Method for Preparing the Friday Sermon
منهج في إعداد خطبة الجمعة
Penerbit
وزارة الشئون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد
Lokasi Penerbit
المملكة العربية السعودية ١٤١٩ هـ
Genre-genre
[مقدمة]
منهج في إعداد خطبة الجمعة
Halaman tidak diketahui
للدكتور صالح بن عبد الله بن حميد (١)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن دعا بدعائه واهتدى بهداه أما بعد. . .
فإن الخطيب والواعظ له دور كبير وأثر بالغ في بيئته ومجتمعه وسامعيه وقومه، فهو قرين المربي والمعلم، ورجل الحسبة والموجه، وبقدر إحسانه وإخلاصه يتبوأ من قلوب الناس مكانا، ويضع الله له قبولا قد لا يزاحمه فيه أصحاب الوجاهات ولا يدانيه فيه ذوو المقامات، ومرد ذلك إلى حسن الإجادة وجودة الإفادة والقدرة على التأثير المكسو بلباس التقوى والمدَثَّر بدثار الإخلاص والورع.
وهذه كلمات في إعداد الخطبة وصفات الخطيب.
_________
(١) هو معالي الدكتور صالح بن عبد الله بن محمد بن حميد، ولد في مدينة بريدة عام ١٣٦٩هـ، وتخرج من الثانوية العامة بمكة المكرمة عام ١٣٨٦هـ، كما نال الشهادة الجامعية من كلية الشريعة بمكة المكرمة جامعة أم القرى عام ١٣٩٥هـ، والماجستير في الفقه وأصوله عام ١٣٩٦هـ، وحصل على الدكتوراه بنفس التخصص السابق عام ١٤٠٢هـ، وتولى عددا من المناصب آخرها عضوا بمجلس الشورى، ومعاليه إمام وخطيب الحرم المكي.
1 / 3
حرصت أن تكون شاملة لخصائص الخطيب والخطبة ووجوه التأثير في الخطبة وإحسان إعدادها مقدما لذلك بمقدمة في مهمة الخطيب الشاقة وتعريف الخطبة وأنواعها وبيان أثرها.
ولقد دونت ما دونت على فترة من المشاغل وضيق في الوقت، مع أن عندي رغبة سابقة في الكتابة في هذا الموضوع غير أن ما قدمته هنا لم يحقق كل ما كنت أرومه وما خططته لنفسي، ولكنه إسهام تولد من الرغبتين رغبة مقام الوزارة ورغبة الكاتب.
والله وحده الموفق والمعين وهو حسبنا ونعم الوكيل وصلى الله على خير خلقه نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
مقدمة مهمة الخطيب مهمة شاقة ولا ريب، مشقة تحتم عليه أن يستعد الاستعداد الكافي في صواب الفكر وحسن التعبير وطلاقة اللسان وجودة الإلقاء.
مطلوب من الخطيب أن يحدث الناس بما يمس حياتهم ولا ينقطع عن ماضيهم، ويردهم إلى قواعد الدين ومبادئه، يبصرهم بحكمه وأحكامه برفق ويعرفهم آثار التقوى والصلاح في الآخرة والأولى، مهمته البعد عن المعاني المكرورة وجالبات الملل.
1 / 4
والدعوة إلى التجديد والتحديث والبعد عن المكرور، لا يغير من الحقيقة الثابتة شيئا وهي أن حياة الناس وأحوالهم في كل زمان ومكان صورة واحدة من تصارع الغرائز واضطراب النفوس وغليان الأحقاد، وفي مقابل ذلك تلقى أحوالا من البرود والانصراف والغفلة وعدم المبالاة.
والخطيب عليه أن يهدي الثائر، ويبعث الفاتر، ويطفئ ثورة الغريزة، ويخفض حدة الأحقاد، ويشيع روح المودة، ويبث الإخلاص والتعاون.
نعم إن حياة الناس صورة معادة وتغيرات متناوبة فأحداث اليوم هي أحداث الأمس والبواعث والمثيرات في الماضي هي ذاتها في الحاضر.
فإنسان الغابة هو إنسان المدَنيَّة، غير أن الأول يحارب بحجر والثاني يرمي بقنبلة، والأول قد يقتل واحدا أو اثنين والثاني يقتل عشرات ومئات، القوي في الغابة يستولي على مرعى أو بئر، أما قوي المدينة يستولي على قطر بأكمله، ويأكل قوت شعب بأكمله وشعوب برمتها ويستبد بمصادر طاقة وموارد حياة مصيرية.
