67

فمهما يكن من لغة البناء الرومي أو الحبشي فالقبائل العربية لم تبن تلك البيوت؛ لأن البناء من الروم أو من الحبش، ولم ترد أن تنشئ لها بيتا يسمى «الكعبة» أو المكعبة في اللغة الرومية، وإنما وجدت الحاجة إلى البيت الحرام، ثم وجدت الوسيلة إلى تلك الغاية، ولو لم يبنه أحد من الروم أو الحبش؛ لبناه أحد من فارس أو مصر أو الهند أو غيرها من الأمم التي تقدمت في هذه الصناعات. وقد احتاج سليمان بن داود إلى بناء هيكله، فاستعان بالصناع العاملين في الحجر والمعدن والحديد من شواطئ البحر الأبيض إلى جواره في الشمال، ولم تقم العقيدة تبعا لأصحاب الصناعة؛ بل كان أصحاب الصناعة جميعا ممن يخالفون تلك العقيدة، ويتسمون بسمة الكفر والإنكار عند المعتقدين بها.

ولم نعرف أن معبدا سمي بشكله، أو كان له شكل غير أشكال الأبنية التي يغلب عليها التكعيب مع بعض الاستطالة، وليست مادة «كعب» بالغريبة عن اللغة العربية؛ لأنهم كانوا يعرفون كعوب الفتاة، ويسمون الفتاة كاعبا إذا كعب ثدياها، ويلعبون بالكعوب، ويتسلحون بالرماح وهي من القصب أو من الأقنية، فيغلب أن يكون اليونان هم الذين أخذوا من العرب كلمة الكعب وكلمة القناة، فتصحفت في لغتهم إلى القانون، وهو العصا التي تتخذ للقياس.

البيوت الحرام

ومهما يكن من أصول هذه الأسماء والأشكال، فالأمر الذي لا يجوز فيه الشك أن «البيوت الحرام» وجدت في الجزيرة العربية لأنها كانت لازمة، ولم توجد فيها العبادات والمعبودات لأن أحدا اخترعها لتعبد وتقصد، وإنما كانت العبادات والمعبودات مرعية موروثة، ثم أقيم لها المكان الذي تعبد فيه وتقصد من أجله.

وقد اجتمع لبيت «مكة» من البيوت الحرام ما لم يجتمع لبيت آخر في أنحاء الجزيرة؛ لأن مكة كانت ملتقى القوافل بين الجنوب والشمال، وبين الشرق والغرب، وكانت لازمة لمن يحمل تجارة اليمن إلى الشام، ولمن يعود من الشام بتجارة يحملها إلى شواطئ الجنوب، وكانت القبائل تلوذ منها بمثابة مطروقة تتردد عليها، ولم تكن فيها سيادة قاهرة على تلك القبائل في باديتها أو في رحلاتها.

فليست في مكة دولة كدولة التبابعة في اليمن، أو المناذرة في الحيرة، أو الغساسنة في الشام، وليس من وراء أصحاب الرئاسة فيها سلطان كسلطان دولة الروم، أو دولة فارس، أو دولة الحبشة وراء الإمارات العربية المتفرقة على الشواطئ، أو بين بوادي الصحراء، فهي - أي مكة - مثابة عبادة وتجارة، وليست حوزة ملك يستبد بها صاحب العرش فيها، ولا يبالي من عداه، وهي إن لم تكن كذلك من أقدم أزمانها، فقد صارت إلى هذه الحالة بعد عهد جرهم والعماليق، الذين روى عنهم الرواة أنهم كانوا يعشرون كل ما دخلها من تجارة. •••

كانت «مكة» عربية لجميع العرب، ولم تكن كسروية ولا قيصرية ولا تبعية ولا نجاشية، كما عساها كانت تكون لو استقرت على مشارف الشام، أو عند تخوم الجنوب، ولهذا تمت لها الخصائص التي كانت لازمة لمن يقصدونها، ويجدون فيها من يبادلهم ويبادلونه على حكم المنفعة المشتركة، لا على حكم القهر والإكراه.

ولقد حاولت الدول الكبرى أن تستغني عنها بتحويل الطريق منها، أو هدم كعبتها فلم تفلح، وبقيت لها مكانتها وقداستها كما كانت من أقدم عهودها، وهي قديمة سابقة لكتابة أسفار العهد القديم في التوراة، فإنها هي «ميشة» المشار إليها في سفر التكوين، وهي «ميشة» التي يقول الرحالة «برتون»: إنها كانت بيتا مقصودا لعبادة أناس من أبناء الهند، ويقول الرحالون الشرقيون: إنها كانت كذلك بيتا مقصودا للصابئين الذين أقاموا في جنوب العراق قبل الميلاد بأكثر من عشرة قرون، ونرجح نحن ترجيح الظن أن سكان شواطئ الهند وخليج فارس وجدوا فيها سماحة لعبادة أربابهم العلوية وأفلاك السماء، كلما ترددوا عليها في تجارتهم من أقدم عهود التاريخ، فكان حكمهم فيها حكم القبائل البادية التي وجدت فيها محلا لعبادة أوثانها في مواسم الحج والإحرام.

ومن المحاولات التاريخية التي لا شك في بواعثها محاولة عام الفيل، ومحاولة عثمان بن الحويرث أن يدخل مكة في حوزة الروم، وأن تستولي دولة الروم من ثم على تجارة المشرق كلها من شواطئ اليمن إلى مشارف الشام.

فالحبشة كانت تخشى نفوذ الفرس في اليمن، وكانت تلقى من دولة الروم معونة على مقاتلة التبابعة اليمانيين، وكانت تحذر دولة الروم؛ لأنها كانت تملك الوصول إلى بلادها من وادي النيل، وتملك طريق البحر الأحمر في نهايته القصوى، فلما خرجت جيوش الحبشة بقيادة أبرهة وأرياط كانت دولة الروم من وراء هذه الغزوة، وانتهت بهزيمة ذي نواس ملك اليمن، فاقتحم البحر بجواده ليغرق فيه، وسفر أبرهة عن غايته بعد التمكن من اليمن وشواطئها فبنى «القليس» في صنعاء.

Halaman tidak diketahui