الباب الأول
في تخير المكان المتخذ للبنيان
قال أرسطاليس: أول الصناعات الضرورية الصيد، ثم البناء، ثم الفلاحة، وذلك لو أن رجلًا سقط في فلاة لا أنيس بها ولا زرع لم يكن همه إلا حفظ قوام نفسه بالغذاء، فليس يفكر إلا فيما يصيد، فإذا صاد واغتذا يفكر بعد ذلك إلا فيما يسكن فيه وهو البناء، فإذا تم له فكر حينئذ فيما يزرعه ويغرسه.
وقال إبراهيم بن إسحاق المصعبي بمياء الملوك العمارة ولا يحسن بهم التجارة.
وقال ابن كلدة جميع خصال الدار المستخسة أن تكون على طريق نافذ وماؤها يخرج منها وليس عليها مشترف وحدودها لها وتكون بين الماء والسوق ويصلح فناؤها لحط الرحال وبل الطين ووقوف الدواب وإن كان لها بابان فذاك أمثل وينبغي أن يكون أيضًا في طرف البلد لأن الأطراف منازل الأشراف.
وقال البحتري، توفي سنة أربع وثمانين ومائتين:
عجب الناس لاعتزالي وفي الأط ... راف تلفى منازل الأشراف
وقعودي عن التلفت والأر ... ض لمثلي رحيبة الأكناف
ليس عن ثروة بلغت مداها ... غير إني امرء كفاني مفافي
قيل: وإنما كانت الأطراف منازل الأشراف لأنهم يتناولون ما يريدونه بالقدر ويصل إليهم من يريدهم بالحاجة إليهم.
وقيل لرجل في أي موضع من القرآن الأطراف منازل الأشراف فقال قوله تعالى: ﴿وجاء من أقصا المدينة رجلٌ يسعى يا قوم اتبعوا المرسلين﴾ فهنا أشرفهم وكان ينزل أقصى المدينة.
وقيل ليس في الأرض بخيل ولا جواد إذا ابتاع دارًا إلا بنى فيها شيئًا وهدم شيئًا وإن قل لأن حاجته ومنافعه ومرافق المالك الأول لا يستويان، قال الجاحظ رأيت بخلاء في نهاية البخل يسرفون في الإنفاق على البنيان.
وقال الحكماء لذة الطعام والشراب ساعة ولذة النوم يوم ولذة المرأة شهر ولذة البنيان دهر كلما نظرت إليه تجددت لذته في قلبك وحسنه في عينك.
وقال ناصر بني أمية في مبانيه العظيمة بمدينة الزهراء بالأندلس:
هم الملوك إذا أرادوا ذكرها ... من بعدهم فبألسن البنيان
إن البناء إذا تعاظم شأنه ... أضحى يدل على عظيم الشان
ولما دخل الرشيد إلى منبج قال لعبد الملك بن صالح الهاشمي وكان لسان بني العباس هذا البلد مقر لك، فقال يا أمير المؤمنين هو لك ولي بك، قال كيف منازلك به، قال دون أهلي وفوق منازل غيرهم، قال وكيف صفة مدينتك، قال عذبة الماء طيبة الهواء قليلة الأدواء، قال كيف ليلها قال سحر كله وهي تربة حمراء وسنبلة صفراء وشجرة خضراء وفياف فيح بين قيصوم وشيح، فقال الرشيد والله هذا الكلام أحسن منها.
ولما بنى عيسى بن جعفر قصره بالرصافة دخل إليه عبد الصمد فقال بنيت أجل بناء بأطيب فناء وأوسع فضاء على أحسن بهاء بين صحار وحيتان وضباء، فقال كلامك أحسن من بنائها.
وكان ابن جعفر بن سليمان الهاشمي يقول العراق عين الدنيا والبصرة عين العراق والمربد عين البصرة وداري عين المربد.
وقال بعض أهل التجربة إذا ابتنى أحدكم دارًا فليترك في واجهتها ثلمة تقيها شر عين الكمال.
قلت: ولا بأس بإيراد نبذة مما يتعلق بكرى الدار.
فمن ذلك ما حكى أن رجلًا دخل حجرة يكتريها فقال أين المطبخ فقل له في الجيران من يطبخ لك ويكفيك المؤنة، فقال أين المخبز فقيل إذا اختمر العجين خبزوا لك أيضًا، قال فبيت الخلاء فقيل بالقرب خربة تقضي فيها الحاجة، قال فالسطح فقيل على الباب ساحة يطيب فيها النوم في الصيف، قال فأنا في دار وما أعلم بروحي فأستمر ما أنا فيه وأربح الأجرة.
وقال الحكيم بن سعيد قال لي ملك بسرنديب صف لي معايش أهل البصرة فقلت قوم منهم لهم فضول منازل يكرونها وقوم لهم أرقاء يستعملونها وقوم لهم رءوس أموال يغدون إلى أسواقهم فيأكلون فضولها وقوم لهم نخيل يأكلون ثمارها فقال من كان معاشه من كرى فلئام الناس ومن استعمل الأرقاء فكلاب الناس والين يغدون إلى أسواقهم فذئاب الناس ولكن أصحاب النخل، وقال بعضهم:
قد رضينا من الزمان بقوت ... وثبوت ومسكن لا زيادة
ورضينا من الإله بما ير ... ضى ومن غيره تركنا الإرادة
غير أنا نروم خاتمة الخيـ ... ـر فإن يسرت فتلك السعادة
1 / 1
لطيفة: ذكرها الحريري في كتابه الموسوم بتوشيح البيان أن أحمد بن المعدل كان يجد بأخيه عبد الصمد وجدًا شديدًا على تباين طريقتهما لأن أحمد كان صوامًا قوامًا وكان عبد الصمد سكيرًا خميرًا وكانا يسكنان دارًا واحدة ينزل أحمد في غرفة أعلاها وعبد الصمد أسفلها فدعا عبد الصمد ذات ليلة جماعة من ندمائه وأخذ في القصف واللات والعزف حتى منعوا أحمد الورد ونغصوا عليه التهجد فاطلع عليهم وقال: ﴿أفأمن الذين مكروا السيئات أن يخسف الله بهم الأرض﴾ فرفع عبد الصمد رأسه وقال: ﴿وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم﴾ .
قلت: وعلى ذكر الغرفة فا ألطف ما ذكره علاء الدين الوداعي في تذكرته قال: رأيت مكتوبًا على غرفة يصعد منها إلى سطح قبة الصخرة المقدسة قوله تعالى: ﴿أولئك يجزون الغرفة بما صبروا ويلقون فيها تحية وسلامًا﴾ فعجبت من اتفاقها وكأني لم أسمعها، ورأيت أيضًا في طاقة زجاج بقبر طالوت ﵇ بسفح قاسيون قوله تعالى: ﴿الله نور السموات والأرض﴾ وهذا من عجيب ما يكتب على طاقة زجاج.
نادرة: كان بعضم في دار بكري فقال لصاحبها اعمر لي السقف فإنه يفرقع إذا مشينا عليه فقال لا بأس عليك فإنه يسبح الله، فقال أخشى أن تدركه الرقة فيسجد.
وطلب بعضهم دارًا للكرى فدلوه على دار فدخل غيرها فوجد واحدًا ينيك أمرد فاستحى وقال هل عندكم دار للكرى فقال له ما أحمقك نحن من الضيق بعضنا على بعض.
كان بعض النحويين له مال كثير وليس له سكن يأوي إليه فقيل ابن بيتًا، فقال والله لا بنيت ما اتفق النحويون على إعرابه.
ومما قاله المرحوم القاضي فتح الدين بن الشهيد الذي كان مولده بالرملة سنة ثمان وعشرين وسبعمائة وقد توفي مقتولًا بالقاهرة سنة ثلاث وتسعين سبعمائة وكتبه على عمارة له:
بنيت على وقف المكارم والعلى ... فللفتح أبوابي وصدري للضم
سناالملك يبدو في موشح زينتي ... ومن أجل ذدار الطراز على كمي
ومما كتبه على الرفرف قوله:
رفعت كماشا الترفه رفرفًا ... أزين سمائي بل أزين سماحي
فلا بدع أن الناس يهوون بهجتي ... ويمشون في ظلي وتحت جناحي
الباب الثاني
في أحكام وضعه وسعة بنائه وبقاء الشرف والذكر ببقائه
وروي أن عمر بن الخطاب ﵁ لما بلغه أن سعدًا وأصحابه بنوا بالمدر كتب: أكره لكم البنيان بالمدر فإذا فعلتم فعرِّضوا الحيطان وأطيلو السُّمك وقاربوا بين الخشب.
ولما بنى معاوية داره بدمشق باللبن دخلها وفد من الروم فقالوا ما أحسن ما بناها للعصافير فهدمها وبناها بالحجر.
ورأى بعضهم رجلًا قد بنى حائطًا بالحجر وهو يبيضه فقال هذا يستر الذهب بالفضة.