إذا كان ذلك كذلك فكيف يكون الحال لو نجح الدعاة المصلحون في تهذيب الغرائز والتسامي بها؟
1 / 5
إن خطيب المسجد وواعظ الجماعة أشد فاعلية في نفوس الجماهير من أي جهاز من أجهزة التوجيه والحكم في المجتمع سواء أكان واليا أو رجل عسكر أو حارس أمن. . . إن الجمهور قد يهابون أمثال هؤلاء لكنهم قد لا يحبونهم، أما الخطيب بلسانه ورقة جنانه وتجرده، فيقتلع جذور الشر في نفس المجرم ويبعث في نفسه خشية الله، وحب الحق، وقبول العدل، ومعاونة الناس، إن عمله إصلاح الضمائر، وإيقاظ العواطف النبيلة في نفوس الأمة، وبناء الضمائر الحية، وتربية النفوس العالية في عمل خالص وجهد متجرد، يرجو ثواب الله ويروم نفع الناس.
ومن هذا فإنك ترى أن أداء الخطيب عمله على وجهه يكسوه بهاء وشرفا، ويرفعه إلى مكان علي عند الناس.
ولتعلم أن هذا ليس إطراء ولا مديحا، ولكنه تنبيه إلى شرف العمل ومشقته وعظم مسؤوليته ونقل رسالته، وما تتطلبه من حسن استعداد وشعور صادق بالمسؤولية.
وكيف لا يكون ذلك وهذه هي رسالة الأنبياء والصديقين والصالحين وحسن أولئك رفيقا؟ ولا غرابة أن يصادف إيذاء وعداء وحسبه أن يكون مقبولا عند الله والصفوة من عباد الله.
1 / 6
[مدخل]
مدخل لا يقصد من الكتابة عن الخطابة وأسسها ومبادئها وآدابها، أن تكون مادة يدرسها الدارس لتجعل منه خطيبا مفوَّها ومتحدثا مصقعا، إن الكتابة والأبحاث والمناهج لا تجعل من العيي فصيحا ولا اللسان المعقود طليقا، ولكن هذه الكتابات والدراسات والبحوث نبراس ومنار يضيء لصاحب الموهبة والاستعداد، مشعل ينمي الموهبة ومصباح ينير السبيل فلا يكون حاطب ليل.
هذه الكتابات والبحوث يتكون منها علم ينير الطريق ولا يحمل على السلوك، يرشد إلى الدرب ولا يقسر على السير.
وأنت خبير بأن السراج المنير لا يستفيد منه غير البصير أما ذو الرمد فغير منتفع، ويكفيك إشارة بأن الكاتب في علم الاقتصاد والعالم في أسسه وقواعده قد يكون أقل الناس مالا وأضعفهم موردا.
ومن حكم أفلاطون: "لكل أمر حقيقة، ولكل زمان طريقة، ولكل إنسان خليقة، فالتمس من الأمور حقائقها، وأَجْرِ الأزمنة على طرائقها، وعامل الناس على خلائقها".
[تعريف الخطبة وأغراضها وأثرها]
تعريف الخُطبة: بضم الخاء كلام منثور مسجوع ومرسل، أو مزدوج بينهما، غايته التأثير والإقناع.
1 / 7
ويقصد بها هنا الخطب التي تلقى على المنابر يوم الجمعة، بقصد حمل الناس على الخير، وترغيبهم فيه، وصرفهم عن الشر ودواعيه، وتبصيرهم بأحوالهم وواقع أمرهم حسب ما يقتضيه أمر الشرع.
والخطبة من جانب الخطيب مقدرة على التصرف في فنون الكلم، مرماها التأثير في نفس السامع ومخاطبة وجدانه.
أغراضها الدعوة إلى الصلاح والإصلاح، والاستمساك بأمور الشريعة، وإقامة الحق العدل، ونشر الفضائل، وتسكين الفتن، وفض المشكلات، وتهدئة النفوس الثائرة، وإثارة النفوس الفاترة، ترفع الحق، وتخفض الباطل، هي صوت المظلومين، وواعظ الظالمين، ولسان الهداية، ولقد نادى موسى ﵇ ربه ﴿قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي - وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي - وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي - يَفْقَهُوا قَوْلِي﴾ [طه: ٢٥ - ٢٨] فجاءه الجواب الرباني: ﴿قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى﴾ [طه: ٣٦]
والغرض هنا الإشارات إلى مجمل الأغراض، وسوف يزداد الأمر بيانا من خلال الحديث عن أنواع الخطب وخصائص
1 / 8
الخطب المنبرية.
