Meditations
تأملات
Penyiasat
(إشراف ندوة مالك بن نبي)
Penerbit
دار الفكر
Nombor Edisi
الأولى
Tahun Penerbitan
١٩٧٩م.
Lokasi Penerbit
دمشق سورية
Genre-genre
مالك بن نبي
مشكلات الحضارة
تأملات
دار الفكر المعاصر- بيروت لبنان
دار الفكر-دمشق سورية
1 / 1
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تأملات
1 / 2
مالك بن نبي
تأملات
بإشراف ندوة مالك بن نبي
دار الفكر المعاصر-بيروت-لبنان
دار الفكر-دمشق-سورية
1 / 3
جميع الحقوق محفوظة
١٤٢٣هـ - ٢٠٠٢م
ط١: ١٩٧٩م.
1 / 4
بسم الله الرحمن الرحيم
في عام ١٩٧١ ترك أستاذنا مالك بن نبي ﵀ في المحكمة الشرعية في طرابلس لبنان، وصية سجلت تحت رقم ٦٧/ ٢٧٥ في ١٦ ربيع الثاني ١٣٩١
الموافق ١٠ حزيران ١٩٧١، وقد حملني فيها مسؤولية كتبه المعنوية والمادية.
وتحملًا مني لهذه الرسالة، ووفاءً لندوات سقتنا على ظمأ صافي الرؤية، رأيت تسمية ما يصدر تنفيذًا لوصية المؤلف (ندوة مالك بن نبي).
والتسمية هذه، دعوة إلى أصدقاء مالك بن نبي وقارئيه، ليواصلوا نهجًا في دراسة المشكلات، كان قد بدأه.
وهي مشروع نطرحه كنواة لعلاقات فكرية، كان ﵀ يرغب في توثيقها.
وإنني لارجو من أصدقاء مالك وقارئيه، مساعدتنا على حفظ حقوق المؤلف في كل ما ينشر بالعربية أو الفرنسية مترجمًا من قبل المترجمين أو غير مترجم.
فقد حمّلني، ﵀، مسؤولية حفظ هذه الحقوق، والإذن بنشر كتبه. فإن وجدت طبعات لم تذكر فيها إشارة إلى إذن صادر من قبلنا، فهذه طبعات غير مشروعة، ونرجو إبلاغنا عنها.
طرابلس لبنان في:
١٨ ربيع الأول ١٣٩٩هـ
١٥ شباط (فبراير) ١٩٧٩م
عمر مسقاوي
1 / 5
بسم الله الرحمن الرحيم
تقديم
كتاب (تأملات) كان قد صدر قسم منه عام ١٩٦٠م تحت عنوان (حديث في البناء الجديد)، وقسمه الآخر صدر عام ١٩٦١م تحت عنوان (تأملات في المجتمع العربي).
وحينما همَّ الاستاذ مالك ﵀ بطبع كتبه من جديد، شاء أن يعطي لتأملاته شمولًا يتلاءم مع نطاقها. فهو إذا تحدث عن المجتمع العربي فإنما يعالج الظواهر المرضية التي انتظمت العالم المتخلف من أقصاه إلى أقصاه. وإذا تحدث عن بناء جديد فإنما يبرز الحاجة إلى حضارة تنقل البلاد المتخلفة إلى مستوى المشاركة في مسيرة العالم.
لذا ... سميناه (تأملات)، يدخل في نطاقها المجتمع العربي، كما يدخل العالم الإسلامي والعالم المتخلف في عمومه.
والتأملات هذه تجربة.
إنها حصيلة ما أحاط بالمؤلف من أحداث في الخمسينات وبداية الستينات.
فقد جاء مالك بن نبي إلى القاهرة عام ١٩٥٦ يحمل أصول كتابه باللغة الفرنسية (الفكرة الافريقية الآسيوية. l'Afro-Asiatism)، وعرفنا الاستاذ مالك في القاهرة، وعرفه القارئ العربي من خلال ما أصدر في العربيّة. حتى إذا كان عام ١٩٥٩م زار دمشق في طريقه إلى لبنان، فوجد فيها رجال الجامعة والمثقفين والطلاب، يسبق إليهم فكر بن نبي فيحفزهم إلى مزيد منه.
