Men of the Ten Mu'allaqat
رجال المعلقات العشر
Genre-genre
المقدمة الأولى
في العرب والعربية
إجمال عن العرب قبل الإسلام
بلادهم ومواقعها
جزيرة العرب واقعة في الجنوب الغربي من آسيا، ويحيط بها البحر الأحمر وصحراء التيه المتصلة بترعة (السويس) من غربها والخليج الفارسي من شرقها وبحر عمان الذي هو قسم من بحر (الهند) من جنوبها والصحارى الممتدة بين بلاد الشام والفرات من شمالها.
ومساحتها ١.١٠٠.٠٠٠ ميل مربع. أو ٣.١٥٦.٥٥٨ كيلو مترا مربعا. أو ١٢٦.٠٠٠ فرسخ مربع. وقد عملنا حسابها بالميل والكيلو متر والفرسخ فجاء الحساب متقاربا.
ونفوسها اثنا عشر مليونا، وقيل عشرة ملايين.
وهي اليوم تقسم إلى ثمانية أقسام: القسم الأول: الحجاز وهو الواقع في الجنوب الشرقي من أرض (طور سيناء) على ساحل البحر الأحمر، وسمي حجازًا لأنه حاجز بين تهامة ونجد، وتهامة محصورة بين الحجاز واليمن. و(مكة المكرمة) و(المدينة المنورة) من هذا القسم. وفي وسط (مكة) مسجدها الجامع المسمى بالحرم والكعبة، في وسطه، وبجانبها الحجر الأسود، و(مكة) هي البلد الذي ولد فيه الرسول ونشأ وفيه أكرم بالنبوة، وتسمى أيضا (بكة) وقيل: إن (بكة) هو بطن مكة، وسمي بهذا لازدحام الناس فيه، لأنه يقال: بكه إذا زحمه، وتسمى (أم القرى) وكانت تسمى في القديم (الباس والباسة والبساسة) - وأما المدينة المنورة فكانت تسمى (يثرب) وهي دار هجرة الرسول وقطب نصرته وفيها قبره الطاهر.
ولكل من (مكة والمدينة) حرم له حدود مذكورة في كتب الفقه.
وأرض (تهامة) تحسب اليوم من الحجاز.
القسم الثاني: اليمن، وهو الواقع في جنوب الحجاز، وفي شماله بلاد (عسير) وفيه عدة مدن مشهورة بتجارة البن وهي (مخا وحديدة وعدن) . وفيه مدينة سبأ (مأرب) وصنعاء. وسميت اليمن بهذا الاسم لوقوعها عن يمين الكعبة إذا استقبلت المشرق كما أن بلاد الشام عن شمالها.
القسم الثالث: حضرموت، في شرق (اليمن) وعلى ساحل (بحر الهند) ومنه يخرج العود ذو الرائحة الزكية المعروف بالقاقلى.
القسم الرابع: إقليم مهرة في شرق (حضرموت) .
القسم الخامس: عمان، المتصل بالخليج الفارسي من الشمال، ومن الشرق والجنوب بحر الهند. ويوجد فيه قليل من النحاس.
القسم السادس: الحسا، ويجاوره جزائر (البحرين) بالخليج الفارسي، ويمتد على ساحله إلى نهر الفرات: وسكان هذا القسم يستخرجون اللؤلؤ القسم السابع: نجد، وأراضيه مرتفعة وهو في وسط الجزيرة بين الحجاز والحسا وصحارى الشام وإقليم اليمامة، وهو يتصل بالشام شمالا والعراق شرعا والحجاز غربا واليمامة جنوبا. وأرضه أطيب أرض في بلاد العرب. وفي نجد أرض (العالية) التي كان يحميها (كليب بن وائل بن ربيعة) حتى أفضى ذلك إلى قتله ونشوب (حرب البسوس) التي دامت أربعين سنة، حتى ضرب بها المثل: "أشام من حرب البسوس". وفيها جبل (عكاد) الذي لم تثبت العربية الفصحى بعد فسادها إلا في أهله.
وفي (نجد) كثير من الواحات والخيول الجميلة (المعروفة بالكحيل) وهي مرغوبة في بلاد الدنيا كافة. وفي جنوب نجد أرض اليمامة.
القسم الثامن: إقليم الأحقاف، وهو في أرض منخفضة في بلاد العرب وفي الجنوب الغربي من بلاد (عمان)، ويلحق به أرض (اليمامة) وكان هذا القسم معمورا بأقوام من الجبابرة يقال لهم (عاد)، وقد أهلكهم الله بريح عظيمة وأهال عليهم الرمال.
أما في القديم فكانت تقسم إلى ستة أقسام: الحجاز واليمن ونجد وتهامة والإحساء واليمامة.
فاليمامة: بين نجد واليمن وهي في جنوب نجد بين الإحساء شرقا والحجاز غربا، ومن مدائناها (اليمامة وهجر)، وتسمى (العروض) أيضا لأنها معترضة بين نجد واليمن.
وتهامة: تحسب اليوم من أرض الحجاز كما قدمنا، وهي واقعة بين اليمن جنوبا والحجاز شمالا.
والإحساء: تمتد على ساحل الخليج من (عمان) إلى أرض (بصرى)، وتسمى بالبحرين، ومن مدائنها (الإحساء والظهران والقطيف) .
والحجاز قد دخل فيه تهامة. واليمن انفصل عنه أقاليم حضرموت ومهرة عمان. ونجد دخل في اليمامة والإحساء.
أنسابهم وطبقاتهم
طبقات العرب ثلاث وهي:
1 / 1
العاربة الأولى: أو العرباء وتسمى (البائدة) وهم العرب الخلص الأولون، وقد ذهبت عنا تفصيلات أخبارهم لتقادم العهد، وقد كانوا شعوبا وقبائل كثيرة، وهم من ولد (إرم بن سام بن نوح) . وهم تسع قبائل (عاد وثمود وأميم وعبيل وطسم وجديس وعمليق وجرهم الأولى ووبار)، ومنهم تعلم إسماعيل جد الرسول العربية، وهم أقدم الأمم بعد قوم نوح وأعظمهم قدرة وأشدهم قوة وآثارا في الأرض، وقد انتقلوا إلى جزيرة العرب من (بابل) لما زاحمهم فيها بنو (حام) . ثم كان لكل فرقة منهم ملوك وآطام وقصور إلى أن غلب عليهم بنو (يعرب بن قحطان) .
وكانت مساكنهم في اليمامة من جزيرة العرب.
الطبقة الثانية: العرب العاربة الثانية، وبعضهم يسميها بالمتعربة، وهم من ولد (جرهم بن قحطان بن عابر) وعابر اسم هود ﵇، وكانت مساكنهم الحجاز، ويسمون أيضا بالعرب اليمانية، لأن مواطنهم كانت في اليمن. ومن العرب المتعربة أو العاربة الثانية (بنو سبأ) واسم سبأ (عبد شمس) فلما أكثروا الغزو والسبي سموا (سبأ) وهو (ابن يشجب بن يعرب بن قحطان)، وكان لسبأ عدة أولاد منهم (حمير وكهلان) . وجميع قبائل عرب اليمن وملوكها التبابعة من ولد سبأ المذكور ما عدا (عمران) وأخاه فإنهما ابنا (عامر بن حارثة بن امرئ القيس) . وكان هؤلاء العرب يغلب عليهم الميل إلى الحضارة، فسكنوا المدن وأسسوا الممالك، ومنهم ملوك الحيرة (أي المناذرة) وملوك الشام (أي الغسانيون) .
وكانت هذه الطبقة - أي العرب المتعربة - معاصرة أخيرا لإخوانهم من عرب تلك الطبقة أي العاربة الأولى، موالين لهم ومناصريهم. ولم يزالوا مجتمعين في رحاب بادية بعيدين عن الملك الذي كان لإخوانهم (العاربة الأولى) إلى أن تشعبت في الأرض فصائلهم وتعددت أفخاذهم وعشائرهم ونما عددهم، فزاحموا معاصريهم أبناء الطبقة الأولى، وانتهزوا فرصة اضمحلال دولتهم وانتزعوا منهم - على ما يقال - في القرن الثامن قبل المسيح ﵇، فاستجدوا بالي الدولة بما استأنفوا من عزهم.
وكان (قحطان بن عامر) أول من نزل اليمن وغلب عليها حتى ملكها ولبس التاج، وملك بعده ابنه (يعرب) وهو أول من نطق بالعربية وقيل بل أبوه قحطان أول من نطق بها من العرب المتعربة أي العاربة الثانية، وليس المراد أنه أول من نطق بها على الإطلاق لأنه قد كان للعرب جيل آخر وهم العاربة الأولى، ومنهم تعلم قحطان وابنه يعرب العربية.
وقد غلب (يعرب) على قوم (عاد) في اليمن وعلى (العمالقة) في (الحجاز) وولى إخوته جميع أعمالهم فولى (جرهما) على الحجاز وولى (عاد ابن قحطان) على الشحر، وولى (عمان بن قحطان) على بلاد (عمان) .
وكان من نسل (يعرب بن قحطان) التبابعة ملوك اليمن المشهورة بالحضارة والتمدن، وفي عصرهم حصل سيل العرم فأغرق اليمن وفرق السكان وجعلهم طوائف، كانت هذه الحادثة على ما يقال سنة (١٢٠) قبل المسيح ﵇، ويسمون (الغساسنة)، ومنها (آل المنذر) ملوك الحيرة من قبل الفرس ويسمون (المناذرة) .
الطبقة الثالثة: العرب المستعربة أي التابعة للعرب. ومنهم الرسول ﷺ ويقال لهم (العدنانيون) نسبة إلى (عدنان) وهو أول شعب اشتهر من ولد إسماعيل، وسموا بالمستعربة لأن أباهم (إسماعيل بن الخليل) ﵉ لم يكن عربيا بل جاء به أبوه إبراهيم الخليل مع أمه (هاجر) إلى مكة فتزوج إسماعيل ببنت (مضاض) سيد قبيلة (جرهم) وتكلم بالعربية وكانت لغته عبرانية. وقد تناسل منه جيل عظيم كانوا شعوبا وقبائل متفرقة بعضها بدو اعتاد المعيشة في البادية تحت الخيام ويقال لهم الأعراب. (ويسمى كل من سكن البادية أعرابا ولو كانوا غير عرب، ومفرد الأعراب أعرابي)، ويعيشون من ألبان الإبل والغنم ولحومها، وينتقلون من مكان إلى مكان في طلب العشب والماء. وبعضها حضر يسكن المدن كمكة والمدينة وجدة وغيرها ويقال لهم العرب. ولم يخضعوا قط لسلطة خارجة عنهم.
ومن ولد عدنان (معد) ومن معد (نزار)، واشتهر من أولاد نزار أربعة شعوب وهي: إياد وأنمار وربيعة ومضر.
وبنو (مضر) كانوا من أهل الكثرة والغلبة في الحجاز وقد انفردوا برياسة الحرم. واشتهر من قبائلهم (كنانة) ثم (قريش) التي منها النبي ﷺ.
1 / 2
وقريش كانت أشهر قبائلهم. وقد بلغت في القرن السادس من الميلاد المسيحي مبلغا عظيما من الشرف وعلو الهمة، وقد آلت إليها رياسة البيت الحرام، وكان لها نوع من السلطنة والمشورة على جميع قبائل العرب.
وكان التقدم في قريش لبني لؤي وكان سيدهم (قصيا) لما كان له فيهم من الشرف والقرابة والثروة والأولاد، وقد تولى رياسة الكعبة سنة (٤٤٠) بعد المسيح، وكان منه بنو (عبد مناف) وكان القائم بأمرهم (هاشما) ثم ابنه (المطلب) ثم أخاه (عبد المطلب) ثم أخاه (عبد المطلب) جد النبي ﵇.
وهناك طبقة خامسة نشأت بعد حضارة الإسلام إلى يومنا هذا، وهم العرب المستعجمة الذين فسدت لغتهم على تمادي الأيام بسبب مخالطتهم غير العرب، وقد مر عليهم أدوار انقرض فيها ما كان لهم من الدولة والسطوة في الجاهلية والإسلام. وهم قبائل عظيمة، وشعوب كثيرة، يسكنون الخيام ويجولون في البراري. وأشهرهم قبيلة (عنزة) و(صخر) و(سباعة) وغيرها.
وقد دخل كثير من العرب المدن، وسكنوا حواضر البلاد بعد الإسلام، واختلطوا بأهل البلاد الشامية والمصرية والمغربية، حتى صار يعد كل من تكلم العربية من أهل هذه البلاد عربيا.
قال بعض المعاصرين: "وإننا بناء على ما نراه في شرق الأرض وغربها وفي جزائر البحار أيضا من انتعاش اللغة العربية ونهضتها نأمل أنه سيكون في زمن غير بعيد للذين يكتبون بعدنا في هذا الشأن أن يعدوا للعرب طبقة يسمونها (العرب العائدة) أي الذين عادوا إلى التكلم بالعربية الفصحى". ونحن نقول: حقق الله ذلك.
ممالك العرب قبل الإسلام
كانت ممالك العرب قبل الإسلام منقسمة إلى دول كبيرة وممالك صغيرة، فالدول الكبيرة ثلاث: أولها اليمن: وكان مقر ملوكها "صنعاء" وأول من ملك منهم "قحطان بن عابر" و"عابر" هو "هود" ﵇ على بعض الأقوال. وخلفه على ملك اليمن "٢٨" ملكا ثم انتقل الملك منهم إلى الدولة الثانية.
