وكان من الأثمان التي دفعتها هذه الحكومة الاستماع للأزهريين والنزول عندما كانوا يريدون، واستغلال هذا في الخصومة السياسية الحزبية، فما أسرع ما ألفت لجنة وزارية درست مطالب الأزهريين وقبلتها وأخذت في تنفيذها. وبهذا تقدم الأزهر خطوة أخرى في سبيل السيطرة والسلطان، وأحس الأزهريون أنهم يستطيعون أن يخيفوا الحكومات ويكرهوها على أن تذعن لهم وتنزل عند ما يريدون. وكانت نتيجة هذا كله أن ألغيت أو مسخت «دار العلوم»، كما ألغيت أو مسخت مدرسة القضاء من قبل، وأن احتكر الشيوخ أو كادوا يحتكرون التعليم الأولي، وأن زادت مخصصات الأزهر المالية، وأن قوي في وزارة المعارف الميل إلى نشر التعليم الديني في مدارس الحكومة كلها من طريق الأزهريين، وكانت الفكرة الأساسية الخفية أن يكلف الأزهر نشر هذا التعليم الديني وأن ينبث شيوخ الأزهر في مدارس الحكومة كلها. وكانت النتيجة السياسية الخطرة لهذا كله أن تكون في مصر - أو أخذ يتكون فيها - حزب رجعي يناهض الحرية والرقي، ويتخذ الدين ورجال الدين تكأة يعتمد عليها في الوصول إلى هذه الغاية. وفي أثناء ذلك ظهر كتاب «الإسلام وأصول الحكم» فاستغل في سبيله كل ما تقدم وظهر أن في مصر حزبا سياسيا يتخذ الدين وسيلة لمناهضة حرية الرأي بنفس الوسائل التي كانت تناهض بها أثناء القرون الوسطى في أوروبا. أنكر الكتاب وحوكم صاحبه وأخرج من صف العلماء وفصل من منصبه، وانتهى هذا كله بأزمة سياسية حادة ظهر في أول الأمر أن هذا الحزب السياسي الديني هو الذي انتفع بها واستفاد منها، فقد أخرج وزير من الوزارة واستقال معه طائفة من أصحابه، فقبلت استقالاتهم في سرور وابتهاج، واعتز رئيس الوزراء بالنيابة يومئذ بأنه نصير الدين وحاميه والذائد عن حوضه. وكان كل هذا يشد أزر الشيوخ ويقوم إيمانهم بأن النص الذي يشتمل عليه الدستور يكلف الحكومة واجبات ما كانت تتكلفها من قبل. فلم يعرف تاريخ مصر الحديث شيئا من اضطهاد حرية الرأي باسم السياسة والدين قبل صدور الدستور وحين كانت مصر خاضعة لسلطان الخلافة التركية يشبه ما كان من ذلك بعد صدور الدستور وبعد انقطاع الأسباب بين مصر وسلطان الخلافة، بل بعد انهيار الخلافة نفسها.
ومهما يكن من شيء فقد استيقن رجال الدين أنهم مؤيدون، وأن لهم عضدا يسندهم، فطمعوا وأسرفوا في الطمع. ومما يظهر هذا الطمع حادثتان؛ إحداهما حادثة الأزياء في دار العلوم، هذه الحادثة التي وقفت فيها الحكومة موقف الخادم المطيع لصاحب الفضيلة مولانا الأكبر شيخ الجامع الأزهر، والتي انتهت كما يعلم الناس جميعا بشيء من الإذعان فيه إفساد للأخلاق، وإكراه للشبان على النفاق. فقد أخذ طلاب دار العلوم يذهبون إلى مدرستهم في زي الشيوخ، وقد اتخذوا من تحت هذا الزي زيا آخر يظهرونه متى خرجوا من المدرسة. والحادثة الثانية أن بعض الممثلين هم بالسفر إلى أوروبا ليلعب قصة تمثيلية فيها شخص النبي
صلى الله عليه وسلم ، فغضب الشيوخ لذلك وطلبوا إلى وزارة الداخلية أن تمنع هذا الممثل مما كان يريد، وأن تتخذ لذلك ما ترى من الوسائل حتى الوسيلة السياسية، فتخاطب الحكومة الفرنسية في أن تمنع تمثيل هذه القصة في بلادها، وكان هذا الممثل طيعا هينا فأذعن لأمر الداخلية ومضى الشيوخ.