وحكى أن يحيى بن خالد كان جالسًا للقصص فرفعت إليه قصة متظلم من بعض عماله فقربه وسأله عن ظلامته، فقال له إن عاملك فلانًا ظلمني وأخذ مالي واغتصب صنيعتي وهدم شرفي، فقال له فهمت جميع ما ذكرته إلا قولك هدم شرفي فما معناه، فقال له أنا من أبناء فارس كانت لي ضيعة وبالقرب منها قصر على الطريق فيه سقاية ينزلها الناس ويسقون منها ويذكرون بانيها ويترحمون عليه فغصبني الضيعة وهدم القصر فأمر يحيى بالكتابة إلى العامل أن ترد عليه ضيعته وجميع ما أخذته منه وتبني القصر حتى ترده على هيئته كما كان، وقال لبنيه ابنوا فإذن الذكر والشرف باقيان ببقاء البنيان.
وقيل لأبي الدهمان أين دارك؟ فقال إذا دخلت سكة بني العنبر فالدار التي تدل على شرف أهلها داري.
وعلى ذكر السؤال ما أحسن ما ذكره ابن رشيق في الأنموذج أن عبد الرحمن بن محمد الفراسي جلس مع بعض شيوخ يونس وكان الشيخ نهاية في المجون فاجتاز بهم رجلًا يسأل عن دار ابن عبدون فأقبل الشيخ عليه فقال هي في تلك الرابعة حيث يقوم أيرك فقال الفراسي لأنظمنه، فما رأيت مثل هذا المعنى، وأنشد من وقته:
إن شئت أن تعرف عن صحة ... داري التي تعزى لعبدونه
فامش فإن أيرك أبصرته ... قام فإن الباب من دونه
وقد عكس الشيخ صلاح الدين الصفدي (ومولده سنة أربع وتسعين وستمائة ووفاته سنة أربع وستين وسبعمائة) هذا المعنى فقال:
أقول لمن يسائل عن محلي ... تقدم وامش من خلف السواري
ومر فحيثما تلقى حكاكًا+بسرمك لا تعد فثم داري
1 / 2
رجع: خرّج الخطيب الحافظ أبو بكر في تاريخه قال لما بنى المهدي قصره بالرصافة دخل يطوف فيه ومعه أبو البحتري وهب بن وهب بن وهب فقال له هل تروي في هذا شيئًا؟ قال نعم حدثني جعفر بن محمد عن ابنه أن رسول الله ﷺ قال: "خير صحونكم ما سافرت فيه أبصاركم".
وقال المأمون يومًا لجلسائه أتدرون من أهنى الناس عيشًا، فقالوا أمير المؤمنين فال لا قالوا فأمير المؤمنين أعلم، فقال أهنى الناس عيشًا رجل له دار قوراء وامرأة حسناء وكفاف من العيش لا يعرفنا ولا نعرفه.
قال سلمة الأحمر دخلت على الرشيد فيقصره الذي بناه فقلت:
أما بيوتك في الدنيا فواسعة ... فليت قبرك بعد الموت يتسع
فجعل يبكي وقيل: أن خالد بن الوليد ﵁ شكى إلى النبي ﷺ ضيق مسكنه، فقال: ارفع البناء وسل الله السعة.
وقال يحيى بن خالد لابنه جعفر وقد همّ ببناء دار استوسع فإن الهمة في السعة.
سئل بعضهم ما الغنى فقال سعة البيوت ودوام القوت.
وقال بعضهم طيب المساكن بثلاثة: سعة الصحن، وخرير الماء، وشيء من الخضرة.
(يحيى بن خالد) الدنيا ثمانية: الطعام الطيب، والماء البارد، والثوب اللين، والفراش الوطي، والدار الواسعة، والمرأة الموافقة، والخادم الفارة، والقدرة على الأخوان بالإحسان.
وكان يقال جنة الرجل داره.
وذكر الأحنف الدور فقال: ليكن أول ما يشترى وآخر ما يباع.
وقال يحيى لبعضهم ما السرور فقال: دار قوراء وامرأة حسناء وفرس مرتبط بالفناء وينشد:
ومن المروة للفتى ... ما عاش دار فآخره
فما قنع من الدنيا بها ... واعمل لدار الآخرة
وكان يقال: دار الرجل عيشه.
قال السلامي في كتابه نتف الطرف الدور للناس الأعشة للطير والأوجرة للوحش والحجرة للحشرات فدار الرجل حال نفسه وموضع أمنه ومسكن قلبه ومجمع أهله ومحرز ملكه ومأنس ضيفه وملتقى صديقه وعدوه ولا شيء أصعب على الناس من الخروج من ديارهم.
وقد قرن الله ﷾ الخروج منها بالقتل حيث قال: ﴿ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم ما فعلوه إلا قليلٌ منهم﴾ وقال أحد الأشراف لابنه: يا نبي أحسن أثرك في هذه الدنيا بالبناء الحسن واسمع قول الشاعر:
ليس الفتى بالذي لا يستضاء به ... ولا يكون له في الأرض آثار
ولا تنس قول الآخر
إن آثارنا تدل علينا ... فانظروا بعدنا إلى الآثار
ومن أحسن ما قيل في بناء الملوك قول علي بن الجمهم المتوفي سنة تسع وأربعين ومائتين:
وما زلت أسمع أن الملو ... ك تبني على قدر أخطارها
فلما رأيت بناء الإما ... م رأيت الخلافة في دارها
حكي أن أبا العيناء دخل على المتوكل فيقصره فقال له: كيف ترى دارنا هذه؟ فقال الناس بنوا دورهم في الدنيا وأنت بنيت لدنيا في دارك.
أخذه اليزيدي فقال:
لما بنا الناس في دنياك دورهم ... بنيت في دارك الغراء دنياها
فلو رضيت مكان البسط أعيننا ... لم يبق عين لنا إلا فرشناها
الباب الثالث
في اختيار الجار والصبر على أذاه وحسن الجوار
وقيل الجار قبل الدار والرفيق قبل الطريق، وقيل لبعضهم أين معك في القرآن الجار قبل الدار، فقال قوله تعالى: ﴿رب ابن لي عندك بيتًا في الجنة﴾ وقال ﷺ: "من أشراط الساعة سوء الجار نعوذ بالله من ثلاث هن القوافر: إمام السوء إن أحسنت لم يشكر وإن أسأت لم يغفر، ومن جار السوء إن رأى حسنًا ستره وإن رأى قبيحًا أذاعه، ومن سوء امرأة إن غبت عنها خانتك وإن دخلت عليها لسنتك.
حكي: أبو السعادات بن الشجري (مولده سنة خمسين وأربعمائة وفاته اثنتين وأربعين وخمسمائة) في شرح الحماسة أن العباس بن الفرج الرياشي قال وفد زياد الأعجم على حبيب بن المهلب وهو بخراسان فبينما هما يشربان ذات عشية إذ سمع صوت زياد صوت حمامة تغني على شجرة في دار حبيب فقال:
تغني أنت في ذممي وعهدي ... بأن لا يذعروك ولا تضاري
إذا غنيتني وشربت كأسًا ... ذكرت أحبتي وذكرت داري
فإما يقتلوك طلبت ثأرًا ... لأنك في حماي وفي جواري
1 / 3
فأخذ الحبيب سهمًا فرماها فأنفذها فقال زياد قتلت جاري، بيني وبينك المهلب فاختصما إليه فقال المهلب أبو أمامة لا يروع جاره، وقد ألزمتك العقل ألف دينار فدفعها إليه من يومه.
ولما بنى كسرى إيوانه كانت بجواره دويرة لعجوز لا يكمل تربيع الإيوان إلا بها فدفع لها جملة من المال، فقالت لا أبيع جوار الملك بملئها ذهبًا ولا أخرج من جواره طائعة فإن غصبني إياها فهو قادر على ذلك فعلم كسرى بذلك، فقال تترك ويبنى الإيوان فقيل لا يجيء مستحكم التربيع، فقال يبنى ما اتفق وكان فيه عوج، فكان بعد ذلك يقال لهما أحسن بناء هذا الإيوان ولولا هذا العوج فيقول بهذا العوج تم حسنه.
قلت: وعلى ذكر الإيوان ما أحسن ما أنشدني من لفظه لنفسه أجازه الشيخ عز الدين على ابن الشيخ بهاء الدين الحسن الموصلي رحمه الله تعالى أحجبيه كتب القاضي صلاح الدين الصفدي تغمده الله بالرحمة:
يا من له الطول في المعالي ... وبالمعاني لنا يبصر
إني كما قلت في سؤالي ... ما مثل قولي نعم مقصر
رجع: وكان لابن المقفع بجنب داره دار وكان يستامها من صاحبها وهو يمتنع من بيعها اتفق أن ركبه دين فاحتاج إلى بيعها فعرضت عيه فسأل عن سبب بيعه إياها بعد غبطة بها فأخبره بقصته، فقال ما قمت إذًا بحرمة الجار إن اشتريتها وقد باعها معدمًا فحمل إليه ثمن الدار وقال أبق دارك عليك بارك الله لك فيها ورد هذا في دينك.