وأول من ملك منها "تبع الأول ابن الأقرن". وخلفه عشرون ملكا آخرهم "ذو جدن الحميري" الذي تغلب عليه "أرباط" قائد جيش "النجاشي" ملك الحبشة سنة "٥٢٩م" واستولى على مملكته وضمها إلى مملكة الحبشة. وكان "أرباط" المذكور يزدري الضعفاء ويكلفهم ما لا يطيقون من المشاق، فجزعوا لذلك وانتموا إلى "أبرهة" أحد رؤساء الجيش فأخذ بناصرهم وتحارب مع "أرباط" وقتله. وقام بالأمر بعده.
وبعد موته ملك ابنه "يكسوم" ثم أخوه "مسروق" فاستخلصها منه "سيف بن ذي يزن" بمساعدة "كسرى أنو شروان" وبعد موته تغلب عليها "كسرى" وبقيت تحت سلطته إلى سنة "٦٣٤ م" حتى فتحت بالإسلام. وكان العامل عليها حينئذ "باذن" الذي أسلم في عهد النبي ﵊.
الثانية المناذرة: ملوك العراق، وكان مقر ملكهم "الحيرة" وهي قريبة من "الكوفة". وكانوا عمالا للأكاسرة على عرب العراق. وأول من ملك على العرب بأرض الحيرة "مالك بن فهم"، وينتهي نسبه إلى قحطان "وكان ملكه في أيام ملوك الطوائف قبل الأكاسرة" ثم ملك بعده أخوه "عمرو بن فهم" ثم ابن أخيه "جذيمة بن مالك بن فهم" ثم غيره إلى تمام "٢٦" ملكا ثم انتزعها "خالد بن الوليد" عقب الفتح الإسلامي من آخر ملوكها "المنذر بن النعمان" الثالثة الغسانية: ملوك الشام، وعددهم "٣٢" ملكا وكانوا عمالا لقياصرة الروم على عرب الشام. وأول ملوكهم "جفنة بن عمرو بن ثعلبة" وآخرهم "جبلة بن الأيهم" وقد أسلم في خلافة أمير المؤمنين "عمر بن الخطاب" ﵁ سنة "١٦هـ-".
وفي هذه السنة خرج "عمر" إلى الحج فحج "جبلة" معه فبينما "جبلة" طائف إذ وطى رجل من "فزارة" إزاره، فلطمه "جبلة" فهشم أنفه. فأقبل الفزاري إلى "عمر" وشكاه فأحضره "عمر" وقال: "افتد نفسك وإلا أمرته أن يلطمك". فقال "جبلة": كيف ذلك؟، وأنا ملك وهو "سوقة". فقال "عمر": "إن الإسلام جمعكما وسوى بين الملك والسوقة في الحد" فقال "جبلة": "أتنصر". فقال "عمر": "إن تنصرت ضربت عنقك" فقال: "أنظرني ليلتي هذه" فأنظره. فلما جاء الليل سار "جبلة" بخيله ورجله إلى الشام. ثم سار إلى "القسطنطينية". وتبعه خمسمائة رجل من قومه فتنصروا عن آخرهم. وفرح "هرقل" بهم وأكرمه.
ثم ندم "جبلة" على فعله ذلك وقال:
تنصرت الأشراف من عار لطمة ... وما كان فيها لو صبرت لها ضرر
1 / 3
تكتفي فيها لجاج ونخوة ... وبعت لها العين الصحيحة بالعور
فيا ليت أمي لم تلدني، وليتني ... رجعت إلى القول الذي قاله عمر
وهذه هي الدول الثلاث الكبرى في بلاد العرب. وأما الممالك الصغيرة فكثيرة مثل "كندة" وغيرها وكذا الملوك المتفرقون مثل "كليب" ملك "بني وائل وتغلب" الذي قتله "جساس بن مرة"وثل "قيس بن زهير العبسي".
أخلاقهم وعاداتهم، ما حسن منها وما قبح
من أخلاقهم الحسنة، وعاداتهم الطيبة: الشجاعة، والعفة، والشهامة، والنجدة، وعلو الهمة، والحمية، وحفظ العهود، والإيفاء بالوعود، والمحافظة على الأعراض أشد المحافظة، فقد كان عندهم الموت أسهل من العار "حتى أدى ذلك ببعضهم إلى دفن بناتهم وهن أحياء خشية العار". ومنها المدافعة عن الجار، وحفظ الجوار، والسخاء، والكرم، والضيافة، للغريب والقريب. ومنها الافتخار بشدة البأس، وعزة النفس، وإباء الضيم، والولوع بالأشعار، لأنها ديوان العرب، والحكم والأمثال، والحلم والفصاحة، والغلو في حفظ الشرف ومكانة النفس.
وأما لغتهم فكانت من أعز الأشياء لديهم، حتى أنهم كانوا يأنفون من مخالطة غير العرب حفظا لها من العجمية.
ومن عاداتهم السيئة دفن بعض البنات وهن أحياء خشية العار، وقتل الأولاد خشية الفقر، والغلو في أخذ الثأر، حتى أنهم كانوا يشنون الحرب التي تزهق فيها النفوس الكثيرة في سبيل الأخذ بثأر رجل منهم، ومنها المنابزة بالألقاب. والنبز هو اللقب المستهجن القبيح. ومنها التبني "وهو أن يجعل الولد غير الحقيقي الذي يتخذ كالابن بمنزلة الابن الحقيقي يرث ويورث". ومنها عبادة غير الله، وكانت عبادتهم على أنواع مختلفة، ولهم آلهة وأصنام كثيرة: كاللات والعزى وهبل ونسر وسواع ويغوث ويعوق، وغير ذلك. وكان منهم من يعبد النجوم كالشمس والقمر وعطارد والمشتري، وغير ذلك. ومن ذلك أسماؤهم كعبد العزى وعبد يغوث وعبد شمس، ونحوها. وكان في بلادهم كثير من النصارى واليهود والمجوس.
وكانوا قبلا موحدين، يعبدون الله على ملة "إبراهيم الخليل" و"إسماعيل" ﵉. ثم اتخذوا الأصنام لتكون واسطة بينهم وبين الله بزعمهم، إلى أن عبدوها وقدموا لها القرابين، وذبحوا الذبائح على اسمها.
فلما وصلوا إلى هذه الدرجة من الجهل والكفر وعبادة غير الله أرسل لهم رسوله المصطفى ونبيه المرتضى "محمدا" ﷺ، فأرجعهم إلى الشريعة الحق: شريعة "إبراهيم وموسى وعيسى" والأنبياء من قبلهم، فهداهم بعد الضلال، وأرشدهم بعد الحيرة.
المقدمة الثانية
شذرة في اللغة وآدابها
اللغة
اللغة ألفاظ يعبر بها كل قوم عما في ضمائرهم بأساليب خاصة. وهي ضرورية للنوع الإنساني. وتلازمه من لدن دروجه إلى احتضاره. وبها يتميز عن سائر الحيوان.
وقد بلغت اللغات حد الكثرة، حتى قدرها بعضهم بثلاثة آلاف. وقد تشعبت هذه اللغات حتى أصبح من المستحيل ردها إلى أصولها التي اشتقت منها. وانقطع لذلك في (أوروبة وأمريكة) مئات الرجال. فأنفذوا أعمارهم في دراستها وتحليها. وغاية ما وصلوا إليه أن أرجعوا جميع اللغات إلى أصول ثلاثة: الأولى: اللغة الآرامية (السامية)، نسبة إلى (الآراميين) وهم جيل من الناس كانوا يسكنون ما بين نهري (دجلة والفرات) قبل ألوف من السنين. واشتقت منها العربية والسريانية والعبرانية والقبطية والحبشية.
الثانية: اللغة (الطورانية) نسبة إلى (طوران) في (التركستان) . ومنها اشتقت التترية والتركية والصينية والجركسية والدانيماركية والهنكارية.
الثالثة: اللغة (الإيرانية) نسبة إلى (إيران) في (آسيا) . ومنها جاءت الفارسية واليونانية واللاتينية وما تفرع عنها من لغات (أوروبة) .
اللغة العربية
أما اللغة العربية - وهي إحدى اللغات السامية - فهي تمتاز بسلاسة العبارة، وبلاغة الاستعارة، وغزارة المادة.
وقد اتفق أهل البحث من العلماء على أن أوسع اللغات بحرا، وأطوعها تصريفا، وأجزلها عبارة، وأنصعها بيانا، هما اللغتان: العربية واليونانية. إلا أن مواد العربية - على كثرتها العجيبة - كلها أصلية، ومواد اليونانية، الكثير منها حاصل بالنحت والتركيب من أصلين فأكثر. فيكون غنى العربية من أصلها، وغنى اليونانية بصنع أهلها.
1 / 4
وحسب العربية مزية أن ليس في اللغات لغة حفظت أصول شعرها وكتابتها تلك القرون العديدة وبقيت واحدة في أطراف الأرض غيرها. ولقد مر عليها أدوار وعصور تختلف بين صعود وهبوط ووقوف.
"وسنذكر في هذه الشذرة طرفًا من ذلك. ونترك التوسع فيه لكتاب غير هذا نؤلفه مختصا بهذا الموضوع".
تصريفها
اللغة مأخوذة من (لغا يلغو) أي تكلم. وأصلها (لغوة) بضم فسكون: حذفت (الواو) منها بعد نقل فتحتها إلى (الغين) فصارت (لغة) . وتجمع على (لغات) و(لغى) .
حصولها
قد اختلف في حصولها. فقال قوم بالتوقيف. وقال قوم بالاصطلاح. ومعنى التوقيف أن الله ﷾ علمها الإنسان. ومعنى الاصطلاح أن يجتمع إنسانان فأكثر فيصطلحوا على إن هذه اللفظة لمعنى كذا، وهذه لمعنى كذا، وأطال كل فريق في الاحتجاج لمذهبه. والقول بالاصطلاح باطل عقلا وعلما وشرعا. أما عقلا فلأن الاصطلاح يقتضي سابق اصطلاح، وهذا أيضا يقتضي سابق اصطلاح، وهكذا إلى ما لا نهاية، فهو باطل، لأنه من باب التسلسل. ومن جهة ثانية فإن الله الذي خلق الإنسان في أحسن تقويم لا يتركه سدى من غير أن يعلمه لغة يعبر بها عما يخالج ضميره من المعاني والأفكار والحاجيات. وأما علما فلأنه ليس في التاريخ أن قوما اجتمعوا فابتدعوا لغة. وأما شرعا فقد جاء في الكتب المنزلة أن الله هو الذي علم آدم الأسماء كلها.
تدوينها
الصرف والنحو
كانت اللغة العربية من نشأتها إلى سنة ستين (٦٠) للهجرة لغة يتلقفها الأبناء عن الآباء، كما تأخذ صبياننا لهذا العهد لغتنا العامية. فلما جاء الإسلام وفارقوا بلادهم للفتح أو غيره، وانتشروا بين الأعاجم أخذ اللحن في اللغة يفشو، ودبت عقارب العجمة فيها. فتغيرت تلك الملكة بما ألقي إليها مما يغايرها. فخشي أهل الإدراك منهم أن تفسد تلك الملكة، رأسا، ويطول العهد بها، فينغلق القرآن الكريم والحديث الشريف على الفهوم، فاستنبطوا من مجاري كلامهم قوانين لتلك الملكة تعصم مراعاتها المتكلم عن الخطأ. وقيدوا ذلك بالكتابة، وجعلوها صناعة خاصة، واصطلحوا على تسميتها بعلم "النحو". وأول من وضع ذلك "أبو الأسود الدؤلي" المتوفي سنة سبع وستين (٦٧) للهجرة بإشارة الإمام "علي بن أبي طالب" ﵄، لأنه رأى تغير الملكة ففزع إلى ضبطها بالقوانين الحاضرة المستقرأة. ثم كتب فيها الناس من بعده إلى أن انتهت إلى "الخليل بن أحمد الفراهيدي" أيام "الرشيد". فهذب الصناعة وأكمل أبوابها. وأخذها عنه "سيبويه" فأكمل تفاريعها، واستكثر من أدلتها وشواهدها. ووضع فيها كتابه المشهور الذي صار إماما لكل من كتب فيها من بعده. ثم كثرت المؤلفات من بعده حتى ضاقت عنها صدور المكتبات.
وكانت "البصرة" و"الكوفة" من أعمر الأمصار التي اختطها العرب. وقد تفرغ من أهليها لضبط اللغة وعلومها نقلا عن عرب البادية بالخروج إليهم، والإقامة ببينهم، والسماع منهم، واستكتابهم. وكان رئيس علماء البصرة "سيبويه" ورئيس علماء الكوفة "الكسائي". وكلاهما قد جاهد مع أتباعه حق الجهاد في المناضلة عن اللغة والذب عن حياضها. وكان بين "البصرة" و"الكوفيين" حروب جدال كثيرة كثرت فيها الأدلة، وعظم فيها اللجاج، وتباينت فيها الطرق. حتى أدى الأمر إلى موت "سيبويه" رئيس "البصريين" غما وكمدا من أجل مسألة حكم فيها عرب البادية عند "الرشيد" لإمام الكوفيين "الكسائي" في قصة طويلة مشهورة.
ثم فصل بعض العلماء عن النحو ما يتعلق بالكلمات المفردة. وجعلوها علما مستقلا سموه "علم الصرف" أو "التصريف". وأقدم صنع ذلك "ابن جني" و"معاذ الهراء".
وأفضل من كتب بعد هؤلاء من المتأخرين هو "ابن هشام". فقد أخرج للناس كتبا هي خير ما رأيناه بعد كتب "سيبويه" وأضرابه.