والفقرة التالية في أثر الخطبة تعطي مزيد بسط في المقصود.
أثرها لا يكاد ينجح صاحب فكرة، أو ينتصر ذو حق، أو يفوز داعية إصلاح، إلا بالكلمة البليغة، والحجة الظاهرة، والخطبة الباهرة.
الخطيب المفوه يلحق بحجته، ويسبق إلى غايته، فيعلو سلطانه، ويتسع ميدانه.
ولهذا فإن القائد المحنك في الجيش يتميز فيما يتميز بذرابة لسانه وحسن خطابه، فيكون خطيبا مصقعا ولسنا مفوها، ولا يذكر حين يذكر إلا منذر الجيش نبينا محمد ﷺ، ومن بعده خطباء أصحابه أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، ثم من بعدهم من صالح سلف الأمة وأئمتها من علوا المنابر فأصغت لهم الآذان ودانت لهم الرقاب.
ولئن كانت الخطبة في بعض مساريها أو مساراتها طريقا للمجد الشخصي، فإنها في نبل غايتها وعظيم أثرها طريق للنفع العام والإصلاح الشامل.
1 / 9
والخطابة مظهر حضاري للمجتمع الراقي المستنير، يعلو قدرها، ويروج سوقها برقي المجتمع، وانتشار الثقافة فيه، كما أنها تخبو حين ضعفه وذلته.
وثمت جانب في التأثير آخر ينبغي مراعاته، وهو أن تأثير الخطيب في سامعيه ليس بالإلزام أو الإفحام، بل مرده إلى إثارة العاطفة، وحمله على الإذعان والتسليم، ولا يكون ذلك بالدلائل المنطقية تساق جافة، ولا بالبراهين العقلية تقدم عارية، ولكنه بإثارة العاطفة ومخاطبة الوجدان.
ومن هذا فإن الخطيب فد يستغني عن الدلائل العقلية ولكنه لا يمكن أن يستغني عن المثيرات العاطفية، ولعلك تدرك أن أكثر ما يعتمد عليه الخطيب في حمل السامعين على المراد مخاطبة وجدانهم والتأثير في عواطفهم.
إن الخطيب المرموق -كما هو معلوم- يأخذ سامعيه باستدراجه اللبق وكلماته الساحرة وصوته العذب المتردد انخفاضا وارتفاعا وإثارة وهدوءا ينشئ جوا عاطفيا مشحونا، وهذا معين في التأثير لا ينضب ولا يمل.
أما البراهين العقلية فجافة تجلب السآمة.
1 / 10
وحينما يذكر خطاب العاطفة وأثرها فلا يخطر بالبال أن ذلك يعني دغدغة العواطف بالكذب والتزييف، ومخالفة الأقوال للأفعال فهذا حبله قصير بل ضعيف واه، وهذا ما سيبدو موضحا في صفات الخطيب إن شاء الله.
[أنواع الخطبة]
أنواع الخطبة الناظر في أغراض الخطبة ومقاصدها ومتطلبات المجتمع من ذلك يستطيع إدراك أنواعها، وهذا سرد لأهم أنواعها:
١ - الخطب النيابية: وهي الخطب التي تكون في دور النيابة والشورى عاكسة ما يجري داخل هذه القاعات من مناقشات ومداولات وأسئلة واستجوابات مؤيدة ومعارضة.
٢ - الخطب الانتخابية: وهي خطب تعد وتلقى من أجل الترشيح والتزكية لشخص أو حزب أو مبادئ، مع ما يشتمل عليه ذلك من رد على المعارضين.
٣ - الخطب الثقافية: وهي ما يلقى في النوادي الثقافية والأنشطة العلمية والجامعية، وهي في العادة تتخذ مسارا ثقافيا وأدبيا وعلميا واجتماعيا وتوجيهيا بما يبتعد عن الأغراض السياسية والقضائية والوعظ، وتعلو النبرة فيه بما يعرف بالمعارك الأدبية بين المنتدين حسب اتجاهاتهم الأدبية، شعرا
1 / 11
ونثرا وتليدا وجديدا، وهو في العادة خطاب لطبقة مثقفة متأدبة ذات تميز ثقافي خاص.
