Miftah Al-Afkar lit-Ta'ahhub li-Dar Al-Qarar
مفتاح الأفكار للتأهب لدار القرار
Genre-genre
مفتاح الأفكار للتأهب لدار القرار
خُطَبْ وَحِكَم وَأَحْكَام وَقَوَاعِدْ وَمَواعِظْ وَآدَابْ وَأَخْلاَق حِسَان
تَأْلِيفُ الفَقِير إلى عَفْوِ رَبِّهِ
عَبدِ الْعَزِيزِ بْنِ مُحَمَّدٍ السّلمانِ
المدرس في معهد إمام الدعوة بالرياض
سابقًا
1 / 1
بسم الله الرحمن الرحيم
(فائدة عظيمة النفع لمن وفقه الله)
ما أنعم الله على عبد نعمة أفضل من أن عرفه لا إله إلا الله، وفهمه معناها، ووفقه للعمل بمقتضاها، والدعوة إليها.
أشرف الأشياء قلبك ووقتك فإذا اهملت قلبك وضيعت وقتك، فما بقي معك؟ كل الفوائد ذهبت فانتبه لنفسك.
(فصل)
فائدة
وقف قوم على عالم فقالوا إنا سائلوك أفمجيبنا أنت قال: سلوا ولا تكثروا، فإن النهار لن يرجع والعمر لن يعود، والطالب حثيث في طلبه، قالوا: فأوصنا، قال: تزودوا على قدر سفركم فإن خير الزاد ما أبلغ البغية، ثم قال: الأيام صحائف الأعمار فخلدوها أحسن الأعمال، فإن الفرص تمر مر السحاب، والتواني من أخلاق الكسالى والخوالف، ومن استوطن مركب العجز عثر به، وتزوج التواني بالكسل فولد بينهما الخسران اهـ
قال بعضهم: شعرا:
تَزَوَجَتَ البَطَالَةُ بالتَّوَانِي ... فأَوْلَدَهَا غُلامًا مَعْ غُلامَهْ
فأَمَّا الإِبْنُ سَمَّوْهُ بفَقْرٍ ... وأمَّا البنْتُ سَمَّوهَا نَدَمَه
آخر:
الذِّكر أَصْدَقُ قَوْلٍ فَافْهَمْ الْخَبَرَا ... لأَنَّهُ قَوْلٌ مِن قَدْ أَنشأ البشرا
فاعمل به إن ترد فهما ومعرفة ... ياذا النهي كي تنال العز والفخرا
وتحمد الله في يوم المعاد إذا ... جاء الحساب وعم الخوف وانتشرا
لله در رجال عاملين به ... فيما يدق وما قد جل واشتهرا
1 / 2
بسم الله الرحمن الرحيم
ملاحظة: لا يسمح لأي إنسان أن يختصره أو يتعرض له بما يسمونه تحقيقا لأن الاختصار سبب لتعطيل الأصل والتحقيق أرى أنه اتهام للمؤلف، ولا يطبع إلا وقفا لله تعالى على من ينتفع به من المسلمين.
فوائد عظيمة النفع جدا لبعض العلماء رحمهم الله تعالى:
(١) الليل والنهار يعملان فيك فاعمل فيهما أعمالا صالحة تربح وتحمد العاقبة الحميدة إن شاء الله تعالى.
(٢) الملائكة يكتبان ما تلفظظ به فاحرص على أن لا تنطق إلا بما يسرك يوم القيامة من ذكر الله وما والاه.
(٣) اعلم أن قصر الأمل عليه مدار عظيم وحصن قصر الأمل ذكر الموت، وحصن حصنه ذكر فجأة الموت وأخذ الإنسان على غرة وغفلة وهو في غرر وفتور عن العمل للآخرة، فاحفظ هذه الفوائد واعمل بها تفلح وتربح إن شاء الله.
ومن أراد طباعته ابتغاء وجه الله تعالى لا يريد به عرضًا من الدنيا، فقد أُذن له في ذلك وجزى الله خيرًا من طبعه وقفًا لله، أو أعان على طبعه، أو تسبب لطبعه وتوزيعه على إخوانه المسلمين، فقد ورد عنه ﷺ أنه قال:
«إن الله يدخل في السهم الواحد ثلاثة نفر الجنة: صانعه يحتسب في صنعته الخير والرامي به، ومنبله» الحديث، رواه أبو داود.