وقد حدت الهمة بالمعاصرين إلى تأليف كتب تلائم روح العصر. منها كتاب "الدروس النحوية" للجنة من أساتذة المصريين. وكتاب "مبادئ اللغة العربي" للمعلم "رشيد الشرتوني". و"دروس الصرف والنحو" للشيخ "محي الدين الخياط". وكتاب "الدروس العربية" للشيخ "مصطفى الغلاييني" مؤلف هذا الكتاب. وقد كتب كثير غيرهم. ولا يزالون يكتبون نفع الله بهم، حتى تنهض هذه اللغة من كبوتها وترجع إلى سالف مجدها.
متن اللغة
1 / 5
ثم إنه لما فسدت ملكة اللسان العربي في الحركات المسماة عن أهل النحو (بالإعراب)، واستنبطت القوانين لحفظها - كما قدمنا - استمر ذلك الفساد بملابسة العجم ومخالطتهم، حتى تأدى الفساد إلى موضوعات الألفاظ. فاستعمل كثير من كلام العرب في غير موضوعه عندهم ميلا مع هجنة المتعربين في اصطلاحاتهم المخالفة لصريح العربية. فاحتيج إلى حفظ الموضوعات اللغوية بالكتابة والتدوين، خشية الدروس وما ينشأ عنه من الجهل بالقرآن والحديث ومنثور العرب ومنظومهم. فشمر كثير من أئمة اللسان لذلك، وأملوا فيه الدواوين. وكان سابق الحلبة في ذلك (الخليل بن أحمد الفراهيدي) ألف فيها كتاب (العين) ثم جاء (أبو بكر الزبيدي) فاختصره مع المحافظة على أصله. وألف (الجوهري) كتاب (الصحاح) . ثم اختصره (الرازي) وسماه (مختار الصحاح) . وألف (ابن سيده) كتاب (المحكم) . ثم لخصه (محمد ابن أبي الحسين) صاحب (المنتصر) من ملوك (الدولة الحفصية) في (تونس) وكتب فيها (الزمخشري) كتابه (الأساس) في مجاز اللغة. وألف (الثعالبي) كتابه (فقه اللغة) . وألف (الفيروزابادي) كتابا عظيما. ثم اختصره بكتابه المعروف باسم (القاموس) . وألف (ابن منظور) كتابه (لسان العرب) المشهور. وألف كثير غيرهم. ثم ألف المعاصرون كتبا في اللغة منهم المعلم (بطرس البستاني) ألف (محيط المحيط، وقطر المحيط) . والمعلم (سعيد الشرتوني) ألف (أقرب الموارد) . والمعلم (جرجس همام) ألف (معجم الطالب) . والأب (أنطون المعلوف) ألف (المنجد) . وقد بلغني أن الأستاذ (الشيخ طاهرا الجزائري) ألف كتابا نفيسا فيها وهو يريد أن يمثله بالطبع منذ مدة ليست بالقصيرة. فعسى أن الهمة العالية التي نعرفها فيه تحدوه إلى إظهاره خدمة لهذه اللغة الشريفة.
البيان والأدب
ثم لما أخذ الفساد يدب في أساليب اللغة والإنشاء حدت الهمة بالعلماء إلى وضع كتب ترشد إلى معرفة الأساليب الصحيحة. وكانت هذه المسائل مبعثرة في كتب العلماء كالإمام (سيبويه) وغيره. وأقدم من أقدم على تخليص ذلك وابتكار غير الموجود وتدوينه الإمام (عبد القادر الجرجاني) في كتابيه (أسرار البلاغة) و(دلائل الإعجاز) . الأول في (البيان) والثاني في (المعاني) . ثم تهافت العلماء على التأليف في هذا الموضوع وتلخيص ما كتبه عبد القاهر وترتيبه وتبويبه. غير أن أكثرهم قد جعل ذلك قواعد نظرية، حتى أخرجه عن معنى البلاغة والأساليب الصحيحة. وكتابا (عبد القاهر) لا يشق لهما غبار، وهما خير ما أخرج للناس، لمن أراد أن يكون بليغا علما وعملا.
ولمؤلف هذا الكتاب كتاب جليل سماه (علم الأدب العربي) جمع فيه بين طريقة (عبد القاهر) وطريقة غيره. وأودعه علوم البلاغة، والإنشاء، والخطابة والعروض، وقرض الشعر، وما يتبع ذلك من فنون الأدب. غير أنه لم يطبع بعد.
ثم لما فترت الهمم عن تلقي منثور العرب ومنظومهم. أخذ العلماء يدونون أخبار العرب وأحاديثهم وأشعارهم. ونكتهم وما يتبع ذلك من وجوه الأدب التي لا غنى غنها للمتأدبين.
وقد قالوا: إن أركان الأدب أربعة دواوين وهي (أدب الكاتب) لابن قتيبة، و(الكامل) للمبرد، و(البيان والتبيين) للجاحظ، و(النوادر) لأبي علي القالي البغدادي. ونحن نزيد عليها كتاب (الأغاني) لأبي فرج الأصبهاني ذلك الكتاب الممتع.
العروض وقرض الشعر
وقد وضع (الخليل بن أحمد الفراهيدي) موازين للشعر مستقرئا بذلك ما قاله العرب. وقد استدرك عليه غيره بحرا من بحورها وهو المعروف بالبحر (المتدارك) .
ثم أخذ العلماء في التأليف في هذا الموضوع وجعلوه علما نظريا. وقد ألف مؤلف هذا الكتاب في ذلك كتابا سهل التناول سماه (الثريا المضية، في الدروس العرضية) .
ثم حدث علم (قرض الشعر) بعد أن فسدت ملكة أسلوب الشعر العربي. وهو علم ذو قواعد تعرف من له سليقة بكيفية نظم الشعر ومحاسنه وعيوبه. وأفضل من ألف في ذلك (ابن رشيق) ألف كتاب (العمدة) و(ابن هلال العسكري) ألف كتاب (الصناعتين) .
العرب الذين أخذت عنهم اللغة
1 / 6
قال (أبو نصر الفارابي) في أول كتابه المسمى بالألفاظ والحروف: كانت (قريش) أجود العرب انتقاء للأفصح من الألفاظ، وأسهلها على اللسان عند النطق، وأحسنها مسموعا، وأبينها إبانة عما في النفس. والذين نقلت عنهم العربية وبهم اقتدي وعنهم أخذ اللسان العربي من بين قبائل العرب هم (قيس) و(تميم) و(أسد) فإن هؤلاء هم الذين عنهم نقل أكثر ما أخذ ومعظمه، وعليهم اتكل في الغريب وفي الإعراب والتصريف. ثم (هذيل) وبعض (كنانة) وبعض (الطائيين) . لم يؤخذ عن غيرهم من سائر قبائلهم. وبالجملة فإنه لم يؤخذ عن حضري قط، ولا عن سكان البراري ممن يسكن أطراف بلادهم المجاورة لسائر الأمم الذين حولهم. فإنه لم يؤخذ عن (لخم) ولا عن (جذام) لمجاورتهم أهل (مصر) و(القبط)، ولا عن (قضاعة) و(غسان) و(إياد) لمجاورتهم أهل (الشام) وأكثرهم نصارى يقرأون بالعبرانية، ولا من (تغلب) و(النمر) فإنهم كانوا ب- (الجزيرة) مجاورين لليونان، ولا من (عبد قيس) و(أزد عمان) لأنهم كانوا ب- (البحرين) مخالطين للهند والفرس، ولا من أهل (اليمن) لمخالطتهم للهند والحبشة، ولا من (بني حنيفة) وسكان (اليمامة)، ولا من (ثقيف) وأهل (الطائف) لمخالطتهم تجار (اليمن) المقيمين عندهم، ولا من حاضرة (الحجاز) لأن الذين نقلوا اللغة صادفوهم حين ابتدأوا ينقلون لغة العرب قد خالطوا غيرهم من الأمم وفسدت ألسنتهم.
والذي نقل اللغة واللسان العربي عن هؤلاء وأثبتها في كتاب فصيرها علما وصناعة هم أهل (البصرة) و(الكوفة) فقط من بين أمصار العرب.
أدب اللغة
الأدب هو معرفة ما يوصل المرء إلى تجنب الزلل في أعماله وأقواله.
وهو قسمان: أدب النفس وأدب الدرس. فالأول يسمى بالطبيعي. والثاني بالكسبي.
فأدب النفس هو ما فطر قليه الإنسان من الأخلاق الفاضلة، والمزايا النبيلة: كالجود والشجاعة والكرم والحلم، وغيرها.
وأدب الدرس هو ما يحصله المرء بالمدارسة والمطالعة والمزاولة والنظر في الأكوان.
ولما كان هذا الأدب - أدب الدرس - لا يحصل إلا بالدرس والمطالعة يضطر المتأدب إلى الآلة التي يحصل بها ذلك. والآلة هي اللغة وآدابها. فهما الأستاذ الأعظم لمن يريد أن يحصل الأدب بالدرس.
علم الأدب العربي
علم الأدب العربي هو الأصول التي تعرف بها أساليب الكلام العربي.
وأركانه خمسة: (البيان بأقسامه - أي المعاني والمجاز والبديع - والإنشاء والخطابة والعروض وقرض الشعر) .
ومداره على الكلام المنثور والمنظوم من حيث البحث عن بلاغتهما وعدمها.
والغاية منه حمل المتأدب على أن يتحدى بليغ الكلام من نثر ونظم، فينسج على منواله.
ومطالع علم الأدب من ثلاثة أوجه: قلب مفكر، ولسان معبر، وبيان مصور.
فمن كان غبيا خامل الذهن، ليس له ذكاء ولا فكر راق، ولا خيال يصور ما يريد إنشاءه، ولا ذوق يميز به بين الغث والثمين، فأولى له أن يدع هذا العلم وينصرف إلى غيره مما هو أكثر فائدة له.
وأما طلاقة اللسان فإنما يحتاج إليها من يريد أن يكون خطيبا، وهي شرط مهم فيه.
المطالعة
وعلى المتأدب أن يكثر من مطالعة الكتب والرسائل الأدبية المشتملة على الجيد من المنظوم والمنثور، ليكون له من وراء ذلك سليقة عربية، ومادة وافرة. ويودع حافظته مختار اللفظ، وشريف المعنى، وبليغ الأسلوب، بحيث يستعمل ذلك عند الحاجة، ويحتذي مثاله.
أما درس الأدب مجردا عن المطالعة فلا يفيد الطالب فائدة تشكر، لأن العلم بلا عمل أضر على صاحبه من الجهل. فالمطالعة تطبع في الذهن ملكة البلاغة.
ولا ينبغي للمطالع أن يقرأ من الكتب إلا ما هو مشتمل على كلام فحول البلغاء، حتى ينطبع في ذهنه أسلوبهم، فينحو منحاهم.
وقد كتبنا في موضوع (أساليب الكلام العربي) والكتب التي يجدر بالمتأدب أن يطالعها مقالا مهما نشرناه في كتابنا (أريج الزهر) فليرجع إليه من شاء.
رياضة القلم واللسان والفكر
1 / 7
ثم بعد ذلك ينبغي له أن يرتاض على الكتابة والنظم، ويعود نفسه الإنشاء والكتابة والتعبير عن كل ما يدور في خلده من المعاني والأغراض، ويروض فكره عل استنباط المعاني والجولان في حدائق الموضوعات السامية، ويدع لسانه ينطق بما في نفسه بلفظ فصيح، من غير حياء ولا وجل، لتتمكن في نفسه ملكة الخطابة. وكل ذلك يشترط فيه البداءة بالمعاني الموجزة، والأغراض القريبة. حتى إذا أتقن تصورها وإنشاءها على أسلي اللسان والقلم، انتقل إلى غيرها. وهكذا حتى تصير ملكة الاختراع وإظهارها على اللسان والقلم خلقا فيه.
تاريخ أدب اللغة
تاريخ أدب اللغة هو علم يبحث فيه عن أحوال اللغة وأطوارها وما دخلها من وجوه التهذيب والتحسين أو التأخير.
وموضوعه الكلام من حيث الحسن والإجادة والطبقة، والشعراء والخطباء، وما نمقوه من بنات الأفكار ومبتكرات الخيال.
وفائدته الوقوف على تواريخ الألفاظ وما اعتورها من تغيير المعنى بالاصطلاح والمجاز والكناية وغيرها، واكتساب ملكة النقد بالوقوف على ثمرات الأفكار من نوابغ الرجال، ومعرفة المآخذ الصحيحة ممن يوثق بعربيتهم، وإرجاع الأساليب إلى العصور الراقية بالأدب. حتى تحيا اللغة بالتحدي والمماثلة.
تهذيب اللغة
إن اللغة قد ترقت مع الناموس الطبيعي فدخلها التهذيب، ودارت عليها دائرة الصقل والتعريب، شأن كل لغة درجت من مهدها. إلا إنها لم تصل إلى ما هي عليه الآن وقبل الآن من جزالة التركيب وسلاسة الأساليب إلا بعد أن تناولتها أيدي التهذيب غير مرة.
التهذيب الأول
وذلك قبل (إسماعيل) والإسلام. فقد كان للعرب العاربة عظيم الفضل على اللغة العربية في نشأتها، لأنهم كانوا يأخذون ألفاظ اللغات الأخرى بعد أن يعرضوها على محك التعريب، فيصقلها، ويعطيها المسحة العربية، حتى تصير بهم أجدر.