1 / 7
فالمحاضرات التي نشرت تحت عنوان (حديث في البناء الجديد)، جاءت حصيلة تلك الزيارة عام ١٩٥٩م، وقد اشتملت على أسلوب يوضح فكره المبثوث في مختلف الكتب.
وقد خلفت هذه الزيارة صلات بين المؤلف وأهل الفكر في دمشق، فما عاد إلى القاهرة حتى دعته وزارة الثقافة والإرشاد في ذلك العهد إلى إلقاء محاضرتين في سورية، وتتابعت المحاضرات بعد ذلك، فإذا هي يكمل بعضها بعضًا، وإذا هي تأملات جديدة اتسع لها كتاب جديد صدر بعد فترة من مجموعة المحاضرات الأولى.
وعلى الرغم من زمن طويل يفصلنا عن أفكار هذه المحاضرات، فإنها ما تزال تخاطبنا في مسيرتنا نحو المستقبل. وما تزال تأملات مالك بن نبي في صميم المشكلة، تحفزنا في السياسة كما تحفزنا في الإقتصاد والإجتماع، إلى تأصيل المنهج وبناء الثقافة القائمة على توظيف الطاقات الإنمائية في خدمة المجتمع.
ولقد نرى مالكًا كاتبًا إسلاميًا، يختار الإسلام صيغة تعبير عن نهضتنا وثقافتنا المرتقبة، ولكنه أبعد ما يكون عن أولئك الذين يزينون الإسلام بزينة الحضارة المعاصرة.
فقد انعكس على الفكر الإسلامي الحديث موقعنا من الحضارة الغربية وصلتنا بها بصفتنا مستسلمين لمعطياتها غير مشاركين فيها. وقد أسهم هذا اللبس في شائعة الشعور بأزمة الإسلام في العصر الحديث.
وإذا كانت الشائعة هذه ظاهرة في كتابات الذين اختاروا العقائد الغربية المتصارعة، فإنها تبدو في العمق النفسي لكثير من أولئك الذين يطرحون الإسلام دينا ورسالة. فالمسلم في إطار الحضارة المعاصرة إما متهِم لها أو متهَم منها.
1 / 8
لذا اهتم بن نبي بدراسة التاريخ يرقب سير الحضارات ويستخلص القواعد الثابتة والسنن التي لا تبديل لها. وقد أضاف بمؤلمفاته ومخاضراته إلى فكرنا آفاقًا صافية، لا يشوبها ضباب الثقافة الغربية ونماذجها المستوردة.
فالمؤلف بما أوسع لمحاضراته من تحليل، وبما أكثر من أمثال، قد شاء أن يحدد لتجارب الحضارة المعاصرة حجمها الطبيعي، نتيجة للعمل المشترك في مرحلة من مراحل تطور الإنسان.
فالاستاذ مالك يطرح القواعد الأساسية لفعالية الإرادة الإنسانية وقوتها في صنع الحضارة.
وإذا كنا ما نزال نراوح مكاننا في كل صعيد، وإذا كانت إرادتنا الاجتماعية قاصرة عن بناء مستقبلنا الإقتصادي والاجتماعي، فذلك لأن انحرافًا فكريًا أخرجنا عن الطريق. ولقد جاءت محاضرات بن نبي تؤازر مؤلفاته العديدة، في تحديد المنهج القادر على إخراجنا من أزمتنا الراهنة.
فدراسات بن نبي تضيء لجهود التنمية الاجتماعية والإقتصادية في العالم المتخلف، زاوية الفعالية حين تتناول بناء الإنسان في إطار ثقافة، تستجيب لمعطياته وأصالته.
تلك سمات نشهدها جلية في (تأملات) كما نلمسها في سائر ما كتب بن نبي.
ولقد أعدنا طبع المحاضرات هذه بعد ما راجعنا أسلوبها العربي فصححنا بعض العبارات وجلونا بيان بعضها.
والكتاب هذا هو الثاني نصدره بعد (ميلاد مجتمع)، ولسوف يتبعه ثالث إن شاء الله، حتى نعيد طبع كتب المؤلف جميعًا إن شاء الله.
طرابلس- لبنان ١٩٧٦/ ٨/٨ عمر مسقاوي
1 / 9
مقدمة
كنا نشرنا في كتاب سابق (حديث في البناء الجديد) (١) خمس محاضرات، ولعله كان من المناسب أن نجمع المحاضرات، التي ننشرها اليوم، تحت العنوان نفسه، مع الترقيم اللازم، باعتبار هذا الكتاب جزءًا ثانيًا للذي سبقه.