وقال الأصمعي رأى بعضهم عدي بن حاتم الطائي يفت للنمل خبزًا بفناء داره، فقال له يا أبا طريف ما تصنع؟، فقال جارات ولهنّ حرمة.
قلت: وعلى ذكر حاتم الطائي ذكرت ما أنشدنيه سيدي الجناب المجدي فضل الله بن المرحوم الصاحب الفاضل فخر الدين عبد الرحم بن مكانس سلمه الله تعالى قال: أنشدني والدي من لفظه قال أنشدني صاحبنا الشيخ شمس الدين الواسطي (توفي المذكور قريبًا م سنة ثمانين وسبعمائة) لنفسه مواليًا:
ما مت حتى جفاني كل من فيالحي ... وملني وقلاني كل من لوشيّ
وأنت ما في العجم والعرب مثلك حيّ ... يا من طوى بالمكارم ذكر حاتم طيّ
قلت: وأنشدني من لنفسه الصاحب المرحوم فخر الدين بن مكانس من قصيدة (وتوفي تغمده الله بالرحمة سنة أربع وتسعين وسبعمائة) وذلك بمنزله بقنطرة قدادار بتاريخ عاشر صفر من شهور عام ثلاث وتسعين وسبعمائة:
وكم طربت لما أبدته من ملح ... يصبو له كل ذي عقل وآراء
وجدت بالتبر من مالي ومن أدبي ... فكنت في كل حال منهما الطائي
رجع إلى ما كنا بصدده وقال محمد بن عبد الرحمن الزهري كانت بيني وبين أبي العباس تعلب مودة أكيدة وكنت أستشيره في أموري فجئت يومًا أشاوره في الانتقال من دار إلى أخرى لتأذي بها بالجوار، فقال يا أبا محمد تقول صبرك على أدى من تعرفه خير لك من استحداث ما لا تعرفه.
من غريب الاتفاق أن بشار بن برد كان قد حلف أنه لا يجاور حماد عجرد ولا يضله وإياه سقف بيت ولا مسجد وأنه يهجوه بألف قصيدة، فاتفق أن مات حماد في قرية من سواد البصرة وعرضت لبشار هناك حاجة فمات فيها ودفن إلى جانب حماد عجرد.
وقريب من هذه الحكاية ما حكي أن روحًا بن حاتم بن قبيصة بن المهلب كان واليًا على السند وأخوه يزيد واليًا على أفريقيا فتوفي بها في سنة سبعين ومائة بالقيرون، فقال أهل المدينة وأعني أفريقية ما أبعد ما يكون بين قبري هذين الأخوين فإن أخاه بالسند وهذا هنا فاتفق أن الرشيد عزل روحًا عن السند وسيره إلى موضع أخيه يزيد فدخل إلى أفريقية فلم يزل واليًا بها إلى أن مات ودفن مع أخيه في قبر واحد فعجب الناس من غريب هذا الاتفاق.
عود: وكان لأبي حنيفة جارًا إسكاف بالكوفة يعمل نهاره أجمع فإذا جن الليل رجع إلى منزله بلحم أو سمك فيطبخ اللحم أو يشوي السمك فإذا دب فيه السكر أنشد:
أضاعوني وأي فتى أضاعوا ... ليوم كريهة وسداد ثغر
1 / 4
فلا يزال يشرب ويردد البيت إلى أن يغلبه السكر وينام وكان أبو حنيفة يصلي الليل كله ويسمع جلبته وإنشاده ففقد صوته ليال فسأل عنه، فقيل أخذه العسس منذ ثلاثة أيام وهو محبوس فصلى صلاة الفجر وركب بغلته ومشى واستأذن على الأمير، فقال ائذنوا له وأقبلوا به راكبًا حتى يطأ البساط ففعل لك به فوسع له الأمير في مجلسه وقال له ما حاجتك؟ فقال لي جارًا سكاف أخذه العسس منذ ثلاثة ليال فتأمر بتخليته، فقال نعم وكل من أخذ من تلك الليلة إلى يومنا هذا، ثم أمر بتخليته وتخليتهم أجمعين فركب أبو حنيفة رحمه الله تعالى وتبعه جاره الاسكاف فلما وصل إلى داره قال له أبو حنيفة أترانا أضعناك، فقال لا بل حفظت ورعيت جزاك الله خيرًا عن صحبة الجوار ورعاية الحق ولله علي أن لا أشرب خمرًا ابدًا فتاب ولم يعد إلى ما كان عليه.
قلت: وقد ضمن هذا البيت الشيخ برهان الدين القيراطي تضمينًا حسنًا (ومولده سنة ست وعشرين وشبعمائة، ووفاته سنة إحدى وثمانين وسبعمائة):
فقال دعاني منيتي لكريه راح ... ورشف الثغر منه عقيب سكر
فقلت له دعوت فتى يرجى ... ليوم كريهة وسداد ثغر
ونقلت من المستجاد في فعلات الأجواد عرض محمد بن الجهم دارًا بخمسين ألف درهم فلما حضروا ليشتروا قال بكم تشتروا مني جوار سعيد بن العاص وكان بجواره فقالوا وإن الجوار ليباع، فقال وكيف لا يباع ويفرد بثمن وهو جوار من إذا سألته أعطاك، وإن سكت ابتدأك، وإن أسأت أحسن فبلغ ذلك سعيدًا فوجه إليه بمائة ألف درهم وقال أمسك عليك دارك.
وعلى ذكر الجار فما أحسن قول الشيخ جمال الدين بن نباتة (ومولده سنة ست وستمائة، ووفاته سنة ثمان وستين وسبعمائة) .
بروحي جيرة أبقوا دموعي ... وقد رحلوا بقلبي واصطباري
كأنا للمجاورة اقتسمنا ... فقلبي جارهم والدمع جاري
وقال الشيخ بدر الدين بن الصاحب (ومولده سنة ست عشرة وسبعمائة، ووفاته سنة ثمان وثمانين وسبعمائة) وقد انتقل النيل السعيد عن بر مصر إلى البر الغربي شط الجيزة.
يا أيها السلطان إن النيل عن ... مصر تنقل بعد طول جوار
فاحفظ لنا جريانه وجواره ... فالله قد أوصى بحفظ الجار
وأنشدني سيدي وأخي الجناب المجدي فضل الله بن مكانس أبقاه الله_تعالى_من موشحة لنفسه
أجريت ما بين دموعي الغزار*مثل البحار*ولم يدع لي طول دهري قرار
هجر حبيبي وهو مني قريب*مع الرقيب*قد صيراني بين قومي غريب
دأبي النحيب*فآه من جورك يا ذا الحبيب*على الكثيب
وما احتيالي في قريب الديار*ونائي المزار*هو على الحالين يا قلب جار
رجع إلى ما كنا فيه: كان أبو سفيان إذا نزل به جار قال له يا هذا إنك قد اخترتني جارًا واخترت داري دارًا فجناية يدك على دونك وإن جنيت عليك فاحتكم حكم الصبي على أهله.
وذكر ابن الجوزي في كتاب الأذكياء قال رجل يا رسول الله إن لي جارًا يؤذيني قال انطلق وأخرج متاعك إلى الطريق، فانطلق فأخرج متاعه فاجتمع الناس إليه فقالوا ما شأنك؟ قال لي جار يؤذيني فجعلوا يقولون الله العنه اللهم اخزه اللهم أخرجه، فبلغه ذلك فأتاه فقال ارجع إلى بيتك فوالله لا أوذيك بعدها. وهذه من الحيل التي أباحها الشرع الحديث رواه الإمام أحمد في مسنده.
وورد أن أبا مسلم الخراساني صاحب الدعوة عرض عليه فرس سابق فقال لأصحابه لما يصلح هذا الفرس؟ فقالوا ليوم الحرب، فقال كلا ولكن ليهرب عليه من جار السوء.
وروي عن النبي ﷺ أنه قال: "ثلاث كن في الجاهلية الإسلام أولى بها: كان الرجل منهم إذا نزل به ضيف سعى له أهل البيت كبيرهم وصغيرهم حتى ينقلب وهو راض، وكان الرجل منهم إذا طال ثواء امرأته معه كره طلاقها لئلا تذل بعده، وكان الرجل إذا جنى جاره جريمة باع فيها ولو ولده حتى ينقذ جاره.
الباب الرابع
في الباب
الباب يجمع على أبواب وقد قالوا فيه أبوبة للازدواج، وقيل أبواب مبوبة كما قيل أصناف مصنفة، ولبعضهم فيما يكتب عليه.