واتخذت مشيخة الأزهر لنفسها منذ ذلك الوقت اسم الرياسة الدينية العليا، وهو اسم مبتدع لا يعرفه الإسلام، ولا يؤمن له مسلم يعرف واجباته الدينية حقا، وكثرت فتاوى «الرياسة الدينية العليا»، ولم ينس أحد بعد فتواها في تحريم القلانس على المسلمين. وفي أثناء هذا كله ظهر كتاب «في الشعر الجاهلي»، وهنا اصطدمت السلطة الدينية بالحرية العلمية اصطداما عنيفا، فلم يكن صاحب هذا الكتاب من علماء الأزهر، ولا خاضعا لهيئة كبار العلماء، ولم يكن فردا مطلقا من الناس، وإنما كان أستاذا في معهد علمي يرى لنفسه الحرية المطلقة كلها في الرأي، ويرى لنفسه السيادة فيما يدرس وما ينشر، لا يحده في ذلك إلا القانون. وهنا ظهر الفرق بين الأزهريين وغيرهم من المستنيرين في فهم هذا النص الذي يثبت أن الإسلام دين الدولة. فأما الشيوخ فقد زعموا أن الحكومة مكلفة لا حماية الإسلام وحده بل حماية الدستور؛ لأن هذا الأستاذ قد خالف الإسلام وهو موظف يعلم أبناء المسلمين، ويتقاضى أجره من أموال المسلمين، وما كان لحكومة ينص دستورها أن الإسلام دينها الرسمي أن تسمح لأحد موظفيها بمخالفة الإسلام. وعلى ذلك طلبت الرياسة الدينية العليا إلى الحكومة أن تفصل هذا الموظف من منصبه وتقفه أمام القضاء وتصادر كتبه. والناس جميعا يعلمون ماذا كان من أمر الخلاف بين الجامعة والأزهر في هذا الموضوع.
وخلاصة هذا القصص الطويل أن هذا النص الذي أثبت في الدستور قد فرق بين المسلمين المصريين، وأنشأ في مصر قوة سياسية دينية منظمة أو كالمنظمة تؤيد الرجعية وتجر مصر جرا عنيفا إلى الوراء، وأنشأ في مصر خاصة وفي الشرق الإسلامي عامة هذه المسألة التي لم تكن معروفة في الشرق الإسلامي من قبل، أثناء العصر الحديث، وهي مسألة الخصومة الدينية السياسية بين العلم والدين. ولسنا في حاجة إلى أن نسأل أخير هذا أم شر؟ ولسنا في حاجة أيضا إلى أن نسأل عن طبيعة هذه الخصومة وما ستنتهي إليه غدا أو بعد غد، إنما يكفي أن نلاحظ أن هذه الخصومة حقيقة واقعة، وأن في مصر فريقا من الناس يمضون مع الزمن ويسايرون التطور ويريدون أن يستمتعوا وأن يستمتع غيرهم بما كفل الدستور من حرية الرأي، وأن في مصر فريقا آخر من الناس ينكر هذه الحرية أو لا يبيحها إلا بمقدار، وإذن فلا بد من اتخاذ موقف منتج حاسم بإزاء هذه الخصومة بين أولئك وهؤلاء، فما هذا الموقف؟ وما عسى أن تكون نتائجه؟ أما إن كان المصريون يريدون أن ينتفعوا بتجارب الأمم من قبلهم، وأن يختصروا الطريق إلى الرقي، وأن يصلوا إلى حياتهم السياسية والاجتماعية الصالحة في غير عنف ولا مشقة ولا اضطراب، فسبيلهم إلى ذلك يسيرة واضحة يمكن أن تختصر في كلمة واحدة، وهي أن تقف السياسة من رجال العلم ورجال الدين موقف الحيدة التامة. وأما إن كان المصريون يريدون أن يجربوا كما جربت الأمم من قبلهم، وأن يسلكوا إلى حياتهم السياسية والاجتماعية الصالحة تلك الطريق الطويلة المعوجة الملتوية التي تنبت فيها العقاب وتأخذها الأخطار من جوانبها، فسبيلهم إلى ذلك واضحة يسيرة يمكن أن تختصر في كلمة واحدة، وهي أن تستغل السياسة هذه الخصومة بين العلم والدين فتعتز برجال العلم حينا، وحينئذ تضطهد رجال الدين، وتعتز برجال الدين حينا آخر، ويومئذ تضطهد رجال العلم، وتحتمل في سبيل ذلك من التبعات مثل ما احتملته السياسة المسيحية حين كانت تحرق العلماء وتذيقهم ألوان العذاب لترضي رجال الدين، وحين كانت تشرد القسيسين وتهدر دماءهم لترضي رجال العلم.
