Kematian Lelaki Terakhir di Bumi
موت الرجل الوحيد على الأرض
Genre-genre
اتكأ على الأرض المتربة بكفيه الكبيرتين الساخنتين، ثم جلس مسندا ظهره إلى جذع شجرة، ممدا ساقيه المنهوكتين من طول السير، وظهرت قدماه الكبيرتان في ضوء الشمس الغاربة وارمتين مشققتين ملتهبتين.
أغمض عينيه لينام لكنه لم يستطع، وظلت عيناه مفتوحتين شاخصتين إلى شريط النيل الطويل ممتدا بغير نهاية، يوازيه شريط الحقول ممتدا أيضا بغير نهاية. امتدت عيناه بين الشريطين اللانهائيين تبحثان عن أول معالم كفر الطين؛ شجرة الجميز الكبيرة في بطن الجسر، والرائحة التي يستطيع أن يميزها من كل شيء في العالم، تشبه رائحة التراب حين يرش بماء الترعة، أو ثمرة الجميز حينما يعلوها تراب الجسر، أو الروث الممزوج مع خبيز الفرن، أو طرحة أمه زكية حينما يحركها الهواء، وهي تسير إلى جواره أو صدرها حينما كان يرقد عليه وهو طفل.
رائحة غابت عن أنفه أربع سنوات، منذ ترك كفر الطين وأخذوه إلى الجيش. قبل أن يأخذوه وقبل أن تغيب عنه الرائحة لم يكن يعرفها، بل إنه لم يعرفها بعد أن أخذوه وبعد أن أصبح يعيش في خيمة صغيرة على بعد أميال قليلة من السويس؛ أصبح يشم البارود والجلد المحروق والصفيح الصدئ، ورمال سيناء حينما تهب الغارة أو العاصفة. لكنه فتح عينيه مرة في منتصف إحدى الليالي، فإذا بالرائحة تملأ أنفه! لم يعرفها أول الأمر لكنه أحس بسعادة غامضة تسري فوق جسده كالمخدر، وود لو أنه أغمض عينيه ونام على صدر أمه. لكنه فتح عينيه واكتشف أن رأسه ليس على صدر أمه، وإنما فوق صرة صغيرة أرسلتها له أمه مع أحد زملائه الجنود. قبل أن يفتح «الصرة» قربها من أنفه، ولأول مرة أيضا يعرف الرائحة التي عاشت معه سنين وسنين منذ ولد وعاش في كفر الطين وغادرها دون أن يعرفها.
مد أنفه بين شريط الماء وشريط الحقول يحاول التقاط الرائحة، التراب الممزوج بماء الترعة الطيني، لكن أنفه لم يلتقط الرائحة، وعيناه بين الشريطين اللانهائيين لم تصلهما إلى أول معالم كفر الطين.
أدرك أن المسافة ما زالت طويلة، وأن أمامه مسيرة طويلة قد تستغرق ساعات أو أياما. انغلقت عيناه وحدهما، فتحهما بعد قليل فوجد الشمس عالية في السماء؛ فأدرك أنه نام يومين متصلين. اتكأ على الأرض بكفيه الكبيرتين انحفر عليهما مقبض البندقية، ومن تحته مقبض الفأس القديمة. نهض يجر جسده الطويل النحيل فوق قدمين كخفي الجمل تورمتا من طول المسير، أصبح الدم والصديد ينز من شقوقهما السوداء الطينية. أصبح قرص الشمس الملتهب فوق رأسه، وتراب الجسر الساخن يلسع قدميه كرمل الصحراء الملتهب، وشريط الماء الرفيع هو قناة السويس.
أسرعت أنفاسه، وبدأت الدوائر الحمراء تتراقص أمامه، وأغمض عينيه ليكف رأسه عن الدوار، دب في أذنيه الصوت الرهيب الذي لا يخطئه؛ صوت يشبه الرعد، يشبه الزلزال، أو انقضاض السماء على الأرض أو الأرض على السماء؛ قفز في أقل من اللحظة متكورا حول نفسه حاميا رأسه بذراعيه، زاحفا فوق الأرض حتى عثر على حفرة دخل فيها، وسكنت حركته تماما كأنما تجمد أو مات.
اختفى الصوت ودب السكون من حوله، ففتح عينيه بحذر، مختلسا نظرات فزعة نحو السماء كأنما يبحث عن شيء؛ لم ير في الجو شيئا، لا طائرة، ولا نارا، ولا دخانا، ولا رمادا، ولا أي شيء سوى قرص الشمس الملتهب، وهبطت عيناه إلى الأرض، وحينما رأى النيل والحقول أدرك أنه ليس في الصحراء، وأن الحرب انتهت، وأنه عائد إلى كفر الطين سيرا على قدميه. رأى أيضا مجموعة من الأطفال تجمعوا حوله، وكانوا قد رأوه وهو يقفز فجأة ويختفي في بطن الجسر. عيونهم المتسعة من تحت الذباب كانت تتطلع إليه في دهشة واستغراب. وسار بضع خطوات مبتعدا عنهم متأرجحا فوق قدميه الوارمتين الداميتين. سمع من خلفه صوت الأطفال يضحكون ويتغامزون، وسمع أحدهم يهتف وراءه: «العبيط أهه!» وسرعان ما انضم إليه بقية الأطفال، يهتفون في نفس واحد: «العبيط أهه!» وأخذوا يقذفونه بالحجارة.
حين أصبح فوق جسر كفر الطين، كان قرص الشمس قد اختفى وراء رءوس الأشجار ناحية الغرب خلف النيل، والظلمة تزحف ببطء فوق البيوت المنخفضة السوداء، وأسراب الجاموس والبقر تزحف ببطء فوق الجسر عائدة من الحقول، ومن خلفها رجال تشققت أقدامهم وانحنت ظهورهم يسيرون نحو بيوتهم الطينية بخطوات بطيئة ثقيلة.
وكانت زكية قد عادت من الحقل هي والجاموسة، وجلست كعادتها كل ليلة في مدخل الدار الترابي صامتة ساكنة، عيناها السوداوان الواسعتان تحملقان في الظلمة، مفتوحتين عن آخرهما أو مغلقتين، فالظلمة واحدة، لا تكاد تعرف أهي يقظة أم نائمة، وما تراه أهو حلم أم حقيقة، أهو كفراوي أم جلال. لم يكن ابنها جلال يشبه أخاها كفراوي. آخر صورة في ذاكرتها لابنها جلال كانت في ذلك اليوم حين أخذوه إلى الجيش ؛ رأته يسير بين الرجلين شابا قويا مرفوع الظهر مرفوع العينين، وآخر صورة في ذاكرتها لكفراوي كانت في ذلك اليوم حين أخذوه إلى السجن؛ رأته يسير بين الرجلين كهلا عجوزا محني الظهر منكسر العينين. لا يمكن لها أن تخلط بين جلال وكفراوي، لكنها الآن لا تعرف من منهما الذي تراه أمام عينيها؛ فالوجه هو وجه جلال ابنها، لكن الظهر محني والعينين منكسرتان كعيني كفراوي.
سمعت صوتا يشبه صوت جلال ابنها يهمس بنبرة ضعيفة خافتة: أمي! ألا تعرفينني؟ أنا جلال، عدت من سيناء.
Halaman tidak diketahui