وورد عنه ﷺ أنه قال: «إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له» الحديث رواه مسلم.
وعن زيد بن خالد ﵁ أن رسول الله ﷺ قال: «من جهز غازيا في
1 / 3
سبيل الله فقد غزا ومن خلف غازيا في أهله بخير فقد غزا» متفق عليه.
وعن أبي هريرة ﵁ قال رسول الله ﷺ: «إن مما يلحق المؤمن من عمله وحسناته بعد موته علما علمه ونره وولدا صالحا تركه أو مصحفا ورثه أو مسجدا بناه أو بيتا لابن سبيل بناه أو نهرا أجراه او صدقة أخرجها من ماله في صحته وحياته تلحقه من بعد موته» رواه ابن ماجه وابن خزيمة.
ورواه البزار من حديث أنس إلا أنه قال: «سبع تجري للعبد بعد موته وهو في قبره من علم علما أو كرى نهرا أو حفر بئرا أو غرس نخلا أو بنى مسجدا أو ورث مصحفا أو ترك ولدا يستغفر له بعد موته» .
1 / 4
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الواحد القهار العزيز الغفار مقدر الأقدار ومصرف الأمور على ما يشاء ويختار ومكور الليل على النهار.
الواحد الأحد الفرد العليم الحكيم الذي أيقظ من خلقه من اصطفاه فأدخله في جملة الأخيار ووفق من اختار من عبيده فجعله من الأبرار.
وبصر من أحبه من خلقه للحقائق فزهدوا في هذا الدار فاجتهدوا في مرضاته والتأهب لدار القرار.
وبعد فإني لما نظرت في غفلتي عن اكتساب الزاد المبلغ ليوم المعاد ورأيت أوقاتي قد ضاعت فيما لا ينفعني في معادي ورأيت استعصاء نفسي عما يؤنسني في رمسي لا سيما والشيطان والدنيا والهوى معها ظهير.
فعزمت إن شاء الله تعالى على أن أجمع في هذا الكتاب ما تيسر من المواعظ والنصائح والخطب والحكم والأحكام والفوائد والقواعد والآداب وفضائل الأخلاق المستمدة من الكتاب والسنة ومن كلام العلماء الأوائل والأواخر المستمد منهما ما أرجو من الله العلي أن يستغني به الواعظ والخطيب والمرشد وغيرهم راجيا من الله الحي القيوم ذي الجلال والإكرام الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد القوي العزيز الرءوف الرحيم اللطيف الخبير أن ينفع به وأن يأجر من يطبعه وقفا لله تعالى أو يعين على طباعته أو يتسبب لها وسميته «مفتاح الأفكار للتأهب لدار القرار»
عبد العزيز بن محمد بن سلمان
1 / 5
بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين
قال تعالى: ﴿وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ﴾ [البقرة: ٢٨١] . وقال ﵎: ﴿يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا﴾ [النحل: ١١١] الآية. وقال ﵎: ﴿وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ وَلَن يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاء أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ . وقال جل وعلا: ﴿أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ﴾ [الزمر: ٥٨] . وقال تعالى: ﴿هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَّا أَسْلَفَتْ﴾ [يونس: ٣٠] وقال تعالى: ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾ [آل عمران: ١٨٥] . وقال تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾ [المؤمنون: ١٠٠] الآيات. وقال جل وعلا: ﴿وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ [مريم: ٣٩] . وقال تعالى: ﴿وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون﴾ [الزمر: ٤٨] . وقال تعالى: ﴿وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِن مَكَانٍ بَعِيدٍ وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِن قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ﴾
1 / 6
[سبأ: ٥٣] . وقال تعالى: ﴿قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُؤُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ﴾ [السجدة: ١٢] .
وقال تعالى: ﴿وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُم مِّنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ إِن كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ﴾ [يس: ٥٣] . وقال تعالى: ﴿ونفخ في الصور فصعق من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله وكل أتوه داخرين﴾ . وقال تعالى: ﴿اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مَّعْرِضُونَ﴾ [الأنبياء: ١] . وقال تعالى: ﴿وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ﴾ [غافر: ١٨] . وقال تعالى: ﴿وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ وَجَاءتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ لَقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ﴾ [ق: ٢٢] . وقال تعالى: ﴿أَزِفَتْ الْآزِفَةُ لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ﴾ [النجم: ٥٨] . وقال تعالى: ﴿يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَّا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَن شَاء اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا إِنَّا أَنذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ﴾ [النبأ: ٤٠] . وقال تعالى: ﴿فَإِذَا جَاءتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنسَانُ مَا سَعَى﴾ [النازعات: ٣٥] . وقال تعالى: ﴿فَإِذَا جَاءتِ الصَّاخَّةُ * يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ﴾ [عبس: ٣٥] . وقال تعالى: ﴿وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى﴾ [الفجر: ٢٣] .