ولكن مهما تكن الصلة بين الكتابين واضحة، بمقتضى وحدة الموضوع، لا من الناحية الشكلية ولكن من حيث النسيج المعقد، الذي تنسجه الأيام في حياة الشعوب، التي تواجه في القرن العشرين مشكلات خاصة بكيانها، ومشكلات مشتركة، تعبر عن امتداد كيانها في عالم الآخرين، فالنظرة إلى هذا الازدواج الحيوي، هي التي أوحت بجمع المحاضرات التي ننشرها هنا تحت عنوان مستقل (تأملات في بعض مشكلاتنا)، حتى يشعر القارئ أن هذا الكتاب يمثل حلقة جديدة في سلسلة (مشكلات الحضارة)، الحلقة التي تتضمن، بالإضافة إلى بعض ضرورات البناء في الداخل، ضرورات ناتجة عن التطورات الخاصة التي حدثت في حياة الشعوب تحت تأثير عوامل مختلفة مثل الإستعمار الذي ربط، بصورة غير مباشرة، حياة الشعوب الإفريقية الآسيوية، وتأثير العامل الفني الذي صاغ بالنسبة لكل شعب ضرورات من نوع خاص، تفرض على حياته
إلتزامات ومسؤوليات جديدة في نطاق أوسع من نطاقه التاريخي الجغرافي المعتاد.
_________
(١) طبع في بيروت عام ١٩٦٠م، ونعيد طبعه ضمن هذا الكتاب مرجئين المحاضرات الخمس التي اشتمل عليها إلى آخر التأملات، على الرغم من سبقها التاريخي، وذلك حرصًا منا على تصدير هذه الطبعة بمقدمة المؤلف، ﵀، التي قدم بها لكتاب (تأملات في المجتمع العربي).
1 / 11
فهذا الكتاب يحاول مواجهة هذا الازدواج بالنسبة إلى المجتمع العربي، والمؤلف قد تناوله في نطاق هذه المحاضرات التي يتصل بعضها بكيان المجتمع العربي في حدوده التاريخية الخاصة، وبعضها الآخر يتصل بارتباطه بالعالم الإسلامي والمفاهيم الإسلامية، وبارتباطه بالبلاد التي ربطه بها الطوق الإستعماري في القرن التاسع عشر، أي الشعوب التي تعيش على محور طنجة- جاكرتا.
فالمؤلف خصص هذه المحاضرات لهذه الجوانب المختلفة، التي يرتبط بها كيان المجتمع الذي نعيش فيه، وامتداد كيانه في عالم الآخرين.
فالمحاضرة الأولى تواجه عقدة نفسية، قد أشرنا إليها في دراسة أخرى (١)، وهي في وجه من الوجوه صعوبة تعترض، في المجال النفسي، حركة النمو أو النهضة في مجتمعنا. ومن وجه آخر، هي في المجال الاجتماعي، علأمة هذا النمو وهذه الحركة.
فالمحاضرة الأولى تناولت الموضوع من هذا الوجه، فهي محاولة لتوضيح الصعوبات التي يعانيها مجتمعنا اليوم في مواجهة ضرورات البناء الداخلي، وقد هدف فيها المؤلف إلى الإسهام في تخليص القارئ من مركب النقص، الذي يعتريه عندما يمنطق عن وعي الصعوبات التي تحيط بحياته الاجتماعية اليوم، إذ هو غالبًا يعزو هذه الصعوبات إلى طبيعة المشكلات عوضًا عن أن يعزوها أولًا إلى نفسه من الناحية العقلية في إدراكه هذه المشكلات، ومن الناحية الأخلاقية في سلوكه إزاءها.
فإسهام المحاضرة يكون قد تحقق في تصفية العقدة التي نشير إليها، بقدر ما يتمكن القارئ من فهم الخطأ الذي نقع فيه، عندما نقدر الصعوبات والمسؤوليات في ضرورات البناء.
_________
(١) (وجهة العالم الإسلامي) حيث بين المؤلف ما يعاني المجتمع الإسلامي من عقد، من بينها العقدة التي تدفعه إلى استسهال الصعب واستصعاب السهل.