لذ بذا الباب كلما ... خفت ضيق المناهج
فهو باب مجرب لقضاء الحوايج
وأنشد الأصمعي وفي أبيات المعاني قول بعض العرب:
وذي رجلين لا يمشي عليها ... ولكن في القيام له صلاح
1 / 5
فندفعه إذا احتجنا إليه ... ونجذبه إذا حان الرواح
وقال الحاتمي في باب بمصراعين (توفي المذكور سنة ثمان وثمانين وثلاثمائة):
عجبت لمحرومين من كل لذة ... يبيتان طول الليل يعتنقان
إذا أمسيا كانا على الناس مرصدا ... وعند طلوع الفجر يفترقان
وقال الشيخ شمس الدين بن دانيال (توفي سنة عشر وسبعمائة):
قل للوزير محمد بن محمد ... يا من هو المسك الذكي لمن درج
أنت الذي دار السعادة داره ... طول الزمان وبابه باب الفرج
وقال الشيخ جمال الدين بن نباتة:
بشر أمير المعالي باتصال هنا ... يحفه السعد من أقصى جوانبه
واكتب على بابه الغربي معتمدًا ... عز يدوم وإقبال لصاحبه
وقال:
أيا دار دار اليمن من كل وجهة ... عليك ولا زال الهنا لك يجاب
ولا عدم القصاد بابك إنه ... لنجح الرجا باب صحيح مجرب
قلت: قوله صحيح على غير طائل وصاحب الذوق السليم يشهد والمعنى يقدم.
وقال:
يا زائري قاضي القضاة لينهكم ... ما صحح التجريب من أبوابه
أقسمت ما الحجر المكرم للغني إلا الذي تغشون من أعتابه
وقال:
يا مالكًا تقصر عن وصفه ... بذائع الشاعر والكاتب
في بابك العلم وفيض الندى ... فلا خلا بابك من طالب
وقال ناصر الدين ابن النقيب في المجون (توفي سنة سبع وثمانين وستمائة):
قال لي الخارج صف لي ... مثل ما أعرف وصفك
أين باب الخرق قل لي ... قلت باب الخرق خلفك
وعلى ذكر باب الخرق فلا بأس بإيراد نبذة مما قيل في باب زويلة، فمن ذلك قول إبراهيم المعمار (توفي سنة تسع وأربعين وسبعمائة):
زويلة بابك هذا سفيه ... يشرب ماء الخمر جهرًا بفيه
ولم يزل يألف سفك الدما ... وكل ما يقطعه الشرع فيه
وله فيه:
حاذر زويلة إن مررت ببابها ... وطعامها كن آيسًا من خيره
فوسط القتلا يقول به انظروا ... من لم يمت بالسيف مات بغيره
وقال شهاب الدين بن أبي حجلة (مولده سنة خمس وعشرين وسبعمائة، ووفاته سنة ست وسبعين وسبعمائة):
برت زويلة إذا أمسى يقول لنا ... باب لها قول صدق غير مكذوب
إذا وعدت حراميا بسفك دما ... في الحال علق من وعدي بعرقوب
وقال الشيخ شمس الدين الضفدع فيما يكتب على الباب (مولده سنة ثلاث وتسعين وستمائة، ووفاته سنة ست وخمسين وسبعمائة):
من ذا الذي ينكر فضلي وقد ... فزت من الحسن بمعنى غريب
عندي لمن يخذله دهره ... ﴿نصر من الله وفتح قريب﴾
وقال إبراهيم المعمار:
يا من بباب علاه ... العيش للنا سطابا
أرسلت مدحي غلامًا ... إليك يخدم بابا
وما أظرف قول من قال وإن كان غير ما نحن فيه ولا تحسبه لك وحدك إن كنت راقدًا اتنبه كما فتحت الطاقة غيرك يسد الباب.
وقال القاضي مدي الدين بن عبد الظاهر ملغزًا فيه (مولده سنة عشرين وستمائة ووفاته سنة اثنين وتسعين وستمائة):
أي شيء تراه في الدور والكت؟ ...؟ب مجازًا هذا وذاك محقق
يحفظ المال والحريم ولو ... لاه حفيظًا لكان ذلك يسرق
هو زوج تارة وهو فرد ... وهو في أكثر الأحايين يطرق
وطليق في نشأتيه ولكن ... بحديد من بعد ذلك يوثق
وثلاثًا تراه في الخط لكن ... هو اثنان كله إن يفرق
وتراه للحشو ينسب حينًا ... وهو مع ذلك لا يرى يتزندق
وهو في القلب يستوي وتراه ... بان تصفيحه لمن يترمق
فأجبني عنه بقيت مطاعًا ... لست في حلبة الفضائل تسبق
كتب الشيخ شرف الدين عبد العزيز الحموي المعروف بشيخ الشيوخ إلى والده ملغزًا (مولده سنة ست وثمانين وخمسمائة، ووفاته سنة إحدى وستين وستمائة):
ما واقف في المخرج ... يذهب طورًا ويجي
لست تخاف شره ... ما لم يكن بمرتج
فكتب إليه والده الجواب ذهاب وجيء وخوف وهذا باب خصومة والسلام.
وكتب الأديب نصر الدين الحمامي إلى السراج الوراق وكان السراج يسكن بالروضة (مولده سنة خمس وعشرة وستمائة، وتوفي سنة خمس وتسعين وستمائة):
كم قد أردد للباب الكريم لكي ... أبل شوقي وأحيي ميت أشعاري
1 / 6
وأنثني خائبًا فيما أؤمله ... وأنت في روضة والقلب في نار
فكتب الجواب إليه:
الآن نزهتي في روضة عبقت ... أنفاسها بين أزهار وأثمار
أسكرتني بشذاها فانثنت بها ... وكل بيت أراه بيت خمار
ولا تغالط فمن فينا السراج ومن ... أولى بأن قال إن القلب في نار
وقال الصاحب جمال الدين بن مطروح في قصيدة يمدح بها الملك الأشرف مظفر الدين موسى (ولد ابن مطروح سنة اثنتين وتسعين وخمسمائة، وتوفي سنة تسع وأربعين وستمائة):
ما كان أشوقني للئم بنانه ... ولقد ظفرت بلئهما فليهنني
ودخلت من أبوابه في جنة ... يا ليت قومي يعلمون بأنني
وقال علاء الدين الوداعي (مولده سنة أربعين وستمائة وتوفي سنة ست عشرة وسبعمائة):
من أم بابك لم تبرح جوارحه ... تروي أحاديث ما أوليت من منن
فالعين عن قرة والكف عن صلة ... والقلب عن جابر والسمع عن حسن
قلت: أما قرة فهو قرة بن خالد السدوسي وهو ثقة روى عن الحسن وابن سيرين وليس بتابعي، وأما صلة فهو صلة بن أشيم العدوي كان من عباد التابعين وهو زوج معاذة العدوية وهي تروي عن عائشة ﵂، وأما جابر فهو جابر بن عبد الله كان صاحب رسول الله ﷺ وليس هو جابر الجحفي لأن جابر الجحفي ضعيف وهو تابعي وإنما ضعفوه لأنه كان يؤمن بالرجعة، وأما حسن فهو حسن البصري كان تابعيًا كبيرًا رأى من أصحاب النبي ﷺ نحو ثلاثمائة رجل، ولقد أجاد علاء الدين في استعمال هؤلاء الرجال في أوصاف الممدوح ودل على جودة اطلاعه على أسماء رجال الحديث، رحمه الله تعالى.
وأنشدني سيدي وأخي تقي الدين أبو بكر بن حجة الحموي سلمه الله تعالى لنفسه الكريمة إجازة من قصيدة.
قصدت باب الحبيب والرقبا ... عليّ من خيفة اللقا حنقه
قالوا: فما تبتغي فقلت لهم ... حتى تخلصت أبتغي صدقه
والشي يذكر بلوازمه ما ألطف وأبلغ ما ذكره ذو الوزارتين لسان الدين بن الخطيب الأندلسي في ترجمة شهاب الدين بن رضوان الغرناطي أبو جعفر في تاريخه بالإحاطة (وذكر أن وفاته سنة ثلاث وتسعين وسبعمائة):
يا من اختار فؤادي مسكنا ... بابه العين التي ترمقه
فتح الباب سهادي بعدكم ... فابعثوا طيفكم يغلقه
وقال الشيخ جمال الدين بن نباتة نثرًا: أي والله تخلى الشباب وخمد آب الذهن اللهاب وخلا الفكر الحائم من صوب والفهم الخادم من صواب، واقصر عن نظمه ونثره من كانت له في الإنشاء نشأة وكانت له في الشعر أسباب، وغض بصر القريحة وتقاص ذيلها فما يرفع لها ولا تجر أهداب، واختبى لسان المنشئ المنشد عجزًا وأغلق عليه من شفتيه مصراعي الباب.
وقال القاضي الفاضل نثرًا (مولده سنة اربع وعشرين وخمسمائة، ووفاته سنة ست وتسعين وخمسمائة): لا زالت الملوك ببابه وقوفًا والأقدار له سيوفًا والخلق له في دار الدنيا ضيوفًا ودين دين الحق تعلمه الناس أنه إذا جرد لتقاضيه سيوفًا سيوفى.
ومن نثره: كل لفظة موصولة بأنه وفي كل قلب من حربه وفي كل دار من فضله جنة فروح الله تلك الروح وفتح لها أبواب الجنة فهي آخر ما ترجوه من الفتوح.