التهذيب الثاني
وذلك أنه لما نزل (إسماعيل) ﵇ أرض (الحجاز)، وتزوج من (جرهم الثانية)، ونشأ منهم (العرب المستعربة)، دخل العربية كثير من وجوه التحسين بواسطته وواسطة أولاده، حتى وصلوا بالعربية إلى أوج الرقي. ولكن الدهر لم يدعهم صاعدين بها، بل جر عليهم حوادثه، وقلب لهم ظهر المجن، حتى باتت كل قبيلة تأكل لحم أختها كرها وعدوانا، إلى أن تشتت الكثير منهم. فأصابها من الضعف ما أصابها.
التهذيب الثالث - أو - أسواق العرب
وهو تهذيب قريش فقد كانت العرب ترد عليهم في مواسم الحج. وتقيم عندهم ثلاثة أيام في (سوق ذي المجاز)، وسبعة في (سوق مجنة)، وثلاثين في (سوق عكاظ)، وعشرين يقضون فيها مناسك الحج.
وفي أثناء ذلك كانت العرب تتناشد الأشعار أمام قضاة الأدب، وتترنم بالخطب. حتى اتحدت اللغة. وكانت لغة (قريش) هي المهيمنة عليهم، السائرة على ألسنتهم. وبها نزل القرآن الكريم.
إلا أن الأسواق الأخرى غير (عكاظ) كانت ابتدائية خاصة لا يحضرها غير فصحاء قبيلتها. ولكن (عكاظ) هذه كانت مؤتمرا عاما تجتمع فيها قبائل العرب، فيتفاخرون ويتناشدون الأشعار ويتعارفون فيها. وكان الغرض منها اجتماع فحول الشعراء والخطباء والبلغاء لإبداء نتائج أفكارهم، وإظهار محاسن فصاحتهم وبلاغتهم.
وكان يجتمع فيها سادات العرب وملوكهم ورؤساء قبائلهم. ومثل (عكاظ) في ذلك (سوق ذي المجاز) .
وكانت (عكاظ) تقام بين الأول والعشرين من (ذي القعدة) في كل سنة. ولم تجتمع إلا بعد (عام الفيل) بخمس عشرة سنة. وقد هدمت أركانها أيدي الخوارج سنة تسع وعشرين بعد المئة من ذلك العام.
التهذيب الرابع
وذلك بعد أن ظهر الإسلام، فقد غير القرآن بعض أساليب الكلام وهذبها ورقاها، فاكتسب بذلك رونقا وبهاء. وسيأتي الكلام على ذلك.
اللغة في العصر الجاهلي
لما رجعت اللغة من مهدها أخذت تنمو وتنتشر تبعا لنواميس الكون. وأهلها -وإن كانوا أميين- قد ساعدوها على النماء والحياة بما جبلوا عليه من فصيح المنطق وبليغ القول، وما أدخلوا فيها من أسماء النباتات والحيوانات والاصطلاحات من لغات غيرهم.
1 / 8
على أن أميتهم وإن لم تقف في تيار نهضتهم فقد نشأ عنها - لعدم الرابطة بين القبائل المتنائية - اضطراب في اللغة: لتعدد الأوضاع، واختلاف اللهجات، وغير ذلك مما دعا أولي الرأي منهم أن يفكروا في توحيد اللسان العام وتهذيبه. فأقاموا لذلك أسواقا أشبه بالمؤتمرات اللغوية، بثوا فيها وحدته - كما قدمنا - فكانت لغة (قريش) فارس الحلبة، وصاحبة الغلب. ولولا (عكاظ) ونظائرهم لم يكن ذلك أمرا ميسورا.
النظم والنثر فيه
كان للشعر في عصر الجاهلية أسمى المنازل وأشرف الدرجات، لأنه ديوان علومهم وحكمهم، وشاهد صوابهم وخطأهم، والضابط لأيامهم وأنسابهم. وقد كان الشاعر صاحب الكلمة، يعز من يشاء ويذل من يشاء بيده الأمر والنهي، وإليه الحل والعقد.
وكانت القبائل يهنئ بعضهم بعضا إذا نبع فيهم شاعر. وتقام لذلك الولائم والأفراح.
وكان الشاعر يقول الشعر طبعا من غير تكلف، وسهلا من غير تعسف. إلا إذا تعمد ذلك كزهير، فقد كان لا ينشد بعض قصائده حتى يحول عليها الحول. كما سترى ذلك في الكلام على شعره، إن شاء الله.
وقد طرق الشعراء في هذا العصر أبوابا كثيرة كالمدح والهجاء والفخر والحماسة وضرب الأمثال. فصاغوا ذلك كله في قالب الإجادة والإبداع.
وكانوا يأبون الإجازة عليه حتى جاء (النابغة الذبياني) و(زهير) و(الأعشى) فقبلوها. وكان أول من سنها (النابغة) . فأنفت الناس من قول الشعر بعض الأنفة. إلا أن ذلك لم يحط من قدره لقلة من فعل ذلك من الشعراء في الجاهلية.
ونهضة الشعر في هذا العصر تتناول مئة وخمسين (١٥٠) سنة. يمتاز فيها برسم الحقيقة رسما ناطقا، ووصف الشيء على علاته، وبيانه على طبيعته.
وأجود ما قيل فيه المعلقات. وصفوة فحوله شعراؤها.
أما الكلام المنثور فقد كان لهم فيه اليد الطولى كالمنظوم. ما بين مسجع ومرسل. وقد أثر عنهم منه شيء كثير مما يعلق بالضمير لنفاسته كالأمثال والحكم والوصايا والخطب.
فالمثل جملة مقتطعة من القول أو مرسلة تنقل عما وردت فيه إلى مشابهه من غير تغيير. كقولهم: "الصيف ضيعت اللبن".
والحكمة هي قول موافق للحق مصون عن الحشو. كقوله: "المرء بأصغريه قلبه ولسانه".
والفرق بينهما أن المثل لا بد فيه من واقعة حال قيلت فيه الجملة.
والخطبة جملة من القول يراد بها الترغيب فيما ينفع، والتنفير مما يضر. وربما حوت فخرا أو غيره.
ومثلها الوصية إلا أن الخطب تكون في المجامع والمواسم، والوصية لا تكون إلا من مثل شخص لعشيرته أو ولده أو لدى الانتقال من حال إلى حال.
الكتابة فيه
يجهل التاريخ تحديد الزمن الذي ابتدئ فيه باستعمال الخط العربي. غير أنه يرجح أن أول من كتب بالعربية اليمنيون أصحاب (هود) ﵇. وكان خطهم يسمى (المسند) يكتبونه حروفا منفصلة - كما يكتب الإفرنج لغتهم - ويحظرون على العامة تعلمه. على أن ثلاثة من (طيء) تمكنوا من ذلك. فاقتطعوا منه خطا سموه (الجزم) وعلموه أهل (الأنبار) . وعن هؤلاء أخذه أهل (الحيرة) وتداولوه. فلما قدم (حرب بن أمية) جد (معاوية بن أبي سفيان) إلى (الحيرة) نقله إلى مكة ونشره في (الحجاز) .
علوم العرب في جاهليتها
تقدم تقسيم العرب إلى (بائدة) و(غيرها) فغير البائدة هم الذين تفرعوا من (عدنان) و(قحطان) . أما (القحطانيون) فهم عرب (اليمن) . وقد كانوا على حظ عظيم من العلوم والآداب، وقدم راسخة في المدينة، وأصل عريق في الحضارة، وحكومات شوروية منظمة. وقد استولوا على كثير من البلاد والعباد. وقد ذكر القرآن الكريم شيئا من سياستهم الدولية كالتي كانت بين مملكة (فلسطين) ومملكة (سبأ) . وقد ذكر ما كتب به (سليمان) ﵇ إلى (بلقيس)، وما اشتغلت به من التدبير والمشورة، وإرسال الهدية لاستطلاع ما عسى أن يكون من الأمر. وذلك قوله تعالى حكاية عنهما: "إذهب بكتابي هذا، فألقه إليهم، ثم تول عنهم، فانظر ماذا يرجعون. قالت يا أيها الملأ أفتوني في أمري، ما كنت قاطعة أمرا حتى تشهدون". إلى آخر القصة.
1 / 9
وأما العدنانيون، فقد كانوا على شريعة موروثة، وهي ما جاء به (إبراهيم وإسماعيل) ﵉. إلا أن تطاول الدهور عليهم عدل بهم عما كانوا عليه. ولم يبق لهم إلا بنات أفكارهم من كل ما سمحت به قرائحهم من الشعر والخطب والنسب والأخبار والأنواء والفراسة والكهانة والعرافة والطب والنجوم والحروب وبعض الطبيعيات والقيافة والعيافة والبيطرة وبعض الصناعات وغيرها مما أدركوه بفرط العناية والتجربة والذكاء.
اللغة في صدر الإسلام
كان القرآن له الفضل العظيم على اللغة لاضطرار كل مسلم إلى تفهمه والتأدب بآدابه. فزادت العناية بها. ووفرت الهمة في درس القرآن الكريم وحفظه. ومدة هذا الدور أربعون (٤٠) سنة.
النثر والنظم فيه
لما جاء القرآن الكريم، وظهر بهذا المظهر العجيب: من البلاغة الرائعة، والمعاني السامية، خفتت أصوات الخطباء، وسكتت ألسنة الشعراء، لما عراهم من الهيبة والروعة والدهشة. فصار الخطيب المصقع من يقتبس بعض آياته ليزيد كلامه رونقا، وخطابته بهجة.
أما الشعر فقد غفا غفوة لم تكن بالطويلة. لدهش الشعراء من أسلوب القرآن من جهة ولاشتغالهم بالقرآن وآداب الدين والجهاد من جهة ثانية.
الكتابة فيه
كانت الكتابة قبل الإسلام قليلة الانتشار، حتى بعث النبي ﷺ فانتشرت للحاجة إليها في كتابة الوحي والرسائل التي ينفذها ﵊ إلى الملوك والأمراء. وقد جاء في السيرة النبوية أنه أمر ﵇ الأسرى (الذين كانوا عنده بعد غزوة بدر) أن يعلم من لم يكن له فداء منهم عشرة من صبيان المدينة الكتابة فانتشرت بعد ذلك الكتابة خصوصا أيام الخلفاء الراشدين.
اللغة في العصر الأموي
بعد أن اختلط العرب بغيرهم من الأعاجم بسبب الفتوح فشا اللحن في اللغة خصوصا في (الدولة الأموية) . ولم يكن ذلك قاصرا على العامة والسوقة، بل فشا الأمر بين الخلفاء والأمراء، حتى خيف على اللغة والقرآن، فكان من ذلك وضع القوانين التي تحفظ اللغة، كما قدمنا.
النثر والنظم فيه
أثر القرآن في اللغة وأهلها فنسجوا على منواله، وضربوا على مثاله، في الدعوة للدين، والإرشاد للخير، فاصطبغت بصبغته، وسارت في وجهته. ولذلك ترى النثر في الصدر الأول أبعد من الحشو والكلفة، وأنزه عن اللغو والصنعة. وهو في عصر الأمويين أجمل وأكمل لتحديهم للقرآن، وتوسعهم في العمران، وسموهم في الخيال، ورقيهم في التصور، فاكتسبت الألفاظ مسحة البلاغة ورقة الحضارة. وحسبك أن تقرأ كتبهم وخطبهم فتعلم ذلك.
وأما الشعر فكان قدت غفا قبل هذا العصر غفوة أخمدت من جذوته، وأضعفت من قوته، لاشتغال القوم عنه بأمر الدين، فمن داع إليه ومن راد عليه. وما لبث أن أفاق، فجمل الآفاق، بما هز القلوب، ولذ المسامع. وقد ساعد على نهضته أن الدين أباحه والنبي سمعه واستنشده، والخلفاء استمالوا الشعراء ووصلوهم إلى إنشاده وأدنوهم منهم على قدر نصيبهم منه. فبلغ بذلك مبلغا راقيا ومكانا عاليا. أما مده هذا العصر فهي من بدء الخلافة الأموية إلى آخر عهدها، أي نحو مئة عام إلا قليلا. ويمتاز فيها الشعر ببلاغة المعنى ومتانة المبنى. وشعراء هذا العصر والعصر الذي قبله إما مخضرمون، وهم من أدركوا الجاهلية والإسلام، كحسان بن ثابت والخنساء وكعب بن زهير والحطيئة. وإما إسلاميون وهم من نشأوا في الإسلام، كجرير والفرزدق والأخطل وبشار وكلهم أرق ديباجة وأوفر بلاغة من شعراء الجاهلية.
الخطابة والرسائل فيه
لا نجد فرقا بين الخطابة في الجاهلية وبينها في صدر الإسلام إلا في رقة التعبير، ودقة التصوير، وقوة التأثير: بما اكتسبته من القرآن. فقد كان جهد الخطيب إن يترسم خطوة، ويحذو حذوه، وأن يرصع خطبته ببعض آية لتكون أحسن في الموقع، وأخف على المسمع.
ولما اتسع السلطان واستبحر العمران كثرت البواعث إلى الخطابة. وتشعبت أغراضها، فرقت رقيا كبيرا يعرفه كل ملم بخطب الخلفاء الراشدين وغيرهم كمعاوية وزياد والحجاج.
1 / 10
أما الرسائل فكانت في صدر الإسلام موجزة بليغة، بعيدة عن الصنعة وإعنات القريحة. ولكنها اختلفت كثيرا في أواخر الدولة الأموية إذ أطالوها وتعمدوا التنميق-، فظهرت فيها الصنعة والكلفة. والبادئ بذلك هو عبد الحميد الكاتب، زعيم الطبقة الثانية من الكتاب.