1 / 12
ويتبقى بعد ذلك أن ندرس كيف ولماذا تنشأ هذه الصعوبات في عالم نفوسنا أكثر مما تنشأ في عالم الأشياء؟
فهذا السؤال هو بالضبط موضوع المحاضرتين الثانية والثالثة، في أي ترتيب شئنا نتناولهما، سواء تناولنا موضوع (المسوّغات في المجتمع) أم لا، كما فعلنا أو تناولنا قبله موضوع (المفاهيم الإقتصادية والقيم الإنسانية).
ولكن يبدو لنا أن موضوع (المسوّغات)، الذي خصصنا له المحاضرة الثانية، يسبق بحكم الطبيعة موضوع المحاضرة الثالثة، لأن الأول يدرس الأسباب العأمة التي تطلق الطاقات الاجتماعية وتوجهها نحو مشكلات البناء، بينما تدرس المحاضرة الأخرى- المفاهيم الإقتصادية والقيم الإنسانية- مصدر الطاقات الخاصة الي يتطلبها البناء الإقتصادي، في مجتمع لم يزوده بعد التطور بالجهاز العادي، الذي نجده في حوزة مجتمع بلغ درجة معينة من النمو وكون رصيده الإقتصادي من مصانع ومصارف.
فالمحاضرة الثانية تكون إذن، بالنسبة للثالثة، كالمقدمة العأمة بالنسبة للنتيجة الخاصة في علم المنطق.
أما المحاضرة الرابعة (الديمقراطية في الإسلام) فإنها تعالج مشكلة ذات طابع مزدوج: فهي تتناول موضوع بناء وموضوع اتصال أو اتجاه في وقت واحد، لأننا حاولنا أن نبين فيها للقارئ أن كل مشروع ديمقراطي: قبل أن يصبح بناء المؤسسات والمنظمات السياسية ذات الطابع الديمقراطي، فهو بناء الإنسان بناء خاصًا، حتى يكون شعوره نحو الـ (أنا) (١) ونحو الآخرين، الشعور الذي تنبعث منه كل المسوّغات الكفيلة بتحقيق هذه المؤسسات والمنظمات، والكفيلة بحايتها خلال التطورات التي يأتي بها التاريخ.
_________
(١) الأنا بمصطلح علم النفس معناها الذات.
1 / 13
ومن ناحية أخرى فالموضوع الذي تطرقه هذه المحاضرات يتصل بجانب من مشكلات الاتصال، أي المشكلات المشتركة بين الشعوب الإسلامية التي خصصنا لها دراسة سابقة (١).
فالجانب الذي نعنيه هنا يخص صياغة الشخصية الإسلامية حتى تفي بصورة موحدة بمسؤوليات المسلم في العالم، وهذا يعني توحيد النماذج التي تمثل المسلم اليوم، النماذج التي يمثل بعضها الرجل الذي لم تكيفه حضارة ولا زال على فطرته، مثل الملايين من المسلمين الذين يعيشون في إفريقيا السوداء، ويمثل بعضها الرجل الذي مرّ بدور حضارة وتبقت في نفسه رواسب انحلال حضارة، أي الفريقين اللذين يعيشأن على طرفي التطور الاجتماعي التاريخي، لأن الواحد يعيش في عهد ما قبل الحضارة والآخر في عهد ما بعد الحضارة.
فإذا لاحظنا البعد النفسي بين هذين الرجلين، أدركنا الصعوبات التي لا تجعل من اليسير توحيدهما في مشروع حضاري واحد، أي أن نحدد لهما مسؤوليات موحدة في العالم.
فهذه الصعوبات هي التي يجب أن يتغلب عليها مشروع ديمقراطي إسلامي جديد، يقوّم المسلم تقويما جديدًا، فيضع في ضميره من جديد الشعور بالتكريم الذي أودعه فيه الله يوم خلق آدم، ويضعه هكذا في الطريق نحو الحضارة.
أما المحاضرة الخامسة فإنها تتناول موضوع (التضامن الإفريقي الآسيوي)، فبأي شيء تدخل هذه المحاضرة في نطاق المحاضرات السابقة وبأي شيء ترتبط بها؟
إننا قدمنا في دراسة سابقة (٢) أن للمسلم مسؤوليات في هذا العالم، وأن حضوره في الأحداث الكبرى التي تطرؤ فيه من الضرورات الملازمة لمسؤولياته.