من رسالة كتبها المرحوم العلامة فتح الدين بن الشهيد إلى بعض أصحابه، وقد طرق عليه الباب فوجده مقفلًا: فما هو إلاا أن قبلت العتبة فأعتبت، وتأدت فريضة الخدمة لما وقفت وتأدبت، وأطلت قرع حلقة الباب فقال الصدى ضربت من حديد بارد وجئت، وقد استقل ركاب المسود والسائد فاذكر حاجتك أبلغ عنك ما تقول وأسبق، يرجع الجواب إليك الرسول قلت محب يراهم بالقلب إن عاقب الحوايج والجوانح ورحت، وقلت إن جئت بجواب فسل عن سايح بن رايح وعدت أمشي بخفي حنين.
وأصغي إلى صوت الصدى عند ذكركم ... فأطرب للمغني وأهتف بالدار
وأسعى بها دارًا على مروة الصفا ... أطوف بها سبعًا ولم أقض أوطاري
وما نافعي التطواف في دارة الحمى ... إذا لم يكن في دارة الحي أقماري
وترددت حتى كلل دمعي للطرق بالعقيق ورمت أنفاسي النار في الدار وصاحت الحريق.
وللقاضي الفاضل يصف الستائر من قصيدة أولها:
يا طالب الجود يمم كعبة الكرم ... وقل سلام لها عن كعبة الحرم
1 / 7
كأن أستاره روض سمحت له ... بماء يشرك هذا المخرق السم
غيم يزر على شمس وفي يده ... غمامة لقيته كاشف الغمم
سحب تعود منه فيض أنملة ... والسحب إن سيرت دلت على الديم
لو لم تكن سحبًا ما كان ذيلها ... برقا يشام إذا ما البرق لم يشم
بيض كعرضك في طول كطولك في ... لمع كنشرك في سلك حكى كلم
فكنت كالشمس في ثوب النهار بها ... لا كالبدور بأثواب من الظلم
أظهرت عدلك فيها فهي معجزة ... فالأسد ما وثبت والريم لم يرم
قرب سانحة فيه وسارحة ... فأعجب لضدين في بحر من الكرم
تهيم بالصيد آمالي إذا نظرت ... فيها فأذكر منع الصيد في الحرم
كأن أحداقنا ترعى الحدائق من ... جنات عدن وعدل دائم قدم
أقاح روض كأن الورد فرزوه ... فيا لجريه ماء كف بالضرم
والطير في شجرات الرقم عاكفة ... ونبت عنهن في التغريد بالنغم
إن لم يكن ثمر فيها ففي يده ... ثمار جود زهت في روضة الشيم
يود ما مثلوه فيه من صور ... لو أنها استخدمت في جملة الخدم
تلك الستور عجاج والنجوم لها ... عرى وأيدي الظبا فروزنها بدم
أظن بابك خدا غرت من قبل ... عليه حتى منعت اللثم باللثم
إذا رأيت بها الأعلام مشرقة ... رأيت أشهر من نار على علم
مثل السراب ووقت القيظ بيضها ... لكن وردت بعيني حين هم فمي
وللمولى السيد شمس الدين القاسم ابن الصاحب موفق الدين علي بن الآمدي نقلته من خط الوداعي:
ومشعل قام في خشوع ... كراهب شق عنه جيبا
قد فني الجسم منه سقمًا ... واشتعل الرأس منه شيبا
وورد على سيدنا ومولانا المرحوم القاضي أمين الدين محمد الأنصاري (المتوفي أواخر سنة ثمان مائة وأخبرني أن مولده سنة إحدى وخمسين وسبعمائة) صاحب ديوان الإنشاء الشريفة بالشام المحروسة كتاب من سيدنا ومولانا أوحد العصر القاضي بدر الدين محمد المخزومي المالكي الشهير بابن الدماميني (الذي مولده في سنة ثلاث وستين وسبعمائة) أنفذ الله أحكامه وذلك من مكة المشرفة بتاريخ التاسع والعشرين من شهر الله المحرم سنة إحدى وثمانمائة جاء منه وينهي أنه سطرها بمنى وقد سالت بأعناق البدن الأباطح ووقفت الجزر تؤمل سعد الأخبية، فما طلع لها غير سعد الذابح وقد برد الصدر المحرور برمي الجمار وقرت العيون برؤية تلك الآثار وقرع المملوك باب الرحمة عند وصوله إلى البيت الشريف، وقال للزمن تنكر ما شئت فقد حصل التعريف.
وذكر صاحب المباهج أن ستر إيوان كسرى أحرق لمات ملك المسلمون المدائن فأخرج منه ألف ألف مثقال ذهبًا، وقيل مائة ألف مثقال.
وطرق رجل على عمرو بن عبيد الباب، فقال من هذا، فقال أنا، قال لست أعرف أحدًا من إخواننا اسمه أنا.
وأخرج البخاري من طريق جابر ﵁، قال استأذنت على النبي ﷺ فقال من هذا، فقلت أنا، فقال أنا أنا كأنه كرهه.
وأنشدني الشيخ شمس الدين الجرائحي لنفسه فيما يكتب على ستر:
أنا الستر المجمل بالب؟ ...؟ها والعز والنصر
فلذ بي أن تجد ضيمًا ... وقل يا مجمل الستر
الباب الخامس
في ذم الحجاب
خال بن عبيد الله القشيري كان يقول لحاجبه فلا يحجبن عليّ أحد فإنما الوالي يحتجب لثلاث: شر يكره أن يطلع عليه غيره، أو ريبة يخاف انتشارها، أو بخل يكره معه أن يسأل شيئًا.
ووقف رجل على باب أبي دلف فأقام به حينًا لا يصل به فتلطف في رقعة أوصلها إليه وكتب فيها:
إذا كان الكريم له حجاب ... فما فضل الكريم على اللئيم
فأجابه:
إذا كان الكريم قليل المال ... ولم يعذر تعلل بالحجاب
وأبواب الملوك محجبات ... ولا تستكثرن حجاب باب
وقال علاء الدين الوادعي يعتذر إلى بعض أصحابه:
إن كنت يا أكرم الصحاب ... حجبت لما طرقت بابي
فأنت قلبي ولا عجيب ... إذا غدا القلب في حجاب
وقال زين الدين بن الوردي (توفي سنة خمسين وسبعمائة) يلوم نفسه على زيارة أقوام:
مذ زرتهم صحبة وودا ... ألفيتهم مغلقين بابا
سعيي إلى بابهم جنون ... مني فاستأهل الحجابا
1 / 8
وقال بعض الحكماء لبعض الملوك: لا تمكن الناس من كثرة رؤيتهم لك فإن أجرأ الناس على الأسد أكثرهم له رؤية.
وقال آخر كثرة الأذن مجلبة الابتذال وهيبة الملوك في الاحتجاب وكان يقال المبذول مملوك والممنوع متبوع.
ولله در ابن المعتز وما أحسن قوله:
كما يخلق الثوب الجديد ابتذاله ... كذا يخلق المرء العيون اللوافح
وقيل لبعض الحجاب متى تفرغ ولايتك فقال متى حضر طعام مخدومي وأين هذا من قول القائل:
جزت على باب صديق لنا ... وبابه من دونه مقفل
وحول تلك الدار غلمانه ... قد أحدقوا بالباب واستكملوا
فقلت ما يصنع مولاكم ... قالوا سمعنا أنه يأكل
قلت فلما يفتح مولاكم ... قالوا بلى رأس الذي يدخل
وقيل لبعضهم: هل تغديت عند فلان؟ قال لا ولكنني مررت ببابه وهو يتغدى، قال فكيف علمت؟ قال رأيت غلمانه بأيديهم قسى البندق يرمون الطير في الهوى.