٤ - الخطب القضائية: ويظهر هذا النوع في دور القضاء وقاعات المحاكم، حين ينبري المدَّعون بإلقاء حججهم والسعي في إثبات دعواهم، فيقابلهم المحامون بالدفاع عن موكليهم بأسلوب خطابي بليغ مؤثر ذي ألفاظ وإلقاء متميز وحركات مدروسة.
٥ - الخطب العسكرية: وهي ما يلقيه قائد العسكر على جنده وزملائه بغرض بث الروح المعنوية والقتالية فيهم وبيان شرف موقعهم وكرم موقفهم وشرح خططه العسكرية والميدانية بأسلوب انفعالي مؤثر.
٦ - خطب المنبر والمواعظ: وهذا هو محل البحث والنظر والتفصيل هنا، وهذا النوع يتجلى في أبهى صوره وكامل هيئته وانتظام شكله في خطب الجمعة المنبرية، وهي خطب أسبوعية دورية تتخذ أغراضا عدة وترمي إلى مقاصد متنوعة نشير في هذا التعريف إلى نماذج منها، إذ من المعلوم أن هذه المقاصد والأغراض تتجدد وتتنوع حسب حاجات الناس وتغير الأحوال وتقلب الظروف ودواعي التذكير.
1 / 12
** من هذه الأغراض: - تثبيت العقيدة وتقوية الإيمان.
- الدعوة إلى الإسلام والدفاع عنه وبيان مزاياه.
- خطب الإصلاح ومحاربة المنكرات.
- خطب ذات موضوع خاص أو مسألة مفردة من مسائل الإسلام كالصلاة والصوم وحقوق الوالدين والجوار وحرمة الزنا والخمر والسرقة ونحو ذلك، مما مقصد التذكير والوعظ والتعليم ونحو ذلك.
- معالجة القضايا المستجدة بنظرة شرعية.
٧ - أنواع أخرى: الأنواع السابقة ليست أنواعا حاصرة ولكنها تشير إلى الأنواع البارزة السائدة المتميزة في موضوعاتها ومقاصدها، وثمت أنواع أخرى غير شهيرة ذات موضوعات ومقاصد أخرى، كخطب النكاح والصلح والمدائح والمراثي والمناسبات الاجتماعية والمحافل الشعبية.
[إعداد الخطبة وبناؤها]
[توطئة]
إعداد الخطبة وبناؤها بعد ما سبق من مقدمات وممهدات في تعريف الخطبة وغرضها وأنواعها وأثرها هذا دخول في جزء مهم من مقاصد
1 / 13
هذا البحث، ذلكم هو جزء الإعداد والبناء، وسوف ينتظم ذلك الحديث عن: عناصر البناء وطريقة البناء.
توطئة لا يتوهم متوهم أن في إعداد الخطبة وتحضيرها ما يعيب القدرة أو يشكك في الأهلية، ولكن المعيب أن يتفوه المتصدر للخطابة وحديث الناس بكلام مبتذل لا قيمة له هزيل في معناه متهدم في مبناه.
على الخطيب أن يعلم أنه كالخائض غمار معركة عليه أن يتدرع بدروعها ويتترس بتروسها ويلبس لها لأمتها، ولا يكون ذلك إلا بالاستعداد والتهيؤ وأخذ العدة لكل موقف.
إن ذا الاطلاع الواسع والعلم الغزير إن لم يراجع نفسه حينا بعد حين ويفكر طويلا فيما يعتزم قوله ويزوق في نفسه أو قرطاسه من الألفاظ والعبارات المناسبة، فلسوف يهتز موقفه ويضعف أسلوبه ويتراخى أداؤه، ويتناقص عطاؤه، وينحدر في منجرف الابتذال السحيق وتكون معالجاته سطحية تفقد تأثيرها وتخسر جمهورها.
1 / 14
[عناصر البناء]
[الإيجاد والابتكار]
عناصر البناء من المعلوم مما سبق ويتأكد فيما سيأتي أن الخطبة وسائر الأعمال العلمية والأدبية تحتاج إلى أسس ثلاثة:
قلب مفكر، وبيان مصور، ولسان معبر.
فالأول يكون به إيجاد الموضوع وابتكاره وتوليده، وبالثاني تنسيقه وترتيبه ورصه، وبالثالث عرضه والتعبير به.
وهذا بسط لهذه العناصر.
الإيجاد والابتكار:
(القلب المفكر) وقد يعبر عنه بالاختيار (اختيار الموضوع) .