_________
(١و٢) فكرة كومنولث إسلامي.
1 / 14
فأي دراسة تستهدف توضيح الشروط التي يقتضيها بناء المسلم وتحديد دوره، لابد أن تهتم بالمجالات المختلفة التي يجري فيها هذا الدور، سواء في ميدان السياسة أم الإقتصاد أم الأخلاق.
فالمجال الذي حددته فكرة باندونج هو أحد هذه المجالات التي يرتبط بها حضور المسلم، أي أنه مجال لإلقاء القيم الإسلامية في معركة القرن العشرين، ولإقحام رسالة المسلم في هذه المعركة الكبرى التي ستحدد مصير الإنسانية ومستقبلها.
ولكن لهذا المجال معطياته الخاصة، لا يمكن للمسلم أن يقوم بدوره فيه دون معرفة هذه المعطيات، التي تتضمن بالنسبة إلى مئات ملايين البشر، التي تمشي اليوم تحت لواء (التضامن الإفريقي الآسيوي)، معوقات رجل الفطرة الذي لم يدخل بعد في دورة حضارة، ورواسب الإنسان الذي خرج منها وسلبته الأيام، في الهند أو في الصين أو في البلاد العربية، مقومات حضارة اندثرت.
وبما أن لهذه المعوقات ولهذه الرواسب أثرًا سلبيًا في صورة مركبات، تتعارض مع مقتضيات حضارة جديدة، لذلك يجب أن تدرس هذه المعطيات دراسة واقعية، وقد حاولنا أن ندرسها في هذه المحاضرة كي يعلم الشاب المسلم نصيبه من هذه المعوقات وهذه الرواسب، ونصيبه في مسؤولية التخلص منها، ضمن القوى التي تجمع جهودها في العالم للتخلص من الإستعمار، ولمناصرة الإنسانية في معركة السلام والحضارة.
فالمحاضرة الخامسة هي محاولة لإجلاء حقيقة (التضامن الإفريقي الآسيوي) بوصفه مجالًا جديدًا لإلقاء القيم الإسلامية ولامتداد رسالة المسلم فيه.
القاهرة في١٩٦١/ ٤/٢٤ مالك بن نبي
1 / 15
الصعوبات بوصفها علأمة نمو في المجتمع العربي
محاضرة ألقيت في الاتحاد القومي في دمشق يوم الاثنين ٢٩ أب (أغسطس) سنة ١٩٦٠
1 / 17
سيداتي سادتي:
اسمحوا لي أولًا أن أوجه شكري إلى وزارة الثقافة التي أتاحت لي فرصة الحديث معكم، فأشكرها في شخص الاخ الكريم الدكتور يوسف شقرا الذي تفضل عليّ إذ جعلني بينكم متحدثًا وإذ هو قدمني إليكم.
وإني لاخشى أن يكون الدكتور قد قدمني في صورة ربما سوف يمحو لساني بعض معالمها. فقد وضعني أمامكم كمن يتناول الحديث العربي بكل سهولة، والواقع على خلاف هذه الصورة.
ثم إني أشكر إخواني المشرفين على هذا المركز الذين حققوا هذه الفرصة للحديث، وإني أشكركم أيضًا أنتم الذين شرفتموني بحضوركم تشجيعًا لإنسان لا يتكلم العربية بسهولة.
إنه حينما بلغتكم الدعوة التي شرفتموني بتلبيتها، بلغتكم بعنوان (من قضايانا العربية). ولا شك أنكم قد أدركتم بأن الموضوع- تحت عنوان كهذا- يتناول في مضمونه جوانب شتى من القضايا العربية. وهذا يجعلنا مضطرين إلى توضيح حدود الحديث تحت هذا العنوان العام، ولعلنا لا نخطئ إذا ما حددنا هذا الإطار الخاص حول نقطتين قد يتناولهما رجل الدولة في مناسبة الحديث إلى المثقفين فيقول: إننا نضع عليكم اليوم عبء المسؤولية، كما قد يقول في مناسبة أخرى حين يتوجه إلى الذين يهتمون بالصناعة: إنه يمكننا أن نستورد المصانع ولكن لا يمكننا أن نستورد البشر، فإذا أخذنا هذين الاعتبارين بالتحليل النفسي إذا سمح لي هذا التعبير، فإننا نقول إن رجل الدولة الذي يواجه ويوجه الاعمال من مرحلة إلى مرحلة من حضيض إلى عل، يعبر عن شعوره بثقل المسؤولية، وبصعوبات السير في الطريق الذي يخططه التاريخ، فإذن لابأس في
1 / 19
أن نضع أمامنا موضوعًا لهذا الحديث الصعوبات والشعور بالصعوبات، فعن أي شيء تعبر الصعوبات عندما تواجهنا أو نواجهها نحن؟
لو أننا راجعنا ذكرياتنا، أو أتيح لمن كان في سني أنا أن يراجع ذكريات طفولته، وعلى تقدير أنه قد اتصل بحياة جده وحياة أبيه، ليتذكر بعد خمسين سنة أن الحالة النفسية التي كان يعيش فيها مع جده ومع أبيه ومع جيله هو قد تغيرت حسب مراحل ثلاث.