وقال بعضهم:
رأيت أبا زرارة قال يومًا ... لحاجبه وفي يده الحسام
لئن وضع الخوان ولاح شخص ... لأختطفن رأسك والسلام
فقال سوى أبيك فذاك شيخ ... بغيض ليس يردعه الكلام
فقال وقام من حنق إليه ... بقد لام يزد فيه القيام
أبي وأبو أبي والكلب عندي ... بمنزلة إذا حضر الطعام
فما في الأرض أقبح من خوان ... عليه الخبز يحضره الزحام
وما أحسن قولا القاضي الفاضل:
بتنا علبى حال يسر الهوى ... وربما لا يمكن الشرح
بوابنا الليل فقلنا له ... إن غبت عنا هجم الصبح
وله في بواب يلقب بالبحري:
وهب أن هذا الباب للرزق قبلة ... فها أنا وقد وليته دونكم ظهري
وهب أنه البحر الذي يخرج الغنى ... فكل خرافي الشط في لحية البحري
وقال كمال الدين بن النبيه (توفي سنة تسع عشرة وستمائة) لما سمع قول الفاضل:
قلت لليل إذا حباني حبيبا ... بغناء يسبي النهى وعقارا
أنت يا ليل حاجبي فامنع الص؟ ...؟بح وكن أنت يا دجى برد دارا
وقال ناصر الدين بن النقيب:
ماذا على بواب دراكم الذي ... لا إذن يعطينا ولا يستأذن
لو ردنا ردًا جميلًا عنكم ... أو كان يدفع بالتي هي أحسن
وللشيخ شهاب الدين بن أبي حجلة في غير المعنى:
يا رب إن النيل زاد زيادة ... أدت إلىهدم وفرط تشتت
ما ضره لو جاء على عاداته ... في دفعة أو كان يدفع بالتي وأنشدني الشيخ العلامة عز الدين الموصلي لنفسه (المتوفي سنة تسع وثمانين وسبعمائة، وأخبرني أن مولده أربع وعشرين وسبعمائة):
قد سلونا عن الحبيب بخود ... ذات وجه به الجمال تفنن
ورجعنا عن التهتك فيه ... ودفعنا بالتي هي أحسن
رجع إلى ما كنا فيه: قال الناشئ الأصغر (المتوفي سنة ست وستين وثلاثمائة):
ليس الحجاب بآلة الأشراف ... إن الحجاب مجانب الإنصاف
ولقل ما يأتي فيحجب مرة ... فتعود ثانية بقلب صاف
وقال أبو الحسين الجزار (مولده سنة إحدى وستين وستمائة، ووفاته سنة اثنتين وسبعين وستمائة):
أمولاي ما من طباعي الخروج ... ولكن تعلمته من خمولي
وصرت لديك أروم الغنى ... فيخرجني الضرب عند الدخول
وألم بهذا الأديب شمس الدين الضفدع فقال:
وافا إلى خدمته العبد كي ... يحظى بتقبيل يد أو قبول
واستأذن الخادم في قربه ... منكم لأن البعد ستر يحول
فكاد أن يخرجه الضرب عن ... غناك بالإيقاع قبل الدخول
٣أوحى إليه منه قولًا فما ... بلغ عنه ما يقول الرسول ونقلت من خط فخر الدين بن مكانس للجمال ابن عبد الغني:
أتيت إلى بابك يا سيدي ... أهنيك بالعيد مع من يهني
فأخرجت من بعد ذاك الدخول ... وقد جئت يعني مدلًا بأني
مغن ويخرج بعد الدخول ... وتأبى الطباع خروج المغني
حكي عن أبي الحسين الجزار أنه جاء إلى باب الصاحب زين الدين بن الزبير فأذن للناس كلهم ولم يؤذن له فكتب في ورقة:
الناس قد دخلوا كالأير أجمعهم ... والعبد مثل الخصي ملقى على الباب
1 / 9
فلما قرأها ابن الزبير قال لحاجبه اخرج إلى الباب وناد يا خطي ادخل فلما سمع أبو الحسين قول الحاجب يا خصي ادخل فقال هذا دليل على السعة.
وهذا جميعه مأخوذ من قول الآخر:
أيدخل من يشاء بغير إذن ... وكلهم كسيد أو عوير
وأبقى من وراء الباب حتى ... كأني خصيه وسواي أير
وقال بعض الشعراء وقد منعه بواب اسمه بصاقة من الدخول
يا من سما في المكرما ... ت وفاق أرباب الممالك
أعجب لأمر بصاقة ... منع الدخول لباب خالك
وهو المعين على الدخو ... ل إذا تعسرت المسالك
وقال جحظة:
ولي صاحب زرته للسلام ... فقابلني بالحجاب الصراح
وقالوا تغيب عن داره ... لخوف غريم ملح وقاح
ولو كان عن داره غائبًا ... لأدخلني أهله للنكاح
وقال آخر:
وكل خفيف الشأن يسعى مشمرًا ... إذا فتح البواب بابك أصبعا
وتحن الجلوس الماكثون توقرا ... حياء إلى أن يفتح الباب أجمعا
وأنشدني صاحب الأمالي:
كم من فتى تحمد أخلاقه ... ويسكن العارفون في ذمته
قد أكثر الحاجب أعداؤه ... وأحقد الناس على نعمته
حكى أبو السعادات بن شجري في شرح الحماسة أن أنس بن زنيم الهذلي وفد على عمرو بن عبد الله بن التميمي في جماعة من الشعراء فصده الحاجب عن الدخول وأذن لغيره من الشعراء فلما طال حجابه كتب إليه أبياتًا منها:
لقد كنت أسعى في هواك وأبتغي ... رضاك وأعصي أسرتي والأدانيا
حفاظًا وإمساكًا لما كان بيننا ... لتجزيني يومًا فما كنت جازيا
أراني إذا ما شمت منك سحابة ... لتمطرني عادت عجاجًا وسافيا
أأقصى ويدنى من يقصر رأيه ... ومن ليس يغني عنك مثل غنائيا
فلما قرأ الأبيات عنف حاجبه ثم أذن له وقال له ويحك ما هذا، قال فعل حاجبك وطول مقامي وأنت تعطي من أقبل وأدبر، فقال يا هذا أشهدت معي موذاة هجر قال لا، قال ألك من يد تضربني بها أو تستحق علي ما طلبت قال نعم كنت أجلس بين يديك وأسمع حديثك فأنشر محاسنه وأطوي مساوئه، فقال وأبيك إن في هذا لما يشكر كم أقمت بالباب، قال أربعين يومًا فأمر له بأربعين ألف درهم.
ولشهاب الدين ابن أبي حجلة:
ألا قل لشمس الدين صاحبنا العبسي ... أتينا مرارًا نحو بابك بالأمس
فإن حجبتك الجدر عنا فربما ... رأينا جلابيب السحاب على الشمس
وقال شرف الدين بن عنين (ومولده سنة تسع وأربعين وخمسمائة ووفاته سنة ثلاثين وستمائة):
أين غلمانك الممطيفون بالبغ؟ ...؟لة والرافعون للأثواب
ردك الدهر كالنداء على الني؟ ...؟يل لا حاجب ولا بواب
وعلى ذكر الحاجب فما أحسن قول القائل في مليح قلندري:
بدا في حلق الحواجب فتنة ... فقلت لعقل ذاهل فيه ذاهب
حبيبي بحق الله قل لي ما الذي ... دعاك إلى هذا فقال مجاوبي
وعدت بوصل العاشقين تعطفًا ... فلم يثقوا فاسترهنوا قوس حاجبي
وقال السراج الوراق فيه:
عشقت من ريقته قرقف ... وما له إذ ذاك من شارب
قلندريا حلقوا حاجبا ... منه كنوز الخط من كاتب
سلطان حسن زاد في عدله ... فاختار أن يبقى بلا حاجب
وقف بعض المطابيع على باب بعض الأمراء والطعام قد حضر فخرج حاجب الأمير إلى الباب فقال أيها المطبوع ألك حاجة، قال نعم قال ما هي؟ فقال له إذا دخلت فاقرئ خبر الأمير السلام.
وما أظرف في ذم الحاجب قول السراج الوراق:
لا ذقت ذل حجاب ... ولا وقوفًا بباب
فقد حنقت وقد قا ... م شارب البواب
ورحت أجري وصحف؟ ...؟ت موضعين لما بي
وقال زين بن الوردي:
يقول بوابه إذا رأى ... بالباب مني وقفة الحائر
له محارلايم بها شغلة ... قلت محاريم بلا آخر
وقال السراج الوراق مضمنًا:
وقطب عند دخولي إليه ... فتم له القبح معنى وصورة
ولولا الضرورة ما زرته ... على الرغم مني وعند الضرورة
وقال جمال الدين ابن نباتة:
حجبتني فازددت عندي علبا ... برغم من أقبل كالعاتب
وقلت لا أعدم من سيدي ... من كان عيني فغدا حاجبي
1 / 10
وقال محمد بن العفيف (مولده سنة اثنتين وستين وستمائة، ووفاته سنة سبع وثمانين وستمائة):
ولقد وقفت ضحى ببابك ارتجي ... باللثم للعتبات حق الواجب
وأتيت أطلب زورة أحظى بها ... فرددت يا عيني هناك بحاجبي
وقال الشهاب فتيان الشاغوري (مولده سنة ثلاثة وخمسمائة، ووفاته سنة خمسة عشرة وستمائة):
وافيت تهنية الوزير فلم أجد ... لي في الدخول ببابه من مسعد
لم أحظ إلا بالقيام لمن أتى ... فحصلت منك على المقيم المقعد
قصد جماعة من الطفيلية وليمة فقال رئيسهم: اللهم لا تجعل البواب لكازًا في الصدور دفاعًا في الظهور طراحًا للقلانس، هب لنا رأفته ورحمته وبشره وسهل علينا إذنه، فلما دخلوا تلقاهم المضيف، فقال الرئيس عزة مباركة موصول بها الخصب معدوم بها الجدب فلما جلسوا على الخوان قال جعلك الله كعصى موسى وخوان إبراهيم ومائدة عيسى في البركة، ثم قال لأصحابه افتحوا أفواهكم وأقيموا أعناقكم وابسطوا الأكف وأجيدوا اللقم ولا تمضغوا مضغ المتعللين الشباع المتخمين واذكروا سوء المنقلب وخيبة المضطرب خذوا على اسم الله تعالى.