9
ولكن كل شيء في مصر يدل على أننا لا نريد الطرق الطوال المعوجة، ولا نحب إضاعة الوقت، وإنما نكتفي بما جربت الأمم من قبل، ونجني ما ظفرت به من ثمرات الرقي. دستورنا المصري أوضح دليل على ذلك، فهو دستور حديث كأحدث النظم الدستورية المعروفة، وهو دستور بريء من الرجعية ومن هذا اللون من الاعتدال البطيء، وحسبك أنا كنا نرى في نظامنا السياسي الانتخاب ذا الدرجتين، فما كادت الأمة تتمتع بسلطانها حتى أسرعت إلى الانتخاب ذي الدرجة الواحدة، وحسبك أن وزارتنا مسئولة أمام برلماننا بنفس الطريقة التي تسأل بها الوزارات أما البرلمان في فرنسا وإنجلترا وغيرهما من بلاد أوروبا. كل هذا يدل على أننا معتزمون حقا أن نختصر الطرق. وإذا كانت هذه خطتنا بإزاء الحياة السياسية والاجتماعية، فيجب أن تكون - وما أشك في أنها ستكون - خطتنا بإزاء حياتنا العلمية والدينية. على أننا مضطرون إلى ذلك اضطرارا، فنحن لا نحيا لأنفسنا وحدنا، وإنما نحيا لأنفسنا ولغيرنا من الأمم، ونحن متصلون رضينا أم كرهنا بأمم الغرب المتحضرة، ونحن حريصون على أن نظفر، لا أقول بعطف هذه الأمم، بل أقول بإكبارها لنا واحترامها لمنزلتنا السياسية والاجتماعية. وإذن فنحن مضطرون أن نساير هذه الأمم ونعيش كما تعيش، ونحن لا نستطيع أن نعيش في القرن العشرين كما كانت تعيش فرنسا في القرن الرابع أو الخامس عشر بحجة أننا حديثو عهد بهذه النظم الحديثة. نحن نريد أن نظفر من الاستقلال بما يقفنا من إنجلترا وفرنسا موقف الند من الند، فيجب أن نعيش كما تعيش إنجلترا وفرنسا لتطمئن إنجلترا وفرنسا إلى ما نطلب من الاستقلال. ونحن مضطرون إلى أن نحاول التخلص من الامتيازات الأجنبية، فيجب أن نعيش في بلادنا كما يعيش الأجانب في بلادهم، وأن نستمتع من الحرية بمثل ما يستمتعون به، ليطمئن الأجانب إلى إلغاء الامتيازات. ثم نحن مضطرون إلى أن نعيش، ولن نستطيع أن نعيش إلا إذا اتخذنا أسباب الحياة الحديثة، فنحن محتاجون أن ننتفع بالبخار والكهرباء، ونستغل الطبيعة كلها لحياتنا ومنافعنا، والعلم وحده سبيلنا إلى ذلك، وهو سبيلنا إلى ذلك على أن ندرسه كما يدرسه الأوروبيون لا كما يدرسه آباؤنا منذ قرون، وويل لنا يوم نعدل عن طب باستور وكلودبرنار إلى طب ابن سينا وداود الأنطاكي. وهذا العلم الحديث الذي لا نستطيع أن نستغني عنه لا يمكنه أن يعيش ولا أن يثمر إلا في جو كله حرية وتسامح، فنحن بين اثنتين: إما أن نؤثر الحياة وإذن فلا مندوحة عن الحرية، وإما أن نؤثر الموت، وإذن فلنا أن نختار الجمود.
القسم الخامس: بين الجد والهزل
(1) الأدب والأدباء
لم أكن في مصر حين سأل «أحد الأزهريين» كاتبا من كتاب السياسة اليومية عن الأدب والأدباء، وحين تفضل هذا الكاتب الأديب من «كتاب السياسة» فأحال سائله على «أساتذة الأدب في الجامعة والمدارس العالية». ولو كنت في مصر حين ألقي هذا السؤال وكانت هذه الإحالة، لما أجبت ولا فكرت في الإجابة؛ لأني أعرف هذا الكاتب الأديب من كتاب «السياسة»، وأعرف مكره الظريف، وأعرف أنه يحب دائما أن يلهو ويلهي الناس بالخصومة بين الكتاب ولا سيما أنصار القديم والجديد منهم. وأذكر أنه تكلف هذه الحيلة في السنة الماضية فانخدعت له طائفة من الكتاب والأدباء، واختصموا في القديم والجديد، وضحك منهم ماكرنا الظريف، كما ضحك منهم ماكرون آخرون ليسوا أقل من صاحبنا مكرا وظرفا. ومع أني لا أكره لماكرنا الظريف هذا أن يلهو ويضحك، فقد أبيت في السنة الماضية أن ألهيه وأضحكه. ولو كنت في مصر حين سئل وأحال هذه السنة لتركت إلهاءه وإضحاكه للأستاذ الجليل الشيخ علام سلامة ومن إليه من هؤلاء الذين يرون الجد حيث لا يكون إلا الهزل والدعابة، فيجدون ويتكلفون ويضحك من يريد أن يضحك ويلهو من يريد أن يلهو، ويستريح كتاب «السياسة» من بعض الجهد لأنهم يجدون من يملأ لهم أنهارا، ويضيقون أحيانا لأنهم يضطرون إلى نشر ما يكرهون وإلى إرجاء ما يؤثرون نشره.
Halaman tidak diketahui