ولكنني عدت إلى مصر وكان أول ما استقبلته من الحياة الأدبية هذا الفصل الممتع الذي نشرته «السياسة الأسبوعية» الماضية للأستاذ الجليل الشيخ علام سلامة، المدرس بمدرسة دار العلوم. ولست أدري لم أحسست ميلا شديدا جدا إلى الكتابة بعد أن فرغت من قراءة هذا الفصل، ولست أدري لم رضيت أن ألهي ماكرنا الظريف وأضحكه هذه المرة، وقد كنت أكره ذلك وآباه من قبل ...
فقد قرأت كلاما كثيرا ممتعا يشبه هذا الكلام الممتع الذي نشره الأستاذ الشيخ علام، وأنا أنفق حياتي في قراءة كلام كثير يشبه هذا الكلام، فلا أحس ميلا إلى الكتابة، ولا أجد من نفسي رغبة فيها، ولعل مصدر هذا الميل أن الأستاذ الشيخ علام قليل الكتابة في الصحف، أو أنه قليل الكتابة الممضاة في الصحف، فلا أقل من أن نتلقى فصله الممتع بشيء من التحية، ونتمنى أن يطلق الله قلمه فيسطر لنا في كل أسبوع فصلا يذهب فيه هذا النحو من مذاهب البحث اللذيذة الممتعة.
ولعل مصدر هذا الميل أيضا أن الأستاذ الشيخ علام قد وعد في آخر فصله الممتع بأن يتورط فيما تورط الكتاب فيه من أمر القديم والجديد، وإن لم تكن هناك صلة بين فصله الممتع وبين القديم والجديد. مهما يكن من شيء فأنا أريد أن أكتب في هذا الموضوع، وأن أبدأ بتحية الأستاذ الشيخ علام وتهنئة الصحف بفصوله الأدبية القيمة التي بدأت بدءا حسنا، والتي ستتصل اتصالا حسنا إن شاء الله، ولو أن لي أن آخذ الأستاذ الجليل بشيء في هذا الفصل لوقفت معه وقفات قصيرة عند مسائل يسيرة يحسن أن نلم بها إلماما؛ لأن الأمانة العلمية تريد هذا الإلمام.
فصل الأستاذ الشيخ علام يذكرني بطائفة من الكتاب والعلماء، مات بعضهم منذ قرون، وتوفي بعضهم منذ سنين، ولا يزال بعضهم حيا يتنفس من هواء مصر ويشرب من ماء النيل. وكنت أحب للأستاذ الشيخ علام أن يسمي هؤلاء العلماء والكتاب، أو يومئ إليهم؛ ليعرف الناس ما لهم وما له، ففي ذلك وفاء لهؤلاء العلماء والكتاب، وفي ذلك إنصاف للأستاذ الشيخ علام نفسه.
فمن يدري لعل الأستاذ قد أضاف من عنده إلى ما قال أولئك الكتاب والعلماء أشياء قيمة وعظيمة الخطر لا ينبغي أن تضاف إلى غيره، وإذا أذن لي الأستاذ أن أنصفه وأنصف أصحابه، فإني أسمي منهم ثلاثة أو أربعة من غير إطالة ولا إملال.
فأما أولهم فصاحب «لسان العرب»، فقد يظهر أن الأستاذ عندما أراد أن يبين المعنى اللغوي لكلمة الأدب، نقل ما جاء في «اللسان» نقلا في غير تحفظ ولا فقه ولا نقد ولا احتياط. نقل ما جاء في «اللسان» حتى الشواهد نظما ونثرا، وحتى وصف البعير بأنه أديب. وربما كان هذا النقل مفيدا، وهو على كل حال حق للأستاذ، ولكن من حق صاحب «اللسان» أو من حق أصحاب المعاجم أن يشار إليهم إذا نقل عنهم ... ومن حق القراء أن يعرفوا أن ما يكتبه الأستاذ قد نقل نقلا أو استنبط استنباطا.
وأما الثاني فالمرحوم اليازجي صاحب «مجلة الضياء»، فأنا أذكر أني كنت أقرأ في هذه المجلة أيام الصبا، وكنت أحب هذه المباحث اللغوية التي كان يعرض لها صاحب هذه المجلة، والتي كان يبين لنا فيها كيف تختلف الكلمات في حرف واحد يقع أول الكلمة أو آخرها أو في وسطها، فلا يكون هذا الاختلاف دليلا على بعد ما بينها في المعنى وإنما يكون دليلا على تقاربها في المعنى كما تقاربت في اللفظ: كوكز ولكز ونكز ووهز ولهز ونهز، وغمز ولمز وهمز، ولطم ولكم ولدم ولتم. ولست أدري لم نسي اللثم، فرب لثمة أشبهت لطمة! وأظن أن من حق اليازجي أن يذكر كصاحب «اللسان»، ويخيل إلي أن للأستاذ الشيخ علام زميلا في دار العلوم، هو الأستاذ الشيخ أحمد عمر الإسكندري، يذهب هذا المذهب فيما يسميه فقه اللغة، ويدرسه درسا مفصلا لتلاميذه، وأحسب أنه قد أمعن في هذا البحث إمعانا قيما فكان من حقه أن يذكر أيضا.