إنني أتذكر حياة جدي وقد كان شيخًا، وديعًا كريمًا شأنه شأن العرب والمسلمين، الذين كانوا يعيشون في زمانه، غير أني أشعر الآن أن جدي كان يعيش في طمأنينة واستقرار لا يشعر بأية مشكلة، سواء كان ذلك من الناحية المادية التي لم يكن معها يريد من العيش إلا الكفاف، أومن الناحية النفسية لأنه لم يكن يواجه المشكلات ولا يشعر بوجودها. ثم مرت هذه المرحلة وجاء الجيل الذي منه نبت والدي، فإذا بي أراه قد دخل في جو جديد خاصة إبان الحرب العالمية الأولى، فقد بدأ يشعر بوجود مشكلات، ويرى أمامه أمورًا لا يستطيع إلا أن يضع عليها نقط استفهام، ولقد أذكر في هذه الفترة التي تميزت بالشعور بهذا القلق، أن والدي كان يعيش في جيل فقد الطمانينة من نفسه، غير أنه لم يكتسب بعد روح الكفاح والبروز إلى المشكلات وجهًا لوجه. وغالب الظن أنه لم يكن يحاول تصنيف المشكلات حتى يستطيع مواجهتها بصورة واضحة.
وهكذا ولّى هذا الجيل لا يعرف الاستقرار، ولكنه أيضًا لا يعرف الحركة والأندفاع، ثم أتى الجيل الذي نحن منه، الذي تفضل الاخ الدكتور يوسف شقرا فقدمني على أنني ممن واجهوا قضاياه، والحق أنني لم أكن في هذا الطريق وحدي بل كان جمع من الشباب كثير، والذي ذكره الدكتور من الحادثة التي جعلتني في قريتنا في مطلع الشباب، أقوم بتأييد ثورة الريف لم أكن فيها وحيدًا، بل كنا
1 / 20
ثلة من الشباب أثارنا أن يستخدم الإستعمار مساجدنا وأئمتنا للدعاية ضد الثورة الريفية، فقمنا لصد هذه الدعاية بصورة صبيانية، وربما فيها كثير من المخاطر، بل لعلها لم تكن هي الطريقة المثلى التي كان علينا أن نتبعها، غير أنه مع ذلك فقد شعرنا بوجود مشكلة، وإن هذا الشعور ليعبر دون شك عن حالة نفسية جديدة، وهو القيام بالواجب، أعني الخروج من الركود أو الحيرة: ذلك الركود الذي كان فيه جدي وتلك الحيرة التي عاشها والدي.
إذن فإنه يمكن لنا أن نعد الصعوبات (من ناحية نفسية) أوضح دليل على النهضة واليقظة للأمة العربية في هذا الجيل، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فليس علينا من بأس في أن نستفيد من دراسة من سبقنا في هذا المضمار لنقول مع توينبي «إن الصعوبات هي تحدّ خلاق لأنه يستحث الرد عليه». ولا شك أن الرد لا يمكن أن يكون بغير الكد والتفكير.
ثم إنه بصفة عأمة يمكننا عَدّ هذه الصعوبات أزمة نمو تعيشها الأمة العربية، وطبيعي أنه ككل نمو لابد له من تعب وقلق وألم، ذلك أنه يقع في المجتمع وفي الفرد نفسه أيضًا شيء من التطاحن، بين قوات سلبية تدعوه إلى السكون، وهي دعوة تجد في طبيعة الإنسان عأمة قبولًا بسبب ميله الفطري إلى السهولة، وبين قوات إيجابية تدعوه إلى الكد والعمل، تحثه صعدًا إلى الرقي، الذي هو رسالة الأمة، وإلى الدفاع عن كيان المجتمع؛ وبصورة عأمة إنها تدعوه إلى القيام بالواجبات .. وهكذا نرى أن الصعوبات هي أكبر مبشر بالحياة الاجتماعية الصحيحة.
