وليس في هذا شيء من العجب، فأكثر النابغين عرف سوء الحظ قبل أن يعرف المجد ونباهة الذكر، وربما كان من أهم الأسباب التي حالت بين الممثلة وبين الفوز الباهر نفس نبوغها، فقد كانت لها طرائق مختلفة ومذاهب غريبة لم يألفها الجمهور ولم يطمئن إليها، فلم يكن غريبا ألا يشتد إعجابه وتهالكه عليها. على أن «سارة برنار» لم تكد تبلغ الثلاثين حتى كانت عضوا شريكا في أكبر دار من دور التمثيل في «بيت موليير»، وكانت تلعب القصص المختلفة على تباين عصورها ومذاهبها، وكانت تبلغ في هذه القصص فوزا عظيما في كثير من الأوقات حتى كتب إليها «فكتور هوجو» سنة 1877 يقول: «لقد كنت عظيمة خلابة. لقد أثرت في أنا المجاهد الشيخ، ولقد كان الجمهور في وقت من الأوقات سعيدا يملؤه الحنان فيصفق، أما أنا فكنت أبكي.»
ربما كان من الحق أن توازن بين «سارة برنار» وبين «السيبياد» الأتيني المشهور، كلاهما كان فتنة المدينة التي نشأ فيها، وكلاهما كان يحب إعجاب الناس به وتحدثهم عنه، ويتكلف لذلك الأعاجيب، ويفعل في سبيله ما لا تبيحه العادة ولا تسمح به الأوضاع المألوفة. يقال إن «السيبياد» كان له كلب فتن الأتينيين فتحدثوا عنه دهرا، فلما انتهى إعجابهم به كفوا عن الحديث فيه، فقطع «السيبياد» ذنب الكلب ليعود فيذكروه. وكانت أعاجيب «السيبياد» ونفقاته أكثر من أن تحصى، وكان لا يتكلف هذه النفقات وتلك الأعاجيب إلا ليفتن الناس، ويحملهم على إطالة الإعجاب به والتفكير فيه، كان سيئ السيرة وكان له زوج برة شريفة جزعت لسوء سيرته فذهبت إلى «الأركون» تطلب الطلاق، وبلغ ذلك «السيبياد» فأسرع إلى مجلس «الأركون»، فلما رأى زوجته بين يديه انهال عليها لثما وتقبيلا وملاطفة، وحملها بين ذراعيه وعاد بها إلى بيته، والأتينيون من حوله يصفقون له ويهتفون باسمه وامرأته بين ذراعيه قد رضيت عنه واطمأنت إليه. كذلك كان «السيبياد» وكذلك كانت «سارة برنار»، كانت فتنة باريس، وكانت تحرص على أن تظل فتنة باريس، فكانت تفعل كل شيء يجعلها حديثا لأهل باريس.
كانت تملأ غرفتها بالهياكل العظمية، وتنام بمنظر من الناس في تابوت مبطن بالحرير الأبيض، وتستأنس كثيرا من الحيوان الوحشي. كانت تدهش الناس بأزيائها المختلفة الغريبة، تتخذ زي الرجال حينا، وبدعا من أزياء النساء حينا آخر. كانت تدهش الناس بأحاديثها ومقالاتها وصورها، وكانت على اختلاف متصل عنيف مع مدير «بيت موليير» حتى كان يسميها هذا المدير «الآنسة ثورة».
1
فلما كانت سنة 1880 ضاقت «سارة برنار» بالحياة في باريس، وأحست أن هذه المدينة لا تسعها، بل إن فرنسا كلها لا تسعها، فاستردت حريتها، وخرجت من «بيت موليير» خروجا عنيفا وقفها أمام القضاء الذي قضى عليها بغرامة، وسافرت إلى لندرة، ثم إلى السويد والنرويج، ثم إلى أمريكا، وكان سفرها إلى أمريكا فخما ضخما كثر حوله الضجيج والعجيج، وقال كثير من مؤرخيها: إن كثيرا من الملكات لم تظفر بما ظفرت به هذه الممثلة من الفوز والإكبار في هذه السياحة. ولم تقف أسفارها إلى هذا الحد، بل زارت أكثر أقطار الأرض المتحضرة، ونالت فيها فوزا باهرا لم يكن مقصورا عليها، بل كان يتناول فرنسا معها، ولقد ذهبت في بلاد المجر مرة فرفعت الأعلام الفرنسية في كل مكان ذهبت إليه رغم الأوامر التي صدرت من فينا بحظر ذلك.
ولهذا فتن الممثلون بهذه الممثلة التي كانت أحسن سفير نشر الدعوة الفرنسية في أقطار الأرض، وأحسن تمثيل العقل الفرنسي والفن الفرنسي والأدب الفرنسي، حتى قرنها كثير من الكتاب إلى نابليون، ولست أدري إلى أي حد تصح هذه المقارنة، ولكني لا أشك في أن «سارة برنار» خدمت فرنسا ورفعت ذكرها إلى حد لم يبلغه كثير من قوادها الفاتحين.
أما نبوغها الفني، فلست أستطيع أن أحدثك عنه، وإنما أترك ذلك للناقد الفرنسي «جول ليتمر» الذي كان بها مفتونا، والذي يحدثنا بأن مصدر نبوغها وافتتان الناس بها ثلاثة أشياء: صوتها الذي سماه فكتور هوجو ومن بعده الفرنسيون جميعا: «الصوت الذهبي»، يقال إنها كانت تتغنى في تمثيلها بالنثر والشعر جميعا، وكانت ماهرة في تصوير صوتها صورا مختلفة ملائمة غريبة لموضوع الحديث الذي كانت تتناوله، فكان صوتها مرة يشبه الغدير المنساب، وأخرى يتلوى ويتهدج، ومرة يرتفع، وأخرى ينخفض، حتى كان الجمهور معلقا بهذا الصوت الضئيل القوي الشفاف.
الثاني: حركاتها في الملعب، فقد يحدثنا «جول ليمتر» بأنها أحدثت في التمثيل ما لم يحدثه أحد قبلها، فكانت تلعب بجسمها كله؛ أي إنها كانت تحقق ما تمثله، فلم تكن تخيل إلى الناس أنها تلثم أو أنها تعانق، وإنما كانت تلثم وتعانق بالفعل، وكانت تفعل ما هو أبلغ في الدهشة من اللثم والمعانقة.
الثالث: ذكاؤها، فقد كانت أقدر الممثلين على فهم الفصول التي كانت تلعبها، كانت تفهم هذه الفصول كما فهمها المؤلف، وربما فهمتها خيرا مما فهمها المؤلف، ومن هنا خلقت «سارة برنار» كثيرا من القصص، وكثيرا من المؤلفين، ولن يستطيع «فرنسوا كوبيه» ولا «إدمون روستان» أن يستأثرا بما أدركا من فوز في ملاعب التمثيل إنما «لسارة برنار» الحظ الموفور من هذا الفوز.
وانظر إلى هذا الوصف الذي نشرته «الألستراسيون» وكتبه «إدمون روستان»، فهو وحده يعطيك منها صورة خليقة بها:
Halaman tidak diketahui