الخط فيه
انتشرت الكتابة في هذا العصر وكان الباعث على انتشارها حاجة الدين إليها، وانتقال الدواوين من الفارسية والرومية والقبطية إلى العربية بعد أن أستوثق الأمر واستكمل النظام.
وأول ما كتب بالعربية القرآن خاليا من الإعجام، حتى فشا اللحن فوضع له (أبو الأسود الدؤلي) علامات الإعراب في أواخر الكلمات. ثم جاء (نصر بن عاصم) وبعده (الخليل بن أحمد) فتمما بقية الإعجام.
وكان المستعمل في ذلك العصر من الخط نوعين أحدهما (الحزم) المسمى بعد بالكوفي، كان يستعمل كتابة المصاحف وما يطلب تجويده، وثانيهما أصل خط (النسخ)، وكان يستعمل في الكتابة العادية كالرسائل ونحوها.
العلوم والمعارف فيه
لقد كان حظ العلوم من هذا العصر حظ الشعر منه، فما كانوا يعرفون منها إلا ما كان ضروريا موروثا كالطب. وما كاد يستتب لهم الأمر في أواخر الدولة الأموية حتى صرفوا للعلم وجوههم وفتحوا له صدورهم، فترجموا كثيرا من كتب العلم والصناعة، ودونوا الحديث، واستبطوا الأصول، ووضعوا شيئا في التاريخ وعلوم العربية. ولا ينسى التاريخ ما للخلائف من بني أمية من عظم الطول وجزيل الفضل على اللغة وأشعارها وأخبارها فقد حفظوا كيانها وجملوا بيانها بما نفثوه من سحر كلامهم وبدائع أقلامهم.
اللغة في عصر الدولة العباسية
بزغ هلال الدولة العباسية، وألوية الممالك العربية خفاقة ما بين الهند والصين، والمسلمون مبثوثون في الأرض، يستعمرون ويستثمرون، واللغة مشاركتهم في الانتشار والنمو. فاتسعت دائرتها باصطلاحات العلوم والفنون، وزهت آدابها بزهو النهضة العلمية، وكثر المتكلمون بها، فكثر فيها الدخيل، وزاد اللحن والتحريف. وما كاد ينتصف عليها القرن الرابع حتى أخذ بدرها في الأفول، وغصنها في الذبول، لتغلب العجم على الممالك العربية. فلولا القرآن وما دون بها من العلوم لانمحى رسمها، وخفي اسمها.
النثر والنظم فيه
لقد كان رقي النثر في هذا العصر عظيما، إذ دونوا به ما وضعوه وما نقلوه من العلوم، وصرفوه في أنواع الرسائل والتحرير، وكثير ما هي في عصر الحضارة والمدنية. ولم يغض منه ما دخله من التكلف، فقد كان مستترا بحسن السبك وإحكام الصنعة، ولكنه ضعف بضعف الخلافة. فأكثر الكتاب حينئذ من السجع ونحوه، ولهوا بالألفاظ عن المعاني، حتى ألفوا بعض كتبهم مسجعة كتاريخ (العتبي) وغيره. وأشهر كتاب هذا العصر (الجاحظ) و(ابن العميد) و(الصابي) و(الخوارزمي) و(البديع) و(الحريري) .
أما النظم فقد أثرت حضارة الدولة في خواطر شعرائها، فجالوا في الشعر جولة لم تتوفر أسبابها لأسلافهم. فلقد تفننوا فيه، وتصرفوا في معانيه بقوة نادرة، ورقة ظاهرة، لما علق بالنفس وأثر في الحس من آثار الأمم التي تغلبوا عليها، ومظاهر المدنية التي توصلوا إليها. وما زال الشعر آخذا مأخذه من الصعود حتى تجرم القرن الثالث ففقد تأثيره، وأخذ عدد الشعراء يقل، حتى انتهوا (بالطغرائي) . هم خلف من بعدهم خلف أجادوه وإن لم يبلغوا شأوهم وكان خاتمتهم (صفي الدين الحلي) .
وشعراء هذا العصر يسمون بالمولدين. وشعرهم يمتاز بالسلاسة والنفاسة وجمع الكثير من التشبيه والمجاز والكناية.
ولا سيما المتأخرون منهم فقد أوغلوا في ذلك حتى لا تقرأ لهم إلا ألفاظا منمقة دونها معنى مرذول، أو غلو مملول.
وأشهر شعراء هذا العصر (أبو نواس) و(أبو تمام) و(البحتري) و(المتنبي) و(الشريف الرضي) و(أبو العتاهية) و(المعري) و(أبو فراس) و(الطغرائي) .
الكتابة فيه
1 / 11
لقد كان للخط نصيب من الرقي في هذا العصر الذهبي، إذ اخترعوا له الأقلام المختلفة، وأخذوا في تحسينة، حتى جاء الوزير (ابن مقلة) فابتدع من (الكوفي) نوعًا منه سماه (بالبديع) وهو (خط النسخ) ثم جاء (ابن هلال) فزاده حسنا حتى حل محل الكوفي. ولاقى عناية من الترك فرقوه كثيرا وابتكروا خطي (التعليق) و(الرقعة) كما ترى الآن. وكثير من اللغات يكتب به كالعربية والتركية والفارسية والأفغانية وغيرها.
العلوم والمعارف فيه
لا يعلم التاريخ فيما يعلم عصرا اشتهر بالعلوم، وازدهر بالآداب، كهذا العصر الزهي البهي. فلقد اعتنى خلفاؤه وعلماؤه بتدوين العلوم وترجمتها ونشرها. وكان أول ما دونوه علوم الدين والعربية، وما ترجموه علوم الرياضة. بدأ بذلك أبو جعفر المنصور الذي أنشأ المدارس للطب والشريعة، وترجم في زمنه كتاب (إقليدس) في الرياضة. وكذلك فعل الرشيد فألحق بكل مسجد مدرسة عامة. وترجم في عهده كثير من الكتب اليونانية في كثير من الفنون. وما تبوأ (المأمون) عرش الخلافة حتى استعر أوار هذه النهضة، برقعه شأن العلماء، وإجزاله صلة المترجمين. فتفجرت ينابيع العلوم، وعكف أهل الفضل على النظر فيها، فاخترعوا، واكتشفوا ما لا يجهله العالم، ولا ينكره التاريخ. من ذلك اكتشافهم قوانين لثقل الأجسام مائعها وجامدها، واختراعهم (الخطار) للساعة و(البوصلة البحرية) أي (بيت الإبرة) . وهم الذين بدأوا باستعمال الساعات الدقاقة الدالة على أقسام الزمن، ووضعوا علم الكيمياء الحقيقية، وألفوا الأرصاد والأزياج الفلكية، وحسبوا الكسوف والخسوف، ورصدوا الاعتدال الربيعي والخريفي، وغير ذلك مما لا يتسع له صدر هذا المختصر.
اللغة في عصر الدول المتتابعة
ليس في هذا العصر - عصر التقليد والانحطاط - ما يلفت النظر، فإن الدول العربية قد دالت، واللغة قد زالت، إلا قليلا مسطورا في كتب العلم والدين، أو مذكورا على ألسنة علمائها، وقليل ما هم. والشعر قد انطفأ نوره، وقل ظهوره، لقلة المستمعين إلى أهله، والعارفين بفضله، من ملوك العجم المتغلبة بالشرق. فكان كالعلم ذاويا في (فارس) وما وراء النهر زاهيا قليلا في بلاد العرب ومصر (بفضل الجامع الأزهر) والشام، تبعا لمصر. فلم تخل الأرض في كل قرن من عالم عربي كبير، أو شاعر خطير (كابن نباتة المصري وابن الوردي وأبي الفداء وابن خلدون وابن منظور صاحب لسان العرب وغيرهم) ممن كانوا نجوما في هذه السماء الداجية، وأعلاما في هذه المفازة النائية.
اللغة في العصر الحديث
إذا رأيت من الهلال نموه ... أيقنت أن سيكون بدرا كاملا
تبتدئ مدة هذا العصر من استيلاء (محمد علي باشا) على مصر سنة (١٢٢٠) للهجرة أي مند عشر سنين ومئة (١١٠) من تاريخ عامنا هذا، وهو أواخر (ذي الحجة سنة ١٣٣٠ هـ-) .
بعد أن سقطت اللغة وآدابها في عصور الدول المتتابعة في تلك الهوة السحيقة، حتى أشفت على الدثور، وأشرفت على الهلاك، أخذت في هذا العصر تنهض من كبوتها، وتقال من عثرتها. فقد شيد لها في القطرين (المصري والشامي) دور رفيعة البنيان، سامية المنار. وأقبل على تعلمها وتعليمها الكثير من الناس، فأخذت روح حياتها تعاودها شيئا فشيئا.
وقد زاد في تعاليها والإقبال عليها ما ترجم إليها من الكتب العلمية في الفنون المختلفة، بعد أن ولى القوم وجوههم شطر الديار الغريبة لتلقي العلوم الحديثة. فأقبلوا على التأليف والترجمة، وافتتاح دور العلم، وبث روح النهضة في الأمة، حتى غصت - خصوصا في هذه الآونة الأخيرة - دور العلم بالطالبين والطالبات، وذلك مما يحمل المرء على الاعتقاد بأن الحياة قد أشرقت كواكبها بعد تلك الدياجي المتراكمة.
النظم والنثر فيه
قد أخذ النظم والنثر في هذا العصر بالترقي شيئا فشيئا. خصوصا في هذه الأيام، وما قبلها بنحو ثلاثين سنة. فقد وجد قوم أرجعوا الإنشاء إلى سالف عهده من المسحة العربية. والأساليب الصحيحة. والمعاني السامية. وكان الفضل في ذلك لشيخنا الأستاذ الإمام (الشيخ محمد عبده) مفتي الديار المصرية وأستاذه الأشهر (السيد جمال الدين الأفغاني) و(الشيخ إبراهيم اليازجي) ثم كثر بعدهم الكتاب متخذين أسلوبهما، ناسجين نسجهما. وقد أنجبوا من التلاميذ وتلاميذ التلاميذ ما يعز حصره.
1 / 12
وفي مصر وبر الشام وغيرهما من الأقطار العربية اليوم كثير من المبرزين في حلبة الإنشاء يضيق صدر هذا الموجز دون تعداد القليل منهم.
وأما الشعر فقد سار مع الإنشاء جنبا لجنب، خصوصا في هذه الأيام التي كثر فيها الشعراء المجيدون الذين رجعوا بالشعر إلى عهده المجيد. فنظموا من المعاني الاجتماعية والفلسفية والحماسية والشعرية عقودا يفتخر بها نحر العصر إلى أبد الدهر، كل ذلك بأسلوب عربي ترتاح إليه النفوس، وتصبو نحوه العقول.
ولا يخلو العصر الحاضر من بعض كتاب وشعراء يخالف أسلوبهم أسلوب العرب، وينحون بتراكيبهم منحى الإنشاء الإفرنجي (إما عن جهل بالأساليب الصحيحة، وإما عن اعتقاد بأن ذلك أفضل) وإني أرى أنه يخشى من سريان عدوى هؤلاء إلى الإنشاء العربي والشعر الجزل. فعسى أن يقلعوا عن هذا العمل - إن كانوا عربا - حرصا على ديباجة اللغة، ورأفة بأمهم الحنون، ونحن لهم من الشاكرين. فإن أبوا إلا المشاغبة فإني أحيلهم إلى المقال الذي كتبته في (أريج الزهر) فإن فيه مقنعا لهم على ما أظن.
ومما ينعش الآمال، ويحيي الرجاء أن كثيرا من المدارس أخذت تعنى باللغة العربية وآدابها، وتبذل الوسع إنهاضها. وإن لنا في كلية (الجامعة المصرية) آمالا كبارا. فقد علمنا إنها لا تألو جهدا في إحياء دوارس اللغة، والسعي نحو ترقيها، بإلقاء المحاضرات، وتأليف الكتب، وإرسال الطلاب على نفقتها إلى الجوامع الأوروبية. أخذ الله بيد كل من يعمل لإحياء هذه اللغة، ويسعى لإنعاشها.
أما ما يسعى إليه بعض الذين استهواهم التفرنج من المسلمين غير العرب، من بذل الجهد وراء ترجمة (القرآن الكريم) إلى لغتهم ليقرأوه بها، فإن هذا - وإن كان لا يضير العرب والعربية شيئا - فإنا نراه مخالفا للدين، مضيعا للمقصد الأعظم الذي جاء به النبي ﵊.- ولعمري لا يسعى بذلك إلا من فيه عرق من مجوسية. والمسلم كل المسلم - أية كانت لغته أو جنسيته - هو من يسعى في إحياء اللغة العربية، ويعمل على ترقيتها، وتكثير سواد المتكلمين بها فإنه بذلك يخدم الإسلام خدمة جلى. ينال فيها الأجر، وحسن الذكر، في الدنيا والآخرة.
وقد آن لنا أن نختم هذا الفصل. ونشرع فيما قصدنا إليه. وهو الكلام على رجال (المعلقات) وبالله المستعان.
تنبيه
إن اعتمادنا على ما نذكره من الكلام على المعلقات ورجالها وأشعارهم وما يتبع ذلك من تاريخ العرب هو على (الأغاني) و(خزانة الأدب) للبغدادي و(العقد الفريد) لابن عبد ربه و(شرح شواهد المغني) للسيوطي وشروح المعلقات ودواوين (زهير) و(طرفة) و(النابغة) و(الشعر أو الشعراء) لابن قتيبة. و(تاريخ آداب اللغة العربية) لجرجي زيدان و(آداب اللغة العربية) للمرصفي وتاريخ (أبي الفداء) و(تاريخ المسعودي) . غير أن جل الاعتماد وكثرة المآخذ إنما هما عن (الأغاني) و(خزانة الأدب) لذلك فلا حاجة للتنبيه على المأخذ. خصوصا وإننا قد تصرفنا في بعض العبائر وأدمجنا عبارة رجلين أو أكثر في موضوع واحد محافظين على روح المقصد.