لذلك كان طبيعيًا أن رجل الدولة الاستاذ والوزير والنائب الذي يمثل الأمة العربية، في الاتحاد القومي يشعرون جميعًا بالصعوبات لأنها علأمة دخولهم ودخول أمتهم حلبة الكفاح.
ولكن هل تقنعنا هذه النظرة الوصفية للصعوبات؟.
1 / 21
إنه إذا كان مفيدًا أن ننظر إلى الصعوبات بوصفها علامات تشير إلى مشكلاتنا، فإن هذه الفائدة لن تكتمل ما لم نجعل من هذه العلامات دليلا أيضا على أمراضنا الاجتماعية، التي لا مناص من مواجهتها. وليس من شك في أن سيادة الرئيس حينما توجه إلى الطلبة مرة وإلى حشود العمال مرة أخرى، شعر ببعض نقاط الضعف، فعبر عنها في المناسبتين كلتيهما بما ينبغي أن يعبر عنه رجل الدولة.
فإذا ما قدرنا أن هذه الصعوبات تعبر عن أزمة نمو، أي عن حالات شبيهة بالحالات المرضية، أو هي مرضية فعلًا، فإنه ينبغي علينا أن نسلك إزاءها مسلك الطبيب أمام الأمراض، إذ يحدد مكان المرض أو مصدره.
فما هو مصدر الصعوبات عأمة؟!
إننا إذا أجبنا على هذا السؤال إجابة عأمة مجردة، بمعنى أنها تكون صالحة لجميع أنواع المجتمعات الراقية، سواء فيها الاتحاد السوفيتي أو الأمريكي أو الاوربي فإننا نجدها تنشأ من جهات أربع:
فإما أنها تنشأ من خلل في عالم الأشخاص، وإما أنها تنشأ من خلل في عالم الأفكار، وإما أنها تنشأ من خلل في عالم الأشياء، وإما أنها تنشأ من خلل في علاقات هذه العوالم بعضها ببعض.
ولكن كيف ينشأ الخلل في عالم الأشخاص فينتج عنه صعوبات في مستوى السياسة أو في مستوى الثقافة؟
إنه من الطبيعي أننا نتصور الخلل في عالم الأشخاص بكل سهولة، إذا
ما كان في عشيرة فئة تدعو إلى الشر بمعنى أنهم مخربون. إذا كان جانب من الأمة يبني وآخر منها يخرب فهذا خلل كبير في عالم الأشخاص؛ فالسارق وشارب الخمر والذي يستغل إخوانه هو حجر عثرة في طريق المجتمع بل هو ذاته مرض متجسم.
1 / 22
أما الخلل في عالم الأفكار فنراه مثلًا في تاريخ الأمة الإسلامية، حيث وجدنا كثيرًا من الصعوبات بسبب الخلل في عالم الأفكار، فلو أمكن- وأظن ذلك صعبًا- أن نقوم بإحصائية للافكار التي أدت إلى الكوارث الاجتماعية فإن العد لا يحصيها.