1 / 7
الأحاديث
وعن ابن عمر ﵄ أن رسول الله ﷺ قال: «ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده» . متفق عليه، وعن ابن عمر قال: أخذ رسول الله ﷺ بمنكبي فقال: «كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل، وكان ابن عمر ﵄ يقول: «إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك ومن حياتك لموتك» . رواه البخاري، وقال ﷺ: «أكثروا ذكر هادم اللذات، يعني الموت» رواه الترمذي. وقال حديث حسن، وقال ﷺ: «بادروا بالأعمال سبعا، هل تنتظرون إلا فقرًا منسيا أو غنى مطغيًا أو مرضًا مفسدًان أو هرمًا مفندًا أو موتًا مجهزًا أو الدجال فشر غائب ينتظر أو الساعة فالساعة أدهى وأمر» . رواه الترمذي عن أبي هريرة ﵁ أن رسول الله ﷺ قال: «لا يتمنى أحدكم الموت إما محسنًا فلعله يزداد وإما مسيئًا فلعله يستعتب» متفق عليه. وفي رواية مسلم عن أبي هريرة عن رسول الله ﷺ قال: «لا يتمنى أحدكم الموت ولا يدع به من قبل أن يأتيه إنه إذا مات ابن آدم انقطع عمله وإنه لا يزيد المؤمن عمره إلا خيرًا» . وعن أنس ﵁ قال: قال رسول الله ﷺ: «لا يتمنين أحدكم الموت لضر أصابه فإن كان لا بد فاعلًا فليقل اللهم أحيني ما كانت الحياة خيرًا لي وتوفني إذا كانت الوفاة خيرًا لي» . متفق عليه.
١- "موعظة"
إخواني إن في مواعظ الأيام والليالي لعبرة لذوي البصائر ركائب أموات تزعج عن مقصورات القصور ثم تحمل إلى مضائق القبور، فكم قد شاهدتم
1 / 8
من شخصيات في الأرض، قد وضعت، وكم قد عاينتم من أبدان ناعمة قد لفت وإلى مضيق الألحاد قد زفت فيا لها من غاية يستبق إليها العباد ويا له من مضمار يتناوبه جواد بعد جواد ويا له من هول شديد يعقبه أهوال شداد فتنة قبور وحشر في موقف مهيل موقف فيه تنقطع الأنساب وتخضع فيه الرقاب وتنسكب فيه العبرات وتتصاعد فيه الزفرات ذلك موقف تنشر فيه الدواوين، وتنصب فيه الموازين، ويمد فيه الصراط، وحينئذ يقع الامتياز فناج مسلم ومكردس في النار.
شعرًا:
قُمْ فِي ظَلامِ اللَّيْلِ وَاقْصُدْ مَهَيْمنًا ... يَرَاكَ إِليه في الدُّجَى تَتَوَسَّلُ
وَقُلْ يَا عَظْيْمَ العَفْوِ لاَ تَقْطَع الرَّجا ... فَأَنْتَ الْمُنَى يَا غَايِتِي وَالْمُؤَمَّلُ
فَيَا رَبَّ فاقْبَل تَوْبَتِي بِتَفَضُلٍ ... فَمَا زَلْتَ تَعْفُو عَنْ كَثِيْرٍ وَتَمْهَلُ
فَإِنْ أَنْتَ لَمْ تَعْفُو وَأَنْتَ ذَخِيْرَتِي ... لِمَنْ أَشْتَكِى حَالِي وَمَنْ أَتَوَسَّلُ
حَقِيْقٌ لِمَنْ أَخْطَأَ وَعَادَ لِمَا مَضَى ... وَيَبْقَى عَلَى أَبْوَابِهِ يَتَذَلَّلُ
وَيَبْكِي عَلَى جِسْمٍ ضَعِيْفٍ مِن البِلَى ... لَعَلَّ يَجُودُ السَّيْدُ الْمُتَفَضِّلُ
رَجَوْتُ إِلَهِي رَحْمَةً وَتَفَضُّلًا ... لِمَنْ تَابَ مِن زَلاَّتِهِ يَتَقَبَّلُ
اللهم اجعلنا من المتقين الأبرار وأسكنا معهم في دار القرار، اللهم وفقنا بحسن الإقبال عليك والإصغاء إليك ووفقنا للتعاون في طاعتك والمبادرة إلى خدمتك وحسن الآداب في معاملتك والتسليم لأمرك والرضا بقضائك والصبر على بلائك والشكر لنعمائك، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وآله أجمعين.