من المعلوم أن بواعث الاختيار متعددة، والخطيب كلما كان صادقا في قصده، مهتما بجمهوره وسامعيه، جادا في طرحه محترما لنفسه، فسوف يحسن الاختيار، ويقدح زناد فكره بجدية نحو الابتكار وحسن الاختيار، يضاف إلى ذلك الظروف المحيطة، والأحوال المستجدة، والأغراض الباعثة التي تستدعي الحديث عن بعض الوقائع والتعليق على بعض الأحداث والتفسير لبعض المواقف وتصحيح بعض المفاهيم، ونظر الخطيب الحصيف يدله على تقديم بعض وتأخير بعض وحسن التفسير ونوع التعليق.
1 / 15
[التنسيق والترتيب]
(البيان المصور) لا يخفى أن طريق البيان المصور هو الأسلوب.
للأسلوب سلطان لا يضعفه العقل وأثر لا يمحوه الدليل، الأسلوب ألفاظ وجمل ينطق بها المتكلم ويتحدث بها الخطيب لا تكاد تخرج من فيه حتى تعلو الهيبة وجوه السامعين وتمتد الأعناق له احتراما، ألفاظ وجمل تثير في النفوس صورا لا حد لها ولا انحصار، محفوفة بالإكبار والتقدير، إذا كان هذا هو بعض أثر الأسلوب وتأثيره فكيف يكون الشأن في المعنى المحكم وقد كسي بلفظ جميل وألقي بلفظ منسجم وعبارات تثير في النفس أخيلة وأماني؟
وينبغي أن يلحظ أن ثمت فرقا بين أسلوب الخطابة وغيرها من ألوان الكتابة والآداب، فالمستمع يتوجه نحو الخطيب بسمعه وذوقه وفكره فللكلمات أثر على السمع، وللجرس في النفس وقع، وللعقل فيه إدراك.
ومن أجل هذا فينبغي أن تكون ألفاظ الخطبة سهلة النطق لا يتعثر اللسان في إبرازها، ولا تتزاحم حروفها فلا تتقارب مخارجها ولا تتباعد، كما ينبغي أن تكون ذات جرس خاص يهز
1 / 16
النفس ويثير الشعور، وتكون الجمل ذات مقاطع قصيرة كل جملة كاملة في معناها.
إن من أهم خصائص الأسلوب الخطابي عنصر الشعور والوجدان والإثارة والتشويق، وإذا فقد ذلك فقد فقد أكبر خصائصه.
أسلوب التكرار والتفنن في التعبير عنصر في الخطابة هام، فالخطيب محتاج إلى تكرار فكرته ومغايرة تصويره، فمرة بالتقرير ومرة بالاستفهام وأخرى بالاستنكار ورابعة بالتهكم.
أما فن الإيجاز والإطناب فيختلف من حال إلى حال، فيراعى حال السامعين في إقبالهم ومللهم ونوع الموضوع وظروف الإلقاء وردود الفعل عند السامعين.
أما ألفاظ الخطبة وعباراتها فينبغي أن تتسم بالوضوح والبيان لتكون سهلة الإدراك من السامعين سريعة الإيصال إلى المقصود بعيدة عن الوحشي والتكلف.
وفي ذات الوقت تبقى محترمة غير مبتذلة تحفظ للخطيب وخطبته الهيبة والوقار وللموقف مكانته وجلاله.
فهي ألفاظ منتقاة في غير إغراب في أسلوب سهل ممتنع يفهمه الدهماء ولا يجفو عنه الأكفاء.
1 / 17
ومن الحذق في المعرفة أن يدرك الخطيب أن خطاب الحماس غير خطاب التألم، وحديث الترغيب غير حديث الترهيب، وأسلوب تعداد المفاخر وزرع الثقة غير أسلوب التواضع وذم الكبر والمتكبرين، والخطيب المتمرس هو الذي يضع كل نوع في موضعه ويختار لكل كلمة قالبها وميدانها.
أما السجع فيجمل منه ما ليس بمتكلف قصير الفقرات، سهل المأخذ يخف على السمع، ويحرك المشاعر بحسن جرسه، ويكون خفيفا سهلا إذا سلم من الغثاثة وجانب الركاكة، اللفظ فيه تابع للمعنى وليس المعنى تابعا للفظ، ذلك أن السجع حلية والحلية لا تحقق غرضها في الجمال ما لم تكن قليلة غير متكلفة حسنة التوزيع تبرز المحاسن ولا تغطيها.