المعلقات
المعلقات هي قصائد قد اختارها العرب من شعر فحولهم، وذهبوها على الحرير، وناطوها بالكعبة تشريفا لها، وتعظيما لمقامها، واعترافا بحسن سبكها، حتى أصبحت العرب تترنم بها في نواديها.
واختلف أصحاب الأخبار في شأن هذه المعلقات. فقال بعضهم: إن العرب قد بلف من تعظيمهم إياها أنهم علقوها بأستار الكعبة. وأنكر ذلك بعضهم وأكبره. وأقدم من أنكره (أبو جعفر النحاس) النحوي. وأكثر العلماء يذهب إلى أنها علقت في الكعبة. قال (ابن عبد ربه): (وكان معاصرا لابن النحاس وتوفي قبله سنة ٣٢٨ هـ-) "وقد بلغ من كلف العرب به (أي بالشعر) وتفضيلها له أن عمدت إلى سبع قصائد من الشعر القديم فكتبتها بماء الذهب في القباطي المدرجة، وعلقتها بأستار الكعبة. فمنه ما يقال له: "مذهبة امرئ القيس" و"مذهبة زهير". والمذهبات سبع، ويقال لها (المعلقات) ." وقد أيد أخبار تعليقها في الكعبة كثير من الناس في أعصر مختلفة. منهم (ابن رشيق) صاحب كتاب (العمدة) وهو من أكبر نقدة الشعرة. ومنهم (ابن خلدون) الأديب المؤرخ المشهور.
أصحاب المعلقات
1 / 13
قد اختلف الرواة في عدد المعلقات وأصحابها. فمنهم من يجعلها سبعا، وأصحابها هم (امرؤ القيس وطرفة بن العبد وزهير بن أبي سلمى ولبيد بن ربيعة وعمرو بن كلثوم وعنترة بن شداد والحارث بن حلزة اليشكري) . وبعضهم ثمانية، ويضيف إلى أصحابها (النابغة الذبياني) وبعضهم يجعلها عشرة، ويضيف إليهم (الأعشى ميمونا وعبيد بن الأبرص) .
وعلى أنهم عشرة درجنا في كتابنا هذا.
أشعر شعراء المعلقات
ما برح الخلاف بين المتأدبين - قديما وحديثا - فيمن هو أشعر الشعراء في الجاهلية. ولهم في ذلك مذاهب. على أنهم اتفقوا أو كادوا على تقديم شعراء (المعلقات) . وذكروا أن أشعر هؤلاء ثلاثة، وهم (امرؤ القيس وزهير بن أبي سلمى والنابغة الذبياني) . قال أبو عبيدة: "أشعر الناس أهل الوبر خاصة، وهم امرؤ القيس وزهير بن أبي سلمى والنابغة. وفي الطبقة الثانية (الأعشى ولبيد وطرفة) ".
وقد اختلفوا فيمن هو أشعر الجميع. فقال (الفرزدق): "امرؤ القيس أشعر الناس". وقال (ابن مقبل): "طرفة أشعر الناس". وقال (ابن أحمر): "زهير أشعر الناس". وقال (الكميت): "عمرو بن كلثوم أشعر الناس" وقال (ذو الرمة): "لبيد أشعر الناس". وقال (الأخطل): "الأعشى أشعر الناس". والراجح ما قال (أبو عبيدة): "امرؤ القيس ثم زهير والنابغة والأعشى ولبيد وعمرو بن كلثوم وطرفة".
وقد قالوا: "أشعر الشعراء أربعة: زهير إذا طرب، والنابغة إذا رهب، والأعشى إذا غضب، وعنترة إذا كلب، أي غضب".
وقالوا: "إن (امرأ القيس) صاحب النصيب الأوفر في الشعر، لأن الشعر في تعبيرهم كان جملا فنحر، فأخذ امرؤ القيس رأسه. وإن (زهيرا) يمتاز بأنه لا يعاظل بين كلامين، ولايتتبع وحشي الكلام، ولا يمدح أحدا بغير ما فيه. ولشعره ديباجة إن شئت قلت: "شهد إن مسسته ذاب". وإن النابغة أوضح الشعراء معنى، وأبعدهم غاية، وأكثرهم فائدة. وإن (الأعشى) أمدحهم للملوك، وأوصفهم للخمر، وأقدرهم شعرا، وأحسنهم قريضا. وإن (لبيدا) أقلهم لغوا. وإن (عمرو بن كلثوم) أعزهم نفسا، وأكثرهم امتناعا، وأجودهم واحدة. وإن (طرفة) أشعرهم: إذ بلغ - على حداثة سنه - ما بلغه القوم في طول أعمارهم".
قال (ابن عبد ربه) اختلف الناس في أشعر الشعراء. قال النبي ﷺ وقد ذكر عنده (امرؤ القيس بن حجر): "هو قائدهم وحامل لوائهم". وقال (عمر بن الخطاب) للوفد الذين قدموا عليه من غطفان: من الذي يقول:
حلفت فلم أترك لنفسك ريبة ... وليس وراء الله للمرء مطلب
قالوا: هو نابغة بني (ذبيان) . قال لهم: فمن الذي يقول:
أتيتك عاريا خلقا ثيابي، ... على وجل، تظن بي الظنون
فألقيت الأمانة لم تخنها ... كذلك كان نوح لايخون
قالوا: هو (النابغة) . قال: "هو أشعر شعرائكم" وقال (عمرو بن العلاء): طرفة أشعرهم واحدة. يعني قصيدته:
لخولة أطلال ببرقة ثهمد، ... تلوح كباقي الوشم في ظاهر اليد
وفيها يقول:
ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلًا ... ويأتيك بالأخبار من لم تزود
وأنشد للنبي ﷺ هذا البيت، فقال: "هو من كلام النبوة".
امرؤ القيس بن حجر
توفي سنة (٨٠) قبل الهجرة. وقيل سنة (٥٦٥) لميلاد المسيح ﵇. والفرق بين الروايتين زهاء (٢٠) سنة هو (أبو وهب أو أبو الحارث أو أبو زيد، امرؤ القيس بن حجر بن الحارث بن عمرو بن حجر آكل المرار الكندي) الشاعر المشهور من فحول شعراء الطبقة الأولى. ويتصل نسبه بملوك (كندة) وهم بطن من (كهلان) بن (سبأ) بن (يشجب) بن (يعرب) بن (قحطان) .
وأمه (فاطمة) بنت (ربيعة بن الحارث بن زهير) أخت (كليب) و(مهلهل) ابني (ربيعة) التغلبيين.
ويقال له الملك (الضليل) و(ذو القروح) .
شيء عن قومه
كان قومه يقيمون في (المشقر) من أرض (اليمامة) . ويقال: بل كانوا ينزلون في حصن (بالبحرين) ثم أجلوا عنه إلى (حضرموت) . وقد أقاموا هناك دهرا يتولون أعمال الدولة على عهد (التبابعة) الحميريين. وقد ضاع أكثر أخبارهم. وأقدم من عرفت أخباره (حجر آكل المرار) جد (امرئ القيس) صاحب المعلقة. وقد نزح (حجر) هذا إلى (نجد) ونزل (بطن عاقل) في أوائل القرن الخامس لميلاد المسيح ﵇.
1 / 14
وذلك أنه لما تسافهت (بكر بن وائل) وغلبها سفهاؤها، وتقاطعت أرحامها، ارتأى رؤساؤهم، فقالوا: "إن سفهاءنا قد غلبوا على أمرنا، فأكل القوي الضعيف، ولا نستطيع تغيير ذلك. فنرى أن نملك علينا ملكا نعطيه الشاة والبعير. فيأخذ للضعيف من القوي، ويرد على المظلوم من الظالم. ولا يمكن أن يكون من بعض قبائلنا فيأباه الآخر، فتفسد ذات بيننا. ولكنا نأتي (تبعا) فنملكه علينا". فأتوه فذكروا له أمرهم. فملك عليهم (حجرا آكل المرار الكندي) . فقدم، فنزل (بطن عاقل) . ثم غزا ببني (بكر بن وائل) ملوك (الحيرة) اللخميين وهم المناذرة ملوك العرب وواحدهم (المنذر) وكانوا قد ملكوا كثيرا من تلك البلاد، سيما بلاد (بكر بن وائل) حتى انتزع عامة ما في أيدي هؤلاء الملوك وردهم إلى أقاصي أعمالهم. قيل: وغزا بهم أيضا ملوك (الشام) وهم (الغسانيون) .
ولما ملك (حجر) سدد أمورهم وساسهم أحسن سياسة حتى مات في أواسط القرن الخامس الميلادي.
ولما مات خلفه ابنه (عمرو بن حجر) وهو (المقصور) . وسمي (المقصور) لأنه اقتصر على ملك أبيه، أي أقعد فيه كرها.
فلما مات خلفه ابنه "الحارث بن عمرو" فكان شديد الملك، بعيد الصيت. وفي أيامه فتح الأحباش "اليمن"، فضعف أمر دولته. فوجه عزيمته نحو "اللخميين" لينتزع الملك منهم. وكان يحسدهم لمنزلتهم عند الأكاسرة. وكان "كسرى قباذ" على "المنذر بن ماء السماء" اللخمي ملك العرب، فاغتنم "الحارث" تغير "كسرى" عليه، وأخذ يسعى بالتقرب منه.
مذهب المزدكية
وقد ذكروا في سبب تغير "كسرى قباذ" على "المنذر بن ماء السماء" أنه قد خرج في أيامه رجل يقال له "مزدك" فدعا الناس إلى الزندقة وإباحة الحرم وأن لا يمنع أحد أخاه ما يريده من ذلك. وكان "المنذر بن ماء السماء" يومئذ عاملا على "الحيرة" ونواحيها. فدعاه "قباذ" إلى الدخول معه في ذلك فأبى. فدعا "الحارث بن عمرو" فأجابه، فشدد له ملكه، واطرد المنذر عن مملكته، وغلب على ملكه. فعظم "الحارث" عند القبائل من "نزار" أتاه أشرافهم، فقالوا: "إنا نخاف أن نتفانى مما يحدث بيننا، فوجه معنا بنيك ينزلون فينا، فيكفون بعضنا عن بعض". ففرق ولده في قبائل العرب. وكان له خمسة أولاد. فملك ابنه "حجرا" أبا "امرئ القيس" صاحب المعلقة على بني "أسد" و"غطفان" وفرق أولاده الأربعة وهم "شرحبيل" قتيل "يوم الكلاب" و"معد يكرب" وهو "غلفي" "سمي بذلك لأنه كان يغلف رأسه" و"عبد الله" و"سلمة" على قبائل العرب يحكمون فيهم.
غير أن الحال لم تدم للحارث بن عمرو. بل قد قلب له الدهر ظهر المجن. فقد نكب ثم قتل.
وقد ذكروا في سبب نكبته أن أم "أنو شروان" كانت يوما بين يدي "كسرى قباذ" - وهي امرأته - فدخل عليه "مزدك" الزنديق السالف الذكر، فلما رأى أم "أنو شروان" قال لقباذ: "ادفعها إلي لأقضي حاجتي منها". فقال له: "دونكها" فوثب إليه "أنو شروان"، فلم يزل يسأله ويضرع إليه أن يهب له أمه، حتى قبل رجله. فتركها له. فكانت تلك في نفس "أنو شروان".
قتل المزدكيين
فلما هلك "قباذ" وهو على تلك الحال من الزندقة، وملك بعده "أنو شروان"، وهو الملقب بالعادل، جلس في مجلس الملك. وبلغ المنذر هلاك "قباذ" فأقبل إلى "أنو شروان". وقد علم خلافه على أبيه فيما كانوا قد دخلوا فيه. فأذن "أنو شروان" للناس. وكان فيمن دخل عليه "مزدك" الزنديق صاحب أبيه. ثم دخل عليه "المنذر". فقال "أنو شروان": "إني كنت قد تمنيت أمنيتين أرجو أن يكون الله قد جمعهما لي". فقال "مزدك": "وما هما أيها الملك؟ "؟ قال "تمنيت أن أملك فأستعمل هذا الرجل الشريف "يعني المنذر"، وأن أقتل هؤلاء الزنادقة". فقال له "مزدك": "أو تستطيع أن تقتل الناس كلهم؟ ". قال: "إنك لههنا يا ابن الزانية؟ ". والله ما ذهب "نتن ريح جوربك من أنفي منذ قبلت رجلك إلى يومي هذا". وأمر به فقتل وصلب. وأمر بقتل الزنادقة، فقتل منهم ما بين "حاذر" إلى "النهروان" إلى "المدائن" في ضحوة واحدة مئة ألف زنديق، وصلبهم، وسمي يومئذ "أنو شروان".