1 / 9
(فصل)
قال بعض العلماء: من عجيب ما نقدت من أحوال الناس كثرة ما ناحوا على خراب الديار وموت الأقارب والأسلاف والتحسر على الأرزاق بذم الزمان وأهله وذكر نكد العيش فيه.
وقد رأوا من انهدام الإسلام وموت السنن وظهور البدع وارتكاب المعاصي وتقضي العمر في الفارغ الذي لا يجدي والقبيح الذي يوبق ويؤذي. فلا أجد أحدًا منهم ناح على دينه ولا بكى على فارط عمره ولا آسى على فائت دهره.
وما أرى لذلك سببًا إلا قلة مبالاتهم في الأديان وعظم الدنيا في عيونهم.
ضد ما كان عليه السلف الصالح يرضون بالبلاغ وينوحون على الدين اهـ.
وكتب بعضهم إلى صديق له يشاوره في شيء من أمر الدنيا فكان الجواب: اطلب الدنيا على قدر مكثك فيها، واطلب الآخرة على قدر حاجتك إليها.
وقال يحيى بن معاذ: لست آمركم بترك الدنيا آمركم بترك الذنوب، ترك الدنيا فضيلة وترك الذنوب فريضة وأنتم إلى إقامة الفريضة أحوج منكم إلى الحسنات.
وقال: لا تكن ممن يفضحه يوم موته ميراثه ويوم حشره ميزانه.
وقال إبراهيم الخواص: دواء القلب في خمسة أشياء: قراءة القرآن بالتدبر، وخلاء البطن، وقيام الليل، والتضرع عند السحر، ومجالسة الصالحين.
وقال: على قدر إعزاز المرء لأمر الله يلبسه الله من عزه، ويقيم له العز في قلوب المؤمنين.
1 / 10
وقال في الفنون لقد عظم الله الحيوان لا سيما ابن آدم حيث أباحه الشرك عند الإكراه وخوف الضرر على نفسه فقال جل وعلا: ﴿إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ﴾ [النحل: ١٠٦] .
من قدم حرمة نفسك على حرمته حتى أباحك أن تتوقى وتحامي عن نفسك بذكره بما لا ينبغي له سبحانه.
فحقيق أن تعظيم شعائره وتوقر أوامره وزواجره وعصم عرضك بإيجاب الحد بقذفك وعصم مالك بقطع مسلم في سرقته.
وأسقط شطر الصلاة لأجل مشقتك وأقام مسح الخف مقام غسل الرجل إشفاقًا عليك من مشقة الخلع واللبس وأباحك الميتة سدة لرمقك وحفظًا لصحتك، وزجرك عن مضارك بحد عاجل ووعيد آجل، وخرق العوائد لأجلك وأنزل الكتب إليك.
أيحسن بك مع هذا الإكرام أن تُرى على ما نهاك منهمكًا وعما أمرك متنكبًا وعن داعيه معرضًا ولسنته هاجرًا ولداعي عدوك فيه مطيعا.
يعظمك وهو هو وتهمل أمره وأنت أنت وهو حط رتب عباده لجلك وأهبط إلى الأرض من امتنع من سجدة يسجد لأبيك.
هل عاديت خادمًا طالت خدمته لك لترك صلاة، هل نفيته من دارك للإخلال بفرض أو لارتكاب نهي، اهـ.
قلت وفي وقتنا هل أخرجت الملاهي والمنكرات من بيتك؟ هل منعت الأجانب والأجنبيات سواقين وخدمات من بيتك؟
1 / 11
فائدة
وقف قوم على عالم فقالوا إنا سائلوك أفمجيبنا أنت قال سلوا ولا تكثروا، فإن النهار لن يرجع والعمر لن يعود، والطالب حثيث في طلبه، قالوا فأوصنا، قال تزودوا على قدر سفركم فإن خير الزاد ما أبلغ البغية، ثم قال الأيام صحائف الأعمار فخلدوها أحسن الأعمال، فإن الفرص تمر مر السحاب، والتواني من أخلاق الكسالى والخوالف، ومن استوطن مركب العجز عثر به، وتزوج التواني بالكسل فولد بينهما الخسران اهـ.