ويرتبط بالسجع رعاية المقاطع والفواصل فتكون جملا قصيرة نظرا للفائدة عند الوقوف في آخرها، والجملة إذا طالت وتأخرت إفادتها للسامع أدركه الثقل والملل، وضاعت عليه الفائدة وحسن المتابعة.
[اللسان المعبر]
اللسان المعبر: ويقصد به الإلقاء وحسن الإجادة فيه، وقبل أن نبسط القول فيه يحسن التطرق لحديث مقارنة بين الارتجال والكتابة.
1 / 18
بين الارتجال والكتابة: كثير من الكاتبين والناقدين يستحسنون في الخطيب أن يلقي خطبه ارتجالا، فهذا عندهم أعظم أثرا وأكثر انفعالا وأقدر على إعطاء الموقف متطلباته من خفض ورفع وتهدئة وزجر، وقد يدون المرتجل عناصر مقولته في كلمات أو جمل يعاود النظر إليها بين فينة وفينة.
وقد يوجد في الخطباء من يعد الخطبة ويحسن تحبيرها ثم يحفظها حفظا عن ظهر قلب.
والارتجال بأنواعه وطرقه لا يكون مؤثرا ما لم يسبقه إعداد محكم وحبك للعناصر في النفس على نحو ما سبق في الكلام على الأسلوب.
وثمت فئة من الناس تكتب الخطبة وتلقيها من القرطاس وهو مسلك مقبول، ولكن ذلك لا يؤتي ثمرته ولا يحقق غايته، ما لم يكن الخطيب أحسن الإعداد وتأمل فيما كتب وأعاد النظر فيه تأملا وقراءة وإصلاحا وتخيرا للألفاظ وانتقاء للعبارات، بحيث يكون في إلقائه متفاعلا مع ما يقول مستوعبا لما يلقي ليحرك المشاعر ويثير العواطف ويستحسن أن يكون في قراءاته وإلقائه
1 / 19
مشرفا على السامعين بنظره بين فترة وأخرى ليعرف حالهم ويسبر مشاعرهم وانفعالاتهم.
الإلقاء: هو الغاية التي ينتهي إليها الإعداد والبناء، وهو الصورة التي يتلقى بها السامع حصيلة ما جاد به خطيبه، فلا يبقى للخطبة أثرها ولا لحسن الأسلوب وقعه ولا لجودة التحضير ثمرته ما لم يصب في قالب من الإلقاء يحفظ الجهد ويبقي المهابة ويشنف الأسماع، ومن أجل تحقيق ذلك يحسن مراعاة ما يلي:
جودة النطق: فيخرج الحروف مخارجها من غير تشدق أو تكلف فيلقيها حسنة صحيحة واضحة في يسر وترفق وتدفق.
مجانبة اللحن: ينبغي للخطيب أن يعتني عناية تامة باللغة العربية صرفا ونحوا فينطق لغة عربية صحيحة فصيحة، فاللحن يفسد المعنى ويقلب المقصود.
وإذا فسد المعنى أو التبس ذهب رونق الخطبة وبهاؤها وحسن وقعها، إضافة إلى فساد المعنى من حيت يدري أو لا يدري.
1 / 20
التمهل في الإلقاء: النطق السريع المتعجل يفقد المتابعة كما أنه قد يشوه إخراج الحروف فيختلط بعضها ببعض وتتداخل المعاني وتلتبس العبارات، وقد يؤدي به التعجل إلى إهمال الوقوف عند المقاطع ورعاية الفواصل.
ومن جهة أخرى فإن التمهل والترسل في الأداء من أول الدلائل على رباطة الجأش فيجمع للخطب الهدوء في الكلام، والأناة في النطق، والجزالة في الصوت.
وهذا التمهل الذي ندعو إليه لا ينبغي أن يقود إلى هدوء بارد وتثاقل مميت، ولكنه تمهل لا يعارض ما يطلب من الخطيب من خفض ورفع وعلو نبرات مما يبعث على الحياة وحسن المتابعة ودفع السآمة.
الحركات والإشارات: للإشارات والحركات أثرها أثناء الحدث والخطابة، ومن هذه الحركات ما هو لا إرادي فالغاضب يقطب جبينه ويعبس وجهه، وذو الحماس تنتفخ أوداجه وتحمر عيناه، ومنهم من تنقبض أصابعه وتنبسط، ومنهم من يبكي خشوعا ورقة ويعلو صوته حماسا وتفاعلا.
1 / 21