1 / 15
ثم طلب أنو شروان الحارث بن عمرو "الذي تابع أباه على الزندقة حتى ولاه مكان المنذر" فبلغ "الحارث" ذلك وهو "بالأنبار" وكان بها منزله - فخرج هاربا في هجائنه وماله وولده. وتبعه "المنذر" بالخيل من "تغلب" و"بهراء" و"إياد". فلحق "الحارث" بأرض "كلب" فنجا. وانتبهوا ماله وهجائنه. وأخذت بنو تغلب ثمانية وأربعين نفسا من "حجر آكل المرار" جد "الحارث" المذكور. فقدم بهم على المنذر، فضرب رقابهم. وفيهم يقول "عمرو بن كلثوم":
فآبوا بالنهاب وبالسبايا، ... وأبنا بالملوك مصفدينا
قالوا: ومضى الحارث فأقام بأرض "كلب". فكلب يزعمون أنهم قتلوه. وعلماء "كندة" تزعم أنه خرج إلى الصيد فألظ بتيس من الظباء فأحجزه، فآلى ألية أن لا يأكل أولا إلا من كبده، فطلبته الخيل ثلاثا، فأتى به بعد ثالثة وقد هلك جوعا. فشوى له بطنه، فتناول فلذة من كبده فأكلها حارة فمات.
خبر أبي امرئ القيس
أبوه هو "حجر بن الحارث بن عمرو". وكان "الحارث" أبوه قد ولاه على بني أسد وغطفان. - كما تقدم - فضرب عليهم إتاوة كانوا يؤدونها إليه كل سنة. وبقي على ذلك حينا حتى أثقلهم. فلما علموا بنكبة أبيه ثم بموته طمعوا فيه وأظهروا العصيان وامتنعوا من أداء الأتاوة. وذلك أنه بعث إليهم جابيه الذي كان يجبيهم فمنعوه ذلك - وحجر يومئذ بتهامة - وضربوا رسله وضرجوهم ضرجًا شديدًا قبيحًا. فبلغ ذلك (حجرا) فسار إليهم بجند من (ربيعة) وجند من جند أخيه من (قيس) و(كناية) . فأتاهم وأخذ سراتهم، فجعل يقتلهم بالعصا، فسموا عبيد العصا، وأباح الأموال، وصيرهم إلى (تهامة) . وآلى بالله أن لا يساكنوهم في بلد أبدا. وحبس منهم (عمرو بن مسعود بن كندة ابن فزارة الأسدي) - وكان سيدا - و(عبيد بن الأبرص) الشاعر. فسارت (بنو أسد) ثلاثا. ثم إن (عبيد بن الأبرص) قام فقال: "أيها الملك اسمع مقالتي" وأنشده قصيدة منها:
يا عين، فابكي ما بني ... أسد، فهم أهل الندامة
أهل القباب الحمر ... والنعم المؤبل والمدامة
وذوي الجياد الجرد ... والأثل المثقفة المقامة
إما تركت تركت عفوا ... أو قتلت فلا ملامة
أنت المليك عليهم ... وهم العبيد إلى القيامة
ذلوا لسوطك مثلما ... ذل الأشيقر ذو الخزامة
فرق لهم (حجر) وصفح عن جريرتهم حين سمع قوله. فبعث في أثرهم، فأقبلوا. حتى إذا كانوا على مسيرة يوم من (تهامة) تكهن لهم كاهنهم (وهو عوف بن ربيعة) أنهم سيقتلون حجرا وينهبون أمواله. فركبوا كل صعب وذلول، فما أشرق لهم النهار حتى أتوا عسكر (حجر) . فهجموا على قبته. فلما نظروا حجابه (وكانوا من بني الحارث بن سعد يقال لهم (بنو خدان)، وكان حجر قد أعتق أباهم من القتل) إلى القوم يريدون قتله خيموا عليه ليمنعوه ويجيروه. فأقبل عليهم (علباء بن الحارث الكاهلي) وكان حجر قد قتل أباه، فطعنه من خللهم فأصاب نساه فقتله. فلما قتلوه قالت بنو أسد: "يا معشر كنانة وقيس، أنتم إخواننا وبنو عمنا، والرجل بعيد النسب منا ومنكم، وقد رأيتم ما كان يصنع بكم هو وقومه، فانتبهوهم". فشدوا على هجائنه فمزقوها. ولفوه في ريطة بيضاء، وطرحوه على ظهر الطريق. فلما رأته (قيس وكنانة) انتبهوا أسلابه. وقيل: بل قتله غلام من بني كاهل (وكان ابن أخت (علباء بن الحارث) وكان "حجر" قد قتل أبا الغلام) وكان المحرض على قتله "علباء" المذكور.
وقد ذكر الرواة في قتله روايات مختلفة أقربها إلى الصحة ما ذكرناة.
قالوا: ووثب (عمرو بن مسعود) فضم عيال (حجر) . وقال: "أنا لهم جار". وقيل: إن الذي أجار عياله هو (عوير بن شجنة) . فقال له قومه: "كل أموالهم فإنهم مأكولون" فأبى. فلما كان الليل حملهم حتى أوصلهم إلى (نجران)، فقال لابنته: "لست أغني عنك شيئا وراء هذا الموضع، وهؤلاء قومك، وقد برئت من خفارتي". فمدحه امرؤ القيس بعدة قصائد. منها قوله:
عوير، ومن مثل العوير ورهطه ... أبر بميثاق وأوفى بجيران؟
هم أبلغوا الحي المضيع أهله، ... وساروا بهم بين العراق ونجران
خبر امرئ القيس
1 / 16
لما طعن (حجر) والد (امرئ القيس) لم يجهز عليه. وقد أوصى قبل موته. ودفع وصيته إلى رجل. وقال له: "انطلق إلى ابني (نافع) "وكان أكبر أولاده" فإن بكى وجزع فآله عنه. واستقرهم واحدا واحدا حتى تأتي (امرأ القيس) "وكان أصغرهم". فأيهم لم يجزع فادفع إليه سلاحي وخيلي ووصيتي". وكان قد بين في وصيته من قتله وكيف كان خبره. فانطلق الرجل بوصيته إلى (نافع) ابنه. فأخذ التراب فوضعه على رأسه. ثم استقراهم واحدا واحدا. فكلهم فعل ذلك حتى أتى (امرأ القيس) . فوجده مع نديم له يشرب الخمر ويلاعبه بالنرد. فقال له: "قتل حجر". فلم يلتفت إلى قوله. وأمسك نديمه عن اللعب. فقال له (امرئ القيس): اضرب، فضرب. حتى إذا فرغ قال: "ما كنت لأفسد عليك دستك". ثم سأل الرسول عن أمر أبيه كله. فأخبره. فقال: "الخمر علي والنساء حرام، حتى أقتل من بني أسد مئة وأجز نواصي مئة. وفي ذلك يقول:
أرقت، ولم يأرق لما بي نافع، ... وهاج لي الشوق الهموم الرواجع
قال ابن الكلبي: إن (حجرا) كان قد طرد (امرئ القيس) وآلى إن لا يقيم معه أنفة من قوله الشعر"وكانت الملوك تأنف من ذلك" فكان يسير في أحياء العرب، ومعه أخلاط من شذاذ العرب من (طيء) و(كلب) و(بكر بن وائل) . فإذا وجد غديرا أو روضة أو موضع صيد أقام وذبح لمن معه في كل يوم، وخرج إلى الصيد فتصيد، ثم عاد فأكل وأكلوا معه وشرب الخمر وساقهم وغنته قيانه. ولا يزال كذلك حتى ينفذ ماء ذلك الغدير، فينتقل عنه إلى غيره. فأتاه خبر أبيه وهو في (دمون) من أرض اليمن. فلما أتاه الخبر قال:
تطاول الليل علينا دمون ... دمون، إنا معشر يمانون
وإننا لأهلها محبون
ثم قال: "ضيعني صغيرا، وحملني دمه كبيرا. لا صحو اليوم ولا سكر غدا. اليوم خمر، وغدا أم" فذهبت مثلا. ثم قال:
خليلي ما في اليوم مصحى لشارب، ... ولا في غد إذ ذاك ما كان يشرب
ثم شرب سبعا فلما صحا آلى أن يأكل لحما، ولا يشرب خمرا، ولا يدهن بدهن، ولا يصيب امرأة، ولا يغسل رأسه من جنابة، حتى يدرك بثأره.
فلما جنه الليل رأى برقا، فقال:
أرقت لبرق بليل أهل، ... يضيء سناه بأعلى الجبل
أتاني حديث ... فكذبته
بأمر تزعزع منه القلل
بقتل بني أسد ربهم ... ألا كل شيء سواه جلل
فأين ربيعة من ربها؟، ... وأين تميم؟، وأين الخول؟
ألا يحضرون لدى بابه، ... كما يحضرون إذا ما أكل
طرد أبيه إياه
قالوا: وكان (امرئ القيس) كثير التشبيب بالنساء والتغزل بهن. وكان أبوه (حجر) يسوءه ذلك منه. فلما كان يوم (دارة جلجل) واجتمع بفاطمة، وكان له معها ما كان مما قصه في معلقته، وأنشد فيها قصيدته هذه، غضب أبوه عليه وأرسله مع مولى له. فقال له: خذ "امرأ القيس" واذبحه وائتني بعينيه". فأخذ الغلام وانطلق به. فلما صارا في الصحراء خاف الغلام: إن هو أنفذ أمر أبيه عاودته الشفقة عليه بعد حين فيقتله به. فأطلقه وأخذ جؤذرا وامتلخ عينيه وأتى بهما (حجرا) أباه. فحين رآهما ندم على ما كان منه. فقال الغلام "أبيت اللعن، إني لم أقتله". قال: "فائتني به" فانطلق، فإذا هو قد قال شعرًا في رأس جبل، وهو:
فلا تتركني يا ربيع لهذه، ... وكنت أراني قبلها بك واثقا
فرده إلى أبيه. فنهاه عن قول الشعر. فمكث زمنًا لا يقوله. ثم إنه قال قصيدته التي مطلعها:
ألا عم صباحا أيها الطلل البالي ... وهل يعمن من كان في العصر الخالي
ومنها:
لقد زعمت بسباسة اليوم أنني ... كبرت، وإن لا يحسن اللهو أمثالي
ويا رب يوم قد لهوت وليلة ... بآنسة كأنها خط تمثال
تنورتها من أذرعات، واهلها ... بيثرب، أدنى دارها نظر عال
نظرت إليها ... والنجوم كأنها
مصابيح رهبان
تشب لقفال
سموت إليها بعد ما نام أهلها ... سمو جباب الماء، حالا على حال
فقالت سباك الله، إنك فاضحي: ... ألست ترى السمار والناس أحوالي
فقلت: يمين الله أبرح قاعدا ... ولو قطعوا رأسي لديك وأوصالي
حلفت لها بالله حلفة فاجر ... لناموا فما إن من حديث ولا صالي
فأصبحت معشوقا، وأصبح بعلها ... عليه القتام، سيء الظن والبال
1 / 17
يغط غطيط البكر ... شد خناقه
ليقتلني، والمرء ليس بقتال
أيقتلني، والمشرفي مضاجعي ... ومسنونه زرق كأنياب أغوال
وليس بذي رمح فيطعنني به، ... وليس بذي سيف، وليس بنبال
ومنها:
كأن قلوب الطير رطبا ويابسا ...
لدى وكرها
العناب والحشف البالي
فلو أن ما أسعى لأدنى معيشة ... كفاني
ولم أطلب
قليل من المال
ولكنما أسعى لمجد مؤثل ... وقد يدرك المجد المؤثل أمثالي
وما المرء ... مادامت حشاشة نفسه
بمدرك أطراف الخطوب ولا آلي
فبلغ ذلك أباه فطرده. فما زال هائما على وجهه حتى بلغه مقتل أبيه وهو بدمون. كما قدمنا.
ومما قاله بعد ما بلغه قتل أبيه:
تالله لا يذهب شيخي باطلا، ... حتى أبيد عامرا وكاهلا
(القاتلين الملك الحلاحلا) ... خير معد حسبا ونائلا
نحن جلبنا القرح القوافلا، ... يحملننا والأسل النواهلا
وحي صعب، والوشيح الذابلا ... يالهف نفسي إذ خطئن كاهلا
ما كان من أمره بعد مقتل أبيه
حدث (سيبويه) النحوي أن (الخليل بن أحمد) أخبره، قال: قدم على (امرئ القيس بن حجر) بعد مقتل أبيه رجال من قبائل (بني أسد) كهول وشبان. فيهم (المهاجر بن خداش) و(قبيصة بن نعيم) . فلما علم بمكانهم أمر بإنزالهم وتقدم بإكرامهم والإفضال عليهم. واحتجب عنهم ثلاثا. فسألوا من حضرهم من رجال (كندة) . فقال: "هو في شغل شاغل بإخراج ما في خزائن حجر من الحلقة والسلاح". فقالوا: اللهم غفرا. إنما جئنا في أمر نتناسى به ذكر ما سلف، ونستدرك به ما فرط. فليبلغ ذلك عنا. فخرج عليهم امرؤ القيس في قباء وعمامة سوداء (وكانت العرب لا تعتم بالسواد إلى في الترات فلما نظروا إليه قاموا له. وبدر إليه قبيصة (وقال): "إنك في المحل والقدر، والمعرفة بتصرف الدهر، وما تحدثه أيامه، وتنتقل به أحواله، بحيث لا تحتاج إلى تبصرة واعظ، ولا تذكرة مجرب. ولك من سؤدد منصبك، وشرف أعراقك، وكرم أصلك، محتد يحتمل ما حمل عليه من إقالة العثرة، ورجوع عن الهفوة. ولا تتجاوز الهمم إلى غاية إلا رجعت إليك، فوجدت عندك من فضيلة الرأي وبصيرة الفهم، وكرم الصفح، ما يطول رغباته، ويستغرق طلباتها. وقد كان ما كان من الخطب الجليل الذي عمت رزيته (نزارا) و(اليمن)، ولم تخصص بذلك (كندة) دوننا، للشرف البارع الذي كان لحجر: التاج والعمة فوق الجبين، وإخاء الحمد، وطيب الشيم. ولو كان يفدي هالك بالأنفس الباقية بعده لما بخلت كرائمنا على مثله ببذل ذلك، ولفديناه بمثله. ولكن مضى به سبيل لا يرجع أخراه على أولاه، ولا يلحق أقصاه أدناه. فأحمد الحالات في ذلك أن تعرف الواجب عليك في إحدى خلال ثلاث: إما أن اخترت من (بني أسد) أشرفها بيتا، وأعلاها في بناء المكرمات صوتا، فقدناه إليك بنسعه يذهب مع شفرات حسامك بباقي قصرته، فنقول: "رجل امتحن بهلك عزيز، فلم تستل سخيمته إلا بتمكينه من الانتقام. وإما فداء بما يروح من بني أسد من نعمها، فهي ألوف تجاوز الحسبة، فيكون ذلك فداء رجعت به القضب إلى أجفانها. وإما أن تواعدنا حتى تضع الحوامل، فنسدل الأزر، ونعقد الخمر فوق الرايات".