ثم أذكر رجلا آخر كان من الحق أن يذكر ويثنى عليه وهو مصطفى صادق الرافعي، فقد بحث مصطفى صادق الرافعي في كتابه عن كلمة الأدب وأطوارها ومعانيها. ومن الغريب أن الشبه شديد جدا بين بحث الأستاذ الشيخ علام وبحث الأستاذ الرافعي، وكل ما بينهما أن الرافعي قرأ اللسان وفهمه ولم يأخذ منه إلا ما احتاج إليه، وأن الشيخ علام نقل اللسان نقلا في غير نقد ولا فقه كما قلت، وأن الرافعي رأى نصوصا تضاف إلى القدماء شك في صحتها فنفى بعضها وأعرض عن بعضها الآخر ، وأن الشيخ علام أخذ هذه النصوص على علاتها في غير نقد ولا فقه أيضا. وأن الرافعي رأى نصا أضافه صاحب «العقد الفريد» إلى ابن عباس، وأضافه الجاحظ إلى حفيد ابن عباس، فدرس وآثر رواية الجاحظ عن نقد وفقه، وأن الشيخ علام لم ينقد ولم يحاول الفقه، وإن ردد الرواية بين الرجلين ترديدا دون أن يشعر بالأثر العظيم الذي ينشأ عن صحة إحدى الروايتين، لا أقول في صحة كلمة الأدب، بل أقول في تاريخ العلم نفسه، فلو صحت رواية العقد الفريد لكان عبد الله بن عباس عالما بأصول النحو ملما باصطلاحاته قبل أن تتم نشأة النحو.
فأنت ترى أن الأستاذ الشيخ علام ظلم نفسه وظلم طائفة من الذين سبقوه وعاهدوه حين أرسل فصله إرسالا دون أن يسمي من أخذ عنهم أو سار سيرتهم في البحث. وقد علم الله ما أعطف على الرافعي ولا أميل إلى فنه، ولكني أحب أن أنصف الرجل وأشهد أن فصله أمتن وأقوم وأدل على الفقه من فصل الأستاذ الشيخ علام. •••
وأنا بعد أخالف الرجلين جميعا في أصل هذه الكلمة؛ أخالفهما لأن مذهبهما لا يقنعني، فأنا لا أفهم هذه الصلة التي يتكلفانها ويتكلفها من قبلهما أصحاب المعاجم بين لفظ الأدب وبين هذا الفعل المعروف «أدب الناس إذا دعاهم إلى الطعام»، ولست أريد أن آخذ في مناقشة لغوية تثقل على قراء «السياسة»، وتمل هذا الماكر الذي اضطرني واضطر الشيخ علام إلى الكتابة في هذا الموضوع، وإنما أقول في إيجاز أني أذهب في أصل هذه الكلمة مذهب الأستاذ نالينو وأخذها من الدأب، بتقديم الدال على الهمزة المفتوحة، ومعناه العادة والشأن والحال. ولست أري شيئا من الغرابة في أن تكون كلمة الدأب قد استحالت إلى كلمة الأدب، فقدمت العين فيها على الفاء نقلا، ولا سيما إذا لوحظ أن هذا النقل مألوف في الجمع، فقد جمعت الكلمة على أدآب ثم وضعت عينها موضع الفاء فقيل آداب، كما قيل آرام وآبار، ثم خيل إلى الناس أن كلمة الآداب هذه جمع أدب لا جمع دأب، فنشأ هذا المفرد، واشتق منه التأديب، وأصله فيما يظهر تعليم الناس ما ورث من العادات والسنن؛ أي تعليمهم ما ورث من الآداب بتقديم الدال. وأكبر الظن أن كلمة الأدب وما اشتق منها محدثة، أريد أنها نشأت بعد الإسلام لا قبله. وقد لاحظ الرافعي أن هذه الكلمة على خفتها وظرفها لم تستعمل قافية في الشعر القديم. وأراد الأستاذ الشيخ علام - فيما يظهر - أن يرد على الرافعي من طرف خفي، فروى البيت الذي يضاف إلى أم ثواب والذي رواه صاحب الحماسة:
Halaman tidak diketahui