وقال زين الدين بن الوردي:
ماذا تقولون في محب ... عن غيره أبوابكم تخلا
وجاءكم زائرًا عفيفًا ... عن مالكم هل يجوز أم لا
وقال جمال الدين بن نباتة:
ما يقول المقام أيده الل؟ ...؟هـ ولا زال للسعود يحوز
في ولي ببابكم ترك الخل؟ ...؟ق ووافى يجوز أم لا يجوز
كان الشيخ عز الدين بن عبد السلام إذا قرأ عليه الطالب وانتهى يقول اقرأ من الباب الذي تليه ولو سطرًا فإني لا أحب الوقوف على الأبواب.
وللنصير الحمامي بيتان كتبهما إلى السراج الوراق على يد غلام يدعى إبراهيم وهما:
عبدك إبراهيم وافى بهما ... وفي بها معنى لمن يعقل
وهو على الباب ومقصوده ... وفيك فهم أنه يدخل
الباب السادس
في الخادم والدهليز
كان يقال أن الخصيان ملكية بني آدم وقيل لأبي العيناء لم اتخذت غلامين أسودين خصيين، قال لئلا اتهم بهما ولا يتهما بي.
وعرض على بعض الملوك غلام صبي خصي فقال هذا يصلح للفراش وللهراش.
وكان بعضهم يتخذ الخدام الخصيان ويختار منهم البيض الحسان، فقبل له في ذلك، فقال لأنهم بالنهار فوارس وبالليل عرائس، وفيهم يقول:
ونساء لمستريح مقيم ... ورجال إن كانت الأسفار
وفيهم يقول محمد الخلوع القاهر:
مبرءون من الشعر الكريه ومن ... حمل الأيور وإخراج المناتين
وهم نساء إذا حاولت خلوتهم ... وهم رجال لدى الهيجاء يحموني
وما أحسن قول الصابي في غلام أسود (مولده سنة عشرين وثلاثمائة، ووفاته سنة ثمانين وثلاثمائة):
لك وجه كأن يمناي خط؟ ...؟ته بلفظ يمله آمالي
فيه معنى من البدور ولكن ... نفضت صبغها عليه الليالي
وقال الزين بن جبريل المصري:
وخادم قد حباه القلب حبته ... حباله وكسته صبغها المقل
كأن ما هو في خد الجمال لمن ... يراه خال وفي أجفانه كحل
وقال ابن الجوزي في كتاب الأذكياء: قال أبو أحمد عبد الله بن عمر الحارثي اجتزت ببغداد وأنا أحدث جماعة من مجان أصحاب الحديث وإذا بخادم خصي جالس على الطريق وبين يديه أدوية ومكاحل ومباضع وعلى رأسه مظلة خرق، فسألت عنه فقيل طبيب حاذق وهو من عجائب بغداد فتقدم إليه شخص من الجماعة وتغاشى وتماوت وتمارض وقال يا أستاذ يا أستاذ دفعات، فقال أي شيء بكى إيش أصابكي قولي لا شفاك الله، فقال أجد ظلمة في أحشائي ومغصًا في أطراف شعري وما آكله اليوم يصبح غدًا مثل الجيفة فصف لي دواء فقال وكأنه أعد الجواب أما ما تجد من المغص في أطراف شعرك فاحلقي لحيتك ورأسك جميعًا، وأما ظلمة أحشائك فعلقي على باب حجرك قنديلًا، وأما الثالث فكلي خراكي.
ولإبراهيم المعمار في خادم هندي:
تملك قلبي خادم قد هويته ... من الهند معسول اللما أهيف القد
أقول لصحبي حين يرنوا بلحظه ... خذوا حذركم قد سل صارمه الهندي
وقال:
وخادم يعلو على عشاقه ... برتبة من الجمال نالها
واسمه وهو العجيب محسن ... وكم دموع في الهوى أسالها
ولقد أجاد من قال:
1 / 11
إن لمعت ليلًا نجوم السما ... بيضا على أدهم مرخي الإزار
وأوجب العكس مثالًا لها ... في الأرض فالسود نجوم النهار
نادرة: قيل أن بعض أولاد الملوك كان يعشق خادمًا يسمى دينارًا وكان من أوحش ما يبكون فاتفق أن أجري عند ذكر مغن جميل، فقال بلغني أن فلسه أسود، فقال له بعض الحاضرين والله يا مولانا فلسه خير من دينارك فأخجله.
ومن ظريف ألقاب الخدام ما لقبه سيدي المقر المجدي فضل الله بن مكانس أحسن اللله له العاقبة لخدمه وهم: إشراق الدين هلال، ونظام الدين لؤلؤ، وسيف الدين فولاذ.
وأنشدني من لفظه لنفسه إجازة سيدنا ومولانا أقضى القضاة بد الدين مجد بن أبي بكر بن عمر المخزومي المالكي أدام الله أيامه ونقلتها من خطه:
علقته خادمًا لطيفًا ... لم أصغ فيه إلى الملامه
إليه قلبي انثنى وطرفي ... مذ لاح بين الأنام شامه
وللشيخ جمال الدين بن نباتة في خادم اسمه كافو:
يا لائمي في خادم لي سيد ... قسمًا لقد زدن السلو نفورا
ولقد أدرت على المسامع قهوة ... في الحب كان مزاجها كافورا
إبراهيم المعمار:
وخادم قبلت مشروطه ... في خده لكن رأيت العجب
من ناعم حلو فناديته ... ما أنت يا مشروط إلا رطب
وقال ابن نباتة أيضًا:
بروحي مشروط على الخد أسمر ... دنا ووفا بعد التجنب والسخط
وقال على اللثم اشترطنا فلا تزد ... فقبلته ألفا على ذلك الشرط
وقال: أرى لصواب يا أيري صفات ... تحث على الخلاعة والتصابي
فبادرة فأنت خبير ... ومثلك لا يدل على صواب
وقال صلاح الدين الصفدي فيه:
إذا ما قام أيرك في الياجي ... وعندك من تحب فلا تحابي
وقم نحو الطواشي واعتنقه ... ومثلك لا يدل على صواب
وقال الشيخ زين الدين بن الوردي:
أأخشى من الأعداء والله ناصري ... بخدام حظ إن دعوت أجابوا
فقلبي مسرور وسعدي مقبل ... وحزبي ناصر والمقال صواب
قلت: وإذا ذكرنا ما ورد في مدحهم فلا بأس بإيراد نبذة من غيره.
1 / 12
قال الجاحظ (توفي سنة خمس وخمسين ومائتين وقد نيف على التسعين سنة) ضيق الصدور وشدة النفور وطول الأعمار وقلة الاصطبار وكبر الأقدام واضطراب الأجسام وإنكار الحرمة وقلة الرحمة وسرعة الدمعة وابتغاء السمعة وطحن المعدة ولطف القيادة واسترخاء السرح وقلة الجرح وسوء الخلق وكثرة الحرق وشدة الحسد وانقطاع الولد والمشي بالتمائم والنظر إلى المحارم وتربية البغول والبغض للفحول خلاف النساء والرجال لا يجوز به الاستحلال مهلوس عبوس غايته طرسوس مؤاجر في صغره قواد في كبره إن ركب ركض وإن مشى مرض مختلف الرأي والعقل متخلق بأخلاق البغل إن لا ينته جمح وإن خاشنته رمح وإن أجعته طمح وإن أشبعته سلح يبول في فراشه إذا عمل النبيذ في مشاشه، إن حرد كفر وإن قدر قهر مختون على غير ملة حاذق بالهريسة والأخلة، إن غضب بكى وإن رضى شكى وإن هزل انطوى وإن سمن التوى معدن للمطائر ألوف للعجائز إن ائتمنته خانك وإن أكرمته هانك وإن أهنته أكرمك وإن أغضبته شتمك صاحب صوارات وجلاهق وحمام وبنادق حاص دجاج وفراريج وطير ما ورد أريج إن أمسكته خسرت وإن بعته ربحت وإن طردته وقفت وإن قتلته أجرت، صالحهم مأبون وطالحهم ملعون، شره عتيد وخيره بعيد معروف موصوف بالجلف مسترخي البدن طويل الحزن بين الموق بادي العروق يأتي العرقوب كثير العيوب طويل الذراع كثير النخاع مسلوب زينة اللحى محروم لذة النساء يتزوج بالأبكار ويهتك بالأستار، يابس المصانع عاري الأشاجع شديد النفاق قليل الإنصاف بين النفاق كثير البقباق شره عند الطعام سفيه هلى الأقوام فقير ذز مال وحيد ذو عيال شرس حسود حرون جحود بعيد الحياء بارد اللقاء يتلقاك بالبكاء، إن قلت نعم قال لا وإن قلت لا قال بلى إن منع فمن حمق وإن أعطى فمن حرق، جريء جبان طويل الأحزوان مظلوم القلفة خالي المعرفة أقلف مختون خائن مأبون ترضيه اللقمة ويخدع بالطعمة أكثر الناس غلمه وأقوده في الظلمة وأحذفه بالإجازة وأعرفه لجاره وأعمله لمزماره وأنحته لمصايد الفار وأبيعه للتكلك وأصيده للسمك، إذا أمن ملعقته غرزها في منطقته مأواه الدهليز وخبزه على الإفريز لهج بالقمار عليه سوء الدمار من قلة مروءته يدخل الفحل على امرأته ويجمع لها بكده وينفقه على ضده لا بد له فيها من شريك فهو مغرم وغيره ينيك يستر عورته عن الأنام ويبدي سوأته للطعام يقطع الصلاة ويمنع الزكاة بيعه الزمارات ونعته في الصورات، يأكل بشدقين، وينفق بيدين فضله محبوس ودعاؤه منكوس.