اللهم يا هادي المضلين ويا راحم المذنبين، ومقيل عثرات العاثرين، نسألك أن تلحقنا بعبادك الصالحين الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين آمين يا رب العالمين.
اللهم يا عالم الخفيات، ويا رفيع الدرجات، يا غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول لا إله إلا أنت إليك المصير.
نسألك أن تذيقنا برد عفوك، وحلاوة رحمتك، يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وآله وصحبه أجمعين.
[فصل في بعض ذكر فوائد ذكر الموت]
اعلم أن في ذكر الموت فوائد عديدة من ذلك أنه يردع عن المعاصي، ويلين القلب القاسي.
ثانيًا: يذهب الفرح والسرور بالدنيا، ويزهد فيها، ويهون المصائب.
ثالثًا: التأثر في مشاهدة المحتضرين الذين تخرج أرواحهم، فإن في النظر إليهم ومشاهدة سكراتهم عند نزع أرواحهم، وشخوص أبصارهم عند
1 / 12
نزعها، وعجزهم عن الكلام، عند تسلل الروح من الجسد.
وتأمل صورهم بعد خروج الروح ما يقطع عن النفوس لذاتها ويطرد عن القلوب مسراتها ويمنع الجفون من النوم ويمنع الأبدان من الراحة، ويبعث على الجد والاجتهاد في العمل للآخرة.
فروي أن الحسن البصري دخل على مريض يعوده فوجده في سكرات الموت، فنظر إلى كربه وشدة ما نزل به فرجع إلى أهله بغير اللون الذي خرج به من عندهم.
فقالوا له الطعام فلم يأكل: وقال: فو الله لقد رأيت مصرعًا لا أزال أعمل له حتى اللقاء.
الرابع: مما يلين القلوب القاسية زيارة القبور.
فإنها تبلغ من القلوب ما لا يبلغه الأول والثاني والثالث لأنها تذكر بالآخرة.
وَلَمْ أَرَى كَالْمَواتِ أَفْجَعَ مَنْظَرًا ... وَلاَ وَاعِظِي جُلاَّسِهم كَالْمَقَابِرِ
آخر:
وَعَظَتْكَ أَجْدَاثٌ وَهُنْ صُمُوْتُ ... وَأَصْحَابُهَا تَحْتَ التُرَابِ خُفُوْتُ
الخامس: زيارة المستشفيات والمستوصفات فإنها تلين القلوب وتحث الإنسان على حمد الله وشكره، وعلى الجد والاجتهاد فيما يعود نفعه على الإنسان في الآخرة.
وينبغي للإنسان أن يقوي ظنه بالله ويستحضر رحمته ورأفته ولطفه بعباده ولا سيما عند الاحتضار.
قال ﷺ: «لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله» . رواه مسلم
1 / 13
وفي حديث أبي هريرة عن رسول الله ﷺ أنه قال: «قال الله ﷿: أنا عند ظن عبدي بي» . الحديث متفق عليه.
ولا ريب أن حسن الظن برب العالمين الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى الحليم الكريم الجواد الرحمن الرحيم الرءوف بالعباد الغني عنا وعن أعمالنا وعن تعذيبنا وعقابنا.
من أعظم ما نتقرب به إليه ومن أجزل ما نتوجه به عليه.
أي عبادة أعظم من حسن ظننا برب العالمين مع الخوف من معاملته إيانا بعدله.
فالعاقل يكون بين الخوف والرجاء لكن يغلب الرجاء عند الاحتضار ويحسن الظن بالكريم الغفار ويستحضر أنه قادم على أكرم الأكرمين. وأجود الأجودين البر الرحيم.
وإن حصل أن يتلى عند المحتضر آيات الرجاء وأحاديث الرجاء ليقوي ظنه بالله تعالى أجود الأجودين وأكرم الأكرمين.
ومن آيات الرجاء قوله جل وعلا وتقدس: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ [الزمر: ٥٣] .