وليس التاريخ إلا نسيجًا من عمل الأشخاص وأفكارهم ومن عالم الأشياء. والخلل في عالم الأفكار، إما أنه ينشأ من الخطأ في تحديد المفاهيم أو في عدم ربط الأفكار بالطرق الصحيحة. فإذا ما اختلت المناهج المنطقية لدينا فأصبحنا نقول ٢+ ٢= ٤٥، فإن هذا يعني أن ثمة خللا قد طرأ على عالم أفكارنا، وهذا ما حدث في تاريخنا. فمثلًا نعلم أن البوصلة هي التي أتاحت لكريستوف كولومبس اكتشاف أميركا، مع أنها لم تتح للعرب أن يقوموا بمثل هذا الاكتشاف، على الرغم من أنهم هم الذين اخترعوا ذلك الجهاز، لأن بعض المفسرين في ذلك الحين كانوا يؤمنون بأن الأرض قائمة على رأس ثور؛ فمثل هذه الأفكار تكبل المبادرات والجهود، وهي ليست خاصة بمجتمع، وكم كان بعض الأفكار المميتة مستوليًا على كثير من المجتمعات حتى عاقها عن كثير من التقدم. ولنا أن نذكر منها في المستوى العلمي فكرة من الأفكار سادت مرحلة من التطور العلمي تلك هي: أن الطبيعة تأبى الفراغ، فقد كان علماء الفيزياء يقولون بها ويدينون، مع أنها فكرة مزيفة غير صحيحة، لأنها تؤدي إلى القول: إنه كلما وجد فراغ امتصته الطبيعة حتى يمتلئ. وهذا يعني بالتالي لو سرنا على قواعدهم المفاهيمية، أنه يمكننا نحن هنا في الأرض أن نتصل بالمريخ عن طريق الفراغ. ذلك أنه بفرض صحة هذه الفكرة، فإن الفراغ الكوني يمتلئ أولًا على حسابنا نحن إذ يمتص الهواء الذي حول الأرض. وهذا خطأ وقع فيه ضعف تصور الإنسان في مرحلة معينة. ولم ينقذه غير (ماريوت) حينما حقق الفكرة على قاعدة جديدة، فقال: إذا صعد الماء في فراغ قناة مفرغة، فذلك لا يعني أن الطبيعة تأبى الفراغ، وإنما شيء آخر هو التعادل بين ضغط الماء من ناحية وضغط الهواء في العلو المناسب من ناحية أخرى، لأن الضغط على سطح الماء ٧٦ سنتيمتر من الزئبق.
1 / 23
أو يكون الخلل في عالم الأشياء فتنشأ ثَمَّ صعوبات أخرى. وهذه نراها ببساطة حينها تفقد الأشياء التجانس فيما بينها، فلا تؤدي أغراضها، وربما أحدثت الكوارث. فلو أننا أردنا تنوير مدينة بجهاز مولد للكهرباء تحت ضغط ٢٢٠ فولت، ثم أخذنا مصابيح لهذا الغرض ذات ١٢٠ فولت فربما أحدث هذا التباين كارثة؛ وقس على هذا كثيرًا من الامثلة التي نصادفها في حياتنا اليومية.
فالصعوبات إذن في عمومها تنشأ من هذه النواحي الثلاث: من عالم الأشخاص ومن عالم الأفكار ومن عالم الأشياء، فإذا أدركنا هذه الحقيقة علمنا أن الصعوبات التي يشعر بها الرئيس، أو نشعر بها نحن، لابد وأن تكون صادرة من هذه الجهات الثلاث. غير أننا بعد هذا التحديد العام للصعوبات ينبغي لنا أن نحددها تحديدًا خاصًا بتكويننا الاجتماعي، وبفطرتنا الاجتماعية.
فلو أننا رجعنا على ضوء هذه الاعتبارات في حديثنا هذا، في المناسبتين اللتين افترضناهما آنفًا، لرأينا أن هذه الصعوبات التي نشعر بها، مردها إلى الفرد الذي له صلة خاصة بعالم الأفكار، وذلك حينما نتحدث إلى المثقفين؛ ومن ناحية أخرى ننسبه إلى الفرد الذي له صلة خاصة بعالم الأشياء، وذلك في حديثنا إلى العمال ورجال المصانع، وهكذا نجد أن صعوبتنا على ضوء التجربة التي نباشرها في مجتمعنا تنتج من عالم الأشخاص. ولكن على أنواع مختلفة: فمنهم الفرد الذي يتصل بعالم الأفكار، والآخر الذي يتصل بعالم الأشياء سواء كان صانعها أو مستهلكها. فإذا ما تساءلنا عما نستنتجه من هذا كله بوصفه نتيجة مؤقتة، فإننا لا نخطئ التقدير إذا قلنا في فقرة أولى: إن القضية منوطة أولًا بالثقافة التي تكون عالم الأفكار وتحدد علاقتنا به، وبالسياسة التي تكون عالم الأشياء وتحدد علاقتنا به.
غير أننا حينما نقف عند هذه النتيجة المستعجلة، فسوف نجد أنفسنا أمام مناقضة صورية. ذلك أننا نحمل جميعا في أذهاننا صورة تربط الثقافة بأهداف
1 / 24