قال فبكى ساعة ثم قال: "لقد علمت العرب أن لا كفؤ لحجر في دم. وأني لن أعتاض به جملا أو ناقة، فأكتسب بذلك سبة الأبد، وفت العضد. وأما النظرة فقد أوجبتها الأجنة في بطون أمهاتها، ولن أكون لعطبها سببا. وستعرفون طلائع كندة من بعد ذلك، تحمل في القلوب حنقا، وفوق الأسنة علقا:
إذا جالت الخيل في مأزق ... تصافح فيه المنايا النفوسا
أتقيمون أم تنصرفون؟ " قالوا: "بل ننصرف بأسوأ الاختيار، وأبلى الاجترار: بمكروه وأذية، وجرب وبلية".
ثم نهضوا، و(قبيصة) يقول متمثلا:
لعلك أن تستوخم الورد إن عدت ... كتائبنا في مأزق الموت تمطر
فقال امرؤ القيس: "لا، والله لا أستوخمه، بل أستعذبه. فرويدا ينكشف لك دجاها عن فرسان (كندة) وكتائب (حمير) . ولقد كان ذكر غير هذا أولى بي، إذ كنت نازلا بربعي. ولكنك قلت فأجبت".
فقال (قبيصة): "إن ما نتوقع فوق قدر المعاتبة والإعتاب".
فقال امرؤ القيس: "هو ذاك".
ثم انصرفوا.
شيء عن حروبه ثائرا لأبيه:
1 / 18
ثم إن (امرأ القيس) ارتحل يستجيش القبائل. وطاف بين العرب يستنجدهم. حتى نزل (بكرا) و(تغلب) . فسألهم النصر على (بني أسد) قاتلي أبيه، فأجابوا. فبعث العيون على (بني أسد) . فعلموا بذلك. ولجأوا إلى (بني كنانة) ولما خافوا أن يدركهم فيهم ارتحلوا بليل. وكان الذي أنذرهم أن يرحلوا (علباء بن الحارث الكاهلي) .
ثم أقبل (امرؤ القيس) بمن معه من (بكر) و(تغلب) حتى انتهى إلى (بني كنانة) - وهو يحسبهم (بني أسد) - فوضع السلاح فيهم، وقال: "يا لثارات الملك، يا لثارات الهمام". فخرجت إليه عجوز من (بني كنانة) فقالت: "أبيت اللعن. لسنا لك بثأر. نحن من (بني كنانة) . فدونك ثأرك فاطلبهم، فإن القوم قد ساروا بالأمس". فتبع (بني أسد)، ففاتوه ليلتهم تلك. فقال في ذلك:
ألا يا لهف هند إثر قوم ... هم كانوا الشفاء، فلم يصابوا
وقاهم جدهم ببني أبيهم، ... وبالأشقين ما كان العقاب
وأفلتهن علباء جريضا، ... ولو أدركته صفر الوطاب
يعني ببني أبيهم (بني كنانة) لأن (أسدا) و(كنانة) ابني (خزيمة) أخوان.
هم لحقهم وقد تقطعت خيله وقطع أعناقهم العطش. و(بنو أسد) حامون على الماء. فنهد إليهم. فقاتلهم حتى كثرت القتلى والجرحى فيهم. وحجز الليل بينهم. وهرب (بنو أسد) . فلما أصبح من معه من (بكر) و(تغلب) أبوا أن يتبعوهم. وقالوا: "لقد أصبت ثأرك". قال: "والله ما فعلت ولا أصبت من (بني كاهل) ولا من غيرهم من (بني أسد) أحدا" قالوا: (بلى ولكنك رجل مشؤوم) . ثم انصرفوا عنه. ومضى هاربا لوجهه حتى لحق (بحمير) فاستنصر (ازدشنؤة) فأبوا أن ينصروه. فنزل بقيل يدعى (مرثد الخير بن ذي جدن الحميري) وكان بينهما قرابة، فاستنصره واستمده على (بني أسد) . فأمده بخمس مئة رجل من (حمير) . وتبعه شذاذ من العرب. واستأجر من قبائل العرب رجالا. فسار بهم إلى (بني أسد) . وظفر بهم.
مطاردة المنذر لامرئ القيس
ثم إن المنذر وجه الجيوش في طلب (امرئ القيس) . وأمده (كسرى أنو شروان) بجيش من (الأساورة) . فسرحهم في طلبه. فتفرقت (حمير) ومن معه. فنجا (امرؤ القيس) في عصبة من رهطه. فما زال في حل وترحال، ينتقل من قبيلة إلى قبيلة، حتى نزل برجل من (بني فزارة) يقال له (عمرو بن جابر بن مازن) . فطلب منه الجوار-. فقال له الفزاري: "يا ابن حجر، إني أراك في خلل من قومك، وأنا أنفس بمثلك من أهل الشرف، وقد كدت بالأمس تؤكل في ديار (طيء) (وكان امرؤ القيس قد نزل بهم بعد (فزارة) فانتهب قوم إبله) . وأهل البادية أهل وبر، لا أهل حصون تمنعهم. وبينك وبين أهل (اليمن) ذؤبان من (قيس) . أفلا أدلك على بلد؟، فقد جئت قيصر وجئت النعمان، فلم أر لضيف نازل ولا لمجتد مثله ومثل صاحبه".
قال امرؤ القيس: "فمن هو؟ وأين منزله؟ ". قال: "هو (السموأل)، ومنزله (بتيماء) . وسوف أضرب لك مثله: هو يمنع ضعفك حتى ترى ذات غيبك. وهو في حصن حصين، وحسب كبير" فقال: "وكيف لي به؟ " قال: "أوصلك إلى من يوصلك إليه".
نزوله على السموأل
ثم أصحبه (عمرو بن جابر) رجلا من (فزارة) يقال له (الربيع بن ضبع) (وكان ممن يأتي (السموأل) فيحمله ويعطيه) فلما صار إلى (السموأل) أكرمه، وأنزل من معه من النساء في قبة أدم، وأنزل القوم في مجلس له براح. فكان عنده ما شاء.
سفره إلى (فروق) مستنجدا بقيصر
ثم إنه طلب إلى (السموأل) أن يكتب له إلى (الحارث بن أبي شمر الغساني) بالشام ليوصله إلى (قيصر) . فأجابه إلى ذلك. وترك (امرؤ القيس) عنده بنيه والدروع وابن عمه (يزيد بن الحارث) . ومضى إلى (قيصر) في (قسطنطينية) ومعه (عمرو بن قبصة) الشاعر. فلما انتهوا إلى الحد الفاصل بين بلاد العرب وبلاد الروم (وهو يفصل بلاد حلب عن الأناضول) جزع (قبصة) وبكى. وفي ذلك يقول امرؤ القيس:
بكى صاحبي لما رأى الدرب دونه ... وأيقن أنا لاحقان بقيصرا
فقلت له: لا تبك عينك، إنما ... نحاول ملكا، أو نموت فنعذرا
وهذان البيتان من قصيدة له يقول فيها:
فلما بدا حوران والآل دونه ... نظرت فلم تنظر بعينيك منظرا
تقطع أسباب اللبانة والهوى ... عشية جاوزنا حماة وشيزرا
فدع ذا، وسل الهم عنك بجسرة ... ذمول، إذا صام النهار وهجرا
1 / 19
عليها فتى لم تحمل الأرض مثله ... أبر بميثاق، وأوفى، وأصبرا
ولو شاء كان الغزو من آل حمير، ... ولكنه عمدا إلى الروم أنفرا
لقد أنكرتني بعلبك وأهلها، ... ولابن جريج في قرى حمص أنكرا
إذا قلت: هذا صاحب قد رضيته ... وقرت به العينان، بدلت آخرا
كذلك جدي ما أصاحب صاحبا ... من الناس، إلا خانني وتغيرا
وقال في آخرها:
ونشرب حتى نحسب الخيل حولنا ... نقادا، وحتى نحسب الجون أشقرا
فلما كان عند قيصر قبله وأكرمه، وصارت له عنده منزلة.
قيل: وقد رأى امرؤ القيس بنت قيصر فشغفها وشغفته حبا، دون أن يعلم أبوها بالأمر.
رجوعه من عند قيصر
ثم إن (قيصر) ضم إليه جيشا كثيفا، وفيه جماعة من أبناء الملوك فاندس رجل من بني أسد يقال له (الطماح) (وكان امرؤ القيس قد قتل أخا له) . فجاء (الطماح) هذا إلى بلاد الروم مستخفيا فوشى به إلى قيصر، بعد أن فصل بالجيش. فقال له: "إن امرأ القيس غوي عاهر، وإنه لما انصرف عنك بالجيش ذكر أنه كان يراسل ابنتك وتراسله، وهو قائل فيها في ذلك أشعارا يشهرها بها في العرب فيفضحها ويفضحك". فلما سمع ذلك (قيصر) بعث إلى (امرئ القيس) بحلة مسمومة منسوجة بالذهب. وقال له: "قد أرسلت إليك بحلتي التي كنت ألبسها، تكرمة لك. فإذا وصلت إليك فالبسها باليمن والبركة. واكتب إلى بخبرك من منزل منز. فلما وصلت إليه لبسها، واشتد بها سروره. وكان يوما صائفا شديد الحر، فأسرع فيه السم، وسقط جلده فلذلك سمي (ذا القروح) . وفي حالته هذه يقول:
وبدلت قرحا داميا بعد صحة ... فيا لك من نعمى تحولن أبؤسا
لقد طمح الطماح من بعد أرضه ... ليلبسني من دائه ما تلبسا
ومن هذه القصيدة قوله:
فإما تريني لا أغمض ساعة ... من الليل، إلا أن أكب فأنعسا
فيا رب مكروب كررت وراءه، ... وطاعنت عنه الخيل حتى تنفسا
وما خلت تبريح الحياة كما أرى، ... تضيق ذراعي أن أقوم فألبسا
فلو أنها نفس تموت جميعة، ... ولكنها نفس تساقط أنفسا
فيا رب مكروب كررت وراءه، ... وعان فككت الغل عنه ففداني
وفي هذه القصيدة يقول:
إذا المرء لم يخزن عليه لسانه ... فليس على شيء سواه بخزان
وخرق بعيد قد قطعت نياطه ... على ذات لوث سهوة المشي مذعان
وغيث كألوان الفنا قد هبطته، ... تعاور فيه كل أوطف حنان
على هيكل يعطيك قبل سؤاله ... أفانين جري، غير كز ولا واني
يدافع أعطاف المطايا بركنه ... كما مال غصن ناعم بين أغصان
ومجر كغلان الأنيعم بالغ ... ديار العدو، ذي زهاء وأركان
مطوت بهم حتى تكل مطيهم، ... وحتى الجياد ما يقدن بأرسان
موت امرئ القيس
فلما صار في بلدة من بلاد الروم تدعى (أنقرة) احتضر بها. فقال: "رب خطبة محبرة، وطعنة مسحنفرة، وجفنة مثعنجرة، تبقى غدا بأنقرة".
قالوا: ورأى امرؤ القيس قبر امرأة من بنات الملوك ماتت هناك، فدفنت في سفح جبل يقال له (عسيب) . فسأل عنها فأخبر بقصتها. فقال:
أجارتنا، إن الخطوب تنوب، ... وإني مقيم ما أقام عسيب
أجارتنا، إنا غريبان ههنا، ... وكل غريب للغريب نسيب
وهذا آخر شيء تكلم به. ثم مات، فدفن إلى جنب المرأة. فقبره هناك.
مما يؤثر عنه قبل وفاته بسفح جبل (عسيب) قوله:
ألا أبلغ بني حجر بن عمرو، ... وأبلغ ذل الحي الحديدا
بأني قد هلكت بأرض قوم، ... سحيقا من دياركم بعيدا
الكلام على شعره
كان امرؤ القيس فصيح الألفاظ، جيد السبك، كثير المعاني، مقدما على شعراء الجاهلية. وهو أول من سبق إلى أشياء ابتدعها، فاستحسنتها العرب، واتبعته عليها الشعراء. وذلك كتلطيفه المعاني، ورقة النسب، وقرب المأخذ، واستيقاف الأطلال، ووصف النساء بالظباء والمها، وتشبيه الخيل بالعقبان، والتفريق بين النسيب وما سواه في القصيدة، وإحكام التشبيه، وتجويد الاستعارة. وقد شهد له بذلك كثير من الشعراء كلبيد وغيره.
وروى (الجمحي) أن سائلا سأل (الفرزدق): من أشعر الناس؟. قال: ذو القروح حيث يقول:
وقاهم جدهم ببني أبيهم، ... وبالأشقين ما كان العقاب
1 / 20