وقال تعالى: ﴿وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ﴾ [الأعراف: ١٥٦] . وقوله: ﴿وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا﴾ [الفرقان: ٧٠] .
وقوله: ﴿إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ
1 / 14
وَمَن يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا﴾ [النساء: ٤٨] .
ومن أحاديث الرجاء ما ورد عن عمر بن الخطاب ﵁ قال: قدم على رسول الله بسبي فإذا امرأة من السبي تسعى إذا وجدت صبيًا في السبي أخذته فالزقته ببطنها فأرضعته.
فقال رسول الله ﷺ: «أترون هذه المرأة طارحة ولدها في النار قلنا لا يا رسول الله فقال: الله أرحم بعباده من هذه بولدها» . متفق عليه.
وورد عنه ﷺ أنه قال: «فإن الله حرم على النار من قال: لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله» . متفق عليه.
وقال ﷺ: «لما خلق الله الخلق كتب في كتاب فهو عنده فوق العرش: إن رحمتي تغلب غضبي وفي رواية غلبت غضبي وفي رواية سبقت غضبي» . متفق عليه.
وروي عن الإمام أحمد أنه لما حضرته الوفاة قال لولده عبد الله: الق علي أحاديث الرجاء.
لأن المؤمن إذا سمع آيات الرجاء وأحاديث الرجاء قوي حسن ظنه بربه ﷿ واشتاق إلى لقاء سيده ومولاه الذي هو أرحم به من والديه وأولاده فعند ذلك تهون عليه سكرات الموت إذا أراد الله.
إِذَا اشْتَكَتْ مِنْ كَلالِ السَّيْرِ أَوْ عَدَهَا ... وَصْلَ الْمُحبِّ فَتَحْيَا عِنْدَ مِيْعَادِ
والمهم أنه يحرص كل الحرص على تقوية حسن ظنه برب العالمين ثم اعلم أن للموت سكرات قال الله جل وعلا وتقدس: ﴿وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ﴾ [ق: ١٩] .
وقيل إن الأعضاء يسلم بعضها على بعض ففي تذكرة القرطبي عن أنس
1 / 15
مرفوعًا «إن العبد ليعالج كرب الموت وإن مفاصله ليسلم بعضها على بعض يقول السلام عليك تُفارقني وأفارقك إلى يوم القيامة» .
أي يودع بعضها بعضًا.
خُلقْنَا لأِحْدَاث الليالي فَرائِسًا ... تُزَفُ إِلِى الأَجْدَاثِ مِنَّا عَرَائِسًا
تُجَهِّزُ مِنَّا لِلْقُبُورِ عَسَاكِرًا ... وَتُرْدِفُ أعوادَ الْمُنايَا فَوارِسًا
إِذَا أمَلٌ أرْخَى لَنَا مِنْ عِنَانِهِ ... غَدَا أَجَلٌ عَمَّا نُحَاوِلُ حَابِسًا
أَرَى الْغُصْنَ لَمَّا اجْتُثُّ وَهو بِمَائِهِ ... رَطيبًا وَمَا أنْ أَصْبَحَ الْغُصْن يَابِسًا
نَشِيدُ قُصورًا لِلْخُلُودِ سَفَاهَةً ... وَنَصْبِر مَا شِئْنَا فَتورًا دَوَارسًا
اللهم وفقنا لصالح الأعمال، ونجنا من جميع الأهوال، وأمنا من الفزع الأكبر يوم الرجف والزلزال، واغفر لنا ولوالدينا، ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين، وصلى الله على محمد وآله وصحبه أجمعين.
(فصل)
اعلم وفقنا الله وإياك وجميع المسلمين لما يحبه ويرضاه أن كثرة ذكر الموت تردع عن المعاصي وتلين القلب القاسي، وتذهب الفرح بالدنيا وزينتها وزخارفها ولذاتها.
وتحثك على الجد والاجتهاد في الطاعات وإصلاح أحوالك وشئونك والتنسخ من حقوق الله وحقوق خلقه، وتنفيذ الوصايا وأداء الأمانات والديون.
قال بعضهم فضح الدنيا والله هذا الموت فلم يترك فيها لذي عقل فرحًا.
1 / 16
وقال آخر ما رأيت عاقلًا قط إلا وجدته حذرًا من الموت حزينًا من أجله.
وقال آخر من ذكر الموت هانت عليه مصائب الدنيا.
وقال آخر: من لم يخفه في هذه الدار ربما تمناه في الآخرة فلا يؤتاه.
وقال آخر يوصي أخًا له: يا أخي احذر الموت في هذه الدار من قبل أن تصير إلى دار تتمنى بها الموت فلا يوجد.
وقال آخر: وأما ذكر الموت والتفكر فيه، فإنه وإن كان أمرًا مقدرًا مفروغًا منه، فإنه يكسبك بتوفيق الله التجافي عن دار الغرور، والاستعداد والإنابة إلى دار الخلود، والتفكر والنظر فيما تقدم عليه وفيما يصير أمرك إليه.
ويهون عليك مصائب الدنيا ويصغر عندك نوائبها، فإن كان سبب موتك سهلًا وأمره قريبًا فهو ذاك، وإن كانت الأخرى كنت مأجورًا مع النية الصالحة فيما تقاسيه، مثابًا على ما تتحمله من المشاق.
واعلم أن ذكر الموت وغيره من الأذكار إنما يكون بالقلب وإقبالك على ما تذكره. قال الله جلا جلاله وتقدست أسماؤه: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ﴾ [ق: ٣٧] . فأي فائدة لك رحمك الله في تحريك لسانك إذا لم يخطر بقلبك.
وإنما مثل الذكر الذي يعقب التنبيه، ويكون معه النفع والإيقاظ من الغفلة والنوم أن تحضر المذكور قلبك وتجمع له ذهنك وتجعله نصب عينيك من ولد أو أهل أو مال أو غير ذلك، فتعلم علمًا لا يشوبه شك أنك مفارقة إما في الحياة أو في الممات، وهذه سنة الله الجارية في خلقه وحكمه المطرد.
وتُشعْر هذا قلبك وتفرغ له نفسك فتمنعها بذلك عن الميل إلى ذلك المحبوب والتعلق به والهلكة بسببه.
1 / 17
فَعُقْبَى كَلِّ شَيءٍ نَحْنُ فِيِهِ ... مِن الْجَمْع الكثيفِ إِلَى شَتَاتِ
وَمَا حُزْنَاهُ مِن حِلِّ وَحُرْمٍ ... يُوَزَّعُ فِي البَنِيْنِ وَفِي البَنَاتِ
وَفِيْمَنْ لَمْ نَؤَهِّلْهُمْ بِفَلسٍ ... وقِيْمَةِ حَبّةٍ قَبْلَ الْمَمَاتِ
وَتَنْسَانَا الأَحِبَّةُ بَعْدَ عَشْر ... وَقَد صِرْنَا عِظامًا بَالِيَاتِ
كَأَنَّا لَمْ نُعَاشِرهُم بِوُدِّ ... وَلَمْ يَكُ فيهِمُ خِلِّ مُؤاتِ
والله أعلم وصلى الله على محمد وآله وسلم.
(فصل)
واعلم رحمك الله أن مما يعنيك على الفكرة في الموت ويفرغك له ويكثر اشتغال فكرك به تذكر من مضى من إخوانك وخلانك وأصحابك وأقرانك وزملائك وأساتذتك ومشايخك الذين مضوا قبلك وتقدموا أمامك.
كانوا يحرصون حرصك ويسعون سعيك، ويأملون أملك، ويعملون في هذه الدنيا عملك وقصت المنون أعناقهم وقصمت ظهورهم وأصلابهم، وفجعت فيهم أهليهم وأحباءهم وأقرباءهم وجيرانهم فأصبحوا آية للمتوسمين وعبرة للمعتبرين.
ويتذكر أيضًا ما كانوا عليه من الاعتناء بالملابس ونظافتها ونضرة بشرتهم، وما كانوا يسحبونه من أردية الشباب وأنهم كانوا في نعيم يتقلبون، وعلى الأسرة يتكئون، وبما شاءوا من محابهم يتنعمون.
وفي أمانيهم يقومون ويقعدون، لا يفكرون بالزوال، ولا يهمون بانتقال، ولا يخطر الموت لهم على بال، قد خدعتهم الدنيا بزخارفها، وخلبتهم وخدعتهم برونقها، وحدثتهم بأحاديثها الكاذبة، ووعدتهم بمواعيدها المخلفة الغرارة.
1 / 18
فلم تزل تقرب لهم بعيدها، وترفع لهم مشيدها، وتلبسهم غضها وجديدها، حتى إذا تمكنت منهم علائقها، وتحكمت فيهم رواشقها، وتكشفت لهم حقائقها، ورمقتهم من المنية روامقها.
