك تضرعًا وخيفةً ودون الجهر من القول بالغدو والآصال ولا تكن من الغافلين ... الأعراف/٢٠٥) إذ الحمل فيه بضميمة قوله ﷺ: (تنام عيني ولا ينام قلبي)، وقوله سبحانه: (ولا تكن من الغافلين) .. على التكنية عن سائر أحواله ﷺ يقظةً أومنامًا سرًا أو إعلانًا ليلًا أو نهارًا لمما يدل عليه السياق ويومِئ إليه، والشرط في ذلك ألا يوجد في سياق الكلام ما ينافيه أو يتماشى معه من نحو إطلاق الذكر وتقييد نوع منه بوقتي الغداة والعشيّ في نحو قوله سبحانه: (يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرًا كثيرًا وسبحوه بكرةً وأصيلًا.. الأحزاب/٤١، ٤٢)، وكذا ما تعيّن الحمل فيه على الوقتين لكون الموقوت بزمنيهما مختص بهما لا يتعداهما، كما في قوله سبحانه: (ولله يسجد من في السموات والأرض طوعًا وكرهًا وظلالهم بالغدو والآصال.. الرعد/١٥) إذ من المعلوم بداهة أن الفيئ لا يظهر بصورة كاملة تشعر بما يمليه النظم الكريم إلا في الوقتين بمعناهما اللغوي، ونظير ذلك ما كان منصوصًا على وقتيه ببعض دلائله التي لا ينصرف بها المعنى إلا إليه، كما في الآية الكريمة الواردة في حق داود ﵇: (إنا سخرنا الجبال معه بالعشي والإشراق.. ص/١٨) ذلك أن "وقت الإشراق محدود بوقت ارتفاعهما عن الأفق الشرقي وهو ما يسمى بالضحوة الصغرى" (١) وذلك لا يتأتى إلا وقت بدء طلوعها ولا يكون دون ذلك أو سواه بحال. من أسرار تقديم بعض مسميات طرفي النهار على بعض ووجه تنوعها:

(١) روح المعاني ٢٣/٣٥٦ من المجلد ١٣ بتصرف.

1 / 19

وإذا ما رُمنا الإبحار في الكتاب العزيز بغية الوقوف على سر التنوع في التعبير عن الوقتين المنوط بهما هذا البحث، وأردنا الكشف عن علائق التراكيب التي قُدم فيها بعض مسميات هذين الوقتين على البعض الآخر، وابتغينا الغوص للتعرف على وجوه اختلاف سياقاتها وتناغيها وتواصلها.. فإنه لا بد لنا أولًا أن نستجلي الملابسات التي ورد فيها ذكر هذين الوقتين. والمتأمل للسياقات التي قُدم فيها لفظ (العشيّ) على الإبكار كما في حق زكريا ﵇: (واذكر ربك كثيرًا وسبح بالعشيّ والإبكار.. آل عمران/٤١)، وقوله في مخاطبة نبيه محمد ﷺ -قبل هجرته إلى مكة: (واستغفر لذنبك وسبح بحمد ربك بالعشيّ والإبكار.. غافر/٥٥)، يبصر بضميمة ما جاء في قوله سبحانه في حق داود ﵇: (إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشيّ والإشراق.. ص/١٨)، أن الإبكار يدقُّ جعله وصفًا لأول النهار من بعد طلوع الشمس لا الفجر (١)، كما يرمق أن في اصطفاء مفردة (الإبكار)، وفي تقديم (العشيّ) عليها ما يصور حال الأمم السابقة المستضعفة وما كانت عليه من تلبس بالعبادة المفروضة، وكذا ما كان عليه النبي ﷺ وصحبه الكرام قبل فرض الصلوات الخمس وقبل الجهر بالدعوة والصدع بها.

(١) وسيأتي ما يفيد أن طرف النهار الأول يطلق ويراد به أحد معنيين: مابعد طلوع الفجر ومابعد طلوع الشمس، فعلى من التزم جعل أول النهار من طلوع الفجر جعل ما بعد طلوع الشمس مجازًا فيه والعكس بالعكس.

1 / 20