وقال الجاحظ أيضًا كان من ظريف ما يقص القاضي عبد الأعلى قوله في الخصي إذا قطعت خصيته قويت شهوته وسخنت مقعدته ولانت جلدته وانجردت شعرته وكثرت غلمته واتسعت فقحته وغزرت دمعته.
وقال غيره من جب زبه ذهب لبه.
وفي ذلك قول أبي الطيب المتنبي (ومولده سنة ثلاث وثلاثمائة، ووفاته أربع وخمسين وثلاثمائة):
وقد كنت أحسب قطع الخصي ... بأن الرءوس مقر النهى
فلما نظرت إلى عقله ... وجدت النهى كلها في الخصى
ونقلت من خط الوزير العلامة المفتن فخر الدين بن مكانس سامحه الله تعالى أنه قال: سافرت مرة سنة إحدى وستين وسبعمائة مع الصاحب فخر الدين بن قروينة رحمه الله تعالى، إلى دمشق المحروسة عندما تولى نظر مملكها ووالدي ﵀، استيفاء بها وكان له دوادار يسمى صبيح ويلقب جودر من عتقاء جده الوزير أمين الدين بن الغنائم وكان كثير النوادر لطيف الدقات، فاتفق أن جمال الدين ابن الرهاوي موقع الوزارة ركب يومًا فتقنطر به الفرس وداسه على رأس أحليله فحمل إلى داره وأقام أيامًا إلى أن عوفي وحضر مجلس الوزارة وهو غاص بالناس، فقال له الصاحب فخر الدين ما سبب تأخيرك قال له تقنطرني الفرس وداس رأس إحليلي فكدت أموت والآن قد لطف الله تعالى وحصل البرء والشفاء فقال له صبيح جودر الحمد لله على سلامة الخصى فانقلب المجس ضحكًا وخجل ابن الرهاوي وانصرف.
عود إلى ما كنا فيه: وصف الجماز رجلًا بالرعونة فقال: هو كالخصي يفتخر بزبه مولاه.
قال كشجام في خادم اسود جائر:
يا مشبهًا في فعله لونه ... لم تعد ما أوجبت للقسمة
فعلك من لونك مستخرج ... والظلم مشتق من الظلمة
وقال آخر وأجاد:
جزا مذاكره بحق واجب ... إذا عندهم علم بخسة أصله
1 / 13
لو أنهم تركوه يبقى سالمًا ... ملأ البلاد أرذالًا من نسله
وقال بعضهم واصاب:
إن عاينت عيناك ظبيًا سانحًا ... مع خادم يرعاه وهو شرود
فاقنصه لطفًا بالزمام ولا تخف ... منه نفورًا فالزمام يقود
نادرة: قيل أن بعض أولاد الملوك كان يعشق خادمًا يسمى دينارًا وكان من أوحش ما يبكون فاتفق أن أجري عند ذكر مغن جميل، فقال بلغني أن فلسه أسود، فقال له بعض الحاضرين والله يا مولانا فلسه خير من دينارك فأخجله.
ناردة قيل أن بعض الرؤساء كان له خادم وعبد فدخل يومًا وجد العبد فوق الخادم فضربه وخرج فرأى بعض أصدقائه فسأله عن عيظه، فقال هذا العبد النجس فعل بالخويدم الصغير فقال له مولانا السيد الكبير فخجل منه وأخرجها من مجانه.
وما أظرف من قال مواليًا:
ستي الكبيرة لها الخدام والحشمة ... تحلف على النيك بالمصحف وبالختمة
... جاها الطواشي أفحشت لو نال من كلمة ... راحت يمين القواقية على قرمة وقال ابن إبراهيم المعمار:
وإن من الخدام من ليس يرتجى ... مكارمه فالبعد منهم غنائم
فلا تك ممن يتهمهم لحشمة ... فليس لهم بين الرجال محاشم
أهدى بعض عمال مروان بن محمد الجعدي الأموي لمروان عبدًا أسود فقال لكاتبه عبد الحميد اكتب إلى هذا العامل كتابًا مختصرًا وذمه على ما فعل، فكتب إليه لو وجدت لونًا أشر من السواد وعدد أقل من الواحد لأهديته والسلام.
ومن أحسن ما ورد في ذم السواد لا يحرم فيه محرم ولا يكفن فيه ولا تجلى فيه عروس.
وما أظرف قول الشيخ جمال الدين بن نباتة:
كان لي عبد يسمى فرجا ... نصب الغير عليه الشبكا
فأنا الآن كما تبصرني ... ليس عندي فرج إلا البكا
القول في الدهليز بكسر الدار فارسي معرب، والجمع الدهاليز وهو بين الباب والدار وأحسن ما فيه:
ودهليز دار فيه للعين بهجة ... وللنفس فيه لذاذة أوطار
إذا داخل لم يعتبر ما وراءه ... توهمه من حسنه أنه الدار
وقال يحيى بن خالد ينبغي للإنسان أن يتأنق في دهليزه لأنه وجه الدار ومنزل الضيف وجلس الصديق حتى يؤذن له وموضع المعلم ومقيل الخدام ومنتهى حد المستأذن.
وقال بعضهم: إذا كمل للإنسان في داره حسن ثلاثة مواضع لم يبال بما فاته وذكر من جملتها الدهليز.
وللشيخ برهان الدين القيراطي فيه:
أكرم بدهليز سما ... فإذا الكواكب من رفاقه
دهليز مولى سعده ... ما زال يخدم في وطاقه
قلت: من كان له عبد واسمع سعد ففي غاية الحسن.
وقال الشيخ شهاب الدين ابن أبي حجلة بيتين وفيهما ما فيهما:
دار ببدرا الدين أشرق نورها ... فبياضها من نوره مجبول
دهليزها حلو البنا يبدو لنا ... طعمية في بابه ودخول
الباب السابع
في البركة والفوارة والدواليب وما فيهن من كلام وجيز
البركة هي الموضوع المبني لاجتماع الماء ويسمى أيضًا الصهريج بكسر الصاد وهو اسم مشتق من الصهروح الذي تبنى به، والصهروج الكاس نفسه يقال: بركة مصهرجة إذا كانت مبنية بالصهروج، وقال الجوهري البركة كالحوض والجمع برك ويقال سميت بذلك لإقامة الماء فيها.
حكى الأدييب أبو الربيع سليمان بن إسماعيل بن أبي الليث المسيحي قال جمعنا مجلس أنس مع الأديب أبي إسحاق إبراهيم بن أبي الثناء المسيحي بالفيوم وكنا في بستان فيه بركة عليه فوارة من الماء فتجاذبنا أهداب وصفها فقال أبو إسحاق:
بركة يصعد الأنابيب منها ... يقعد الماء فوقها ويقوم
فلدا أطلعت فواقع تبدوا ... كالقوارير من زجاج تعوم
وكأن السماء صفحتها الزر ... قاء والياسمين فيها نجوم
قال وقلت أنا:
وبركة تذهل العقول لها ... تحار في حسن وصفها الفكر
كأنها مقلة محدقة ... عبرا من الوجد نالها السهر
تبكي وما فارقت لها وطنًا ... يومًا ولا فات أهلها وطر
تخال أنبوبها لصحته ... والماء يعلو به وينحدر
كصولجان فضة سبكت ... فواقع الماء تحتها أكر
قال الشيخ صفي الدين الحلبي (وتوفي سنة خمسين وسبعمائة):
والريح تجري رخاء فوق بحرتها ... وماؤها مطلق في زي مأسور
1 / 14
قد جمعت جمع تصحيح جوانبها ... والماء يجمع فيها جمع تكسير
ولقد أجاد ابن طباطبا في قوله (ومولده سنة ست وثمانين ومائتين ووفاته سنة ثمان وأربعين وثلاثمائة):
كم ليلة ساهرت أنجمها التي ... عرصات أرض ماؤها كسمائها
قد سيرت فيها النجوم كأنما ... فلك السماء يدور في ارجائها
أحسن بها بحرًا إذا التبس الدجى ... كانت نجوم الليل في حصبائها
ترنو إلى الجوزاء وهي عريقة ... تبغي النجاة ولات حين نجاتها
تطفو وترسب في اصطفاق مياهها ... لا مستعان لها سوى أنمائها
والبدر يخفق وسطها فكأنه ... قلب لها قد ربع في أحشائها