فوثبت عليهم وثبة الحنق وأغصتهم غصة الشرق، وقتلتهم قتلة المختنق، فحكم عليهم من عيون باكية، ودموع جارية، وخدود دامية، وقلوب من الفرح والسرور لفقدهم خالية. وأنشدوا في هذا المعنى:
وَرَيَّانَ مِن مَاءِ الشَّبَابِ إِذَا مَشَىْ ... يَمِيْدُ عَلَى حُكْم الصِّبَا وَيَمِيْدُ
تَعَلْقَ مِن دُنْيَاهُ إِذَا عَرَضَتْ لَهُ ... خَلوبًا لألْبابِ الرِّجَالِ تَصِيْدُ
فَأَصْبَحَ مِنْهَا فِي حَصِيْدٍ وَقَائِم ... وَلِلْمَرْءِ مِنْهَا قَائمٌ وَحَصِيْدُ
خَلاَ بِالأمانِي واسْتَطَابَ حَدِيْثَها ... فَيَنْقُصُ مِن أَطْمَاعِهِ وَيَزِيْدُ
وَأدْنَتْ لَهُ الأَشْيَاءَ وَهيَ بَعَيْدَةٌ ... وَتَفْعَلُ تُدْنِي الشَّيءَ وَهْوَ بَعَيِْدُ
أتِيْحَتْ لَهُ مِن جَانِب الْمَوتِ رَمْيَةً ... فَراحَ بِهَا الْمَغْرُوْرُ وَهْوَ حَصِيْدُ
وَصَارَ هَشِيْمًا بَعْدَمَا كَانَ يَانِعًا ... وَعَادَ حَدِيْثا يَنْقَضِيْ وَيَبِيْدُ
كَأَنْ لَمْ يَنَلْ يَومًا مِن الدَّهْرِ لَذَّةً ... وَلاَ طَلَعَتْ فِيْهِ عَلَيْه سُعُوْدُ
تَبَارَكَ مَن يُجْرِيْ عَلَى الْخَلْقِ حُكْمَهُ ... فَلَيْسَ لِشَيءٍ مِنْهُ عنه مَجِيْدُ
انتهى
اللهم اسلك بنا مسلك الصادقين الأبرار، وألحقنا بعبادك المصطفين الأخيار، وأتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار.
اللهم أحي قلوبًا أماتها البعد عن بابك، ولا تعذبنا بأليم عقابك يا أكرم من سمح بالنوال وجاد بالإفضال، اللهم أيقظنا من غفلتنا بلطفك وإحسانك، وتجاوز عن جرائمنا بعفوك وغفرانك، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين
1 / 19
الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
(فصل)
ثم اعلم أيها الأخ أنه ما من ساعة تمر على العبد لا يذكر الله فيها إلا تأسف وتحسر على فواتها بغير ذكر الله ولذلك ينبغي للعاقل أن يجعل معه شيئًا يذكره لذكر الله كلما غفل عنه.
ويُقال إن العبد تعرض عليه ساعات عمره في اليوم والليلة فيراها خزائن مصفوفة أربع وعشرين خزانة فيرى في كل خزانة أمضاها في طاعة الله ما يسره. فإذا مرت به الساعات التي غفل فيها عن ذكر الله رآها فارغة ساءه ذلك وتندم حين لا يفيده الندم.
وأما الساعات التي كان يذكر الله فيها فلا تسأل عن سروره فيها وفرحه بها حتى يكاد أن يقتله الفرح والسرور. قال بعضهم أوقات الإنسان أربعة لا خامس لها النعمة، والبلية، والطاعة، والمعصية.
ولله عليك في كل وقت منها سهم من العبودية.
فمن كان وقته الطاعة لله فسبيله شهود المنة من الله عليه أن هداه ووفقه للقيام بها.
ومن كان وقته المعصية فعليه بالتوبة والندم والاستغفار.
ومن كان وقته النعمة فسبيله الشكر والحمد لله والثناء عليه.
ومن كان وقته البلية فسبيله الرضا بالقضاء والصبر والرضا رضى النفس عن الله، والصبر ثبات القلب بين يدي الرب. اهـ.
العمر إذا مضى لا عوض وما حصل لك منه لا قيمة له. فعمر الإنسان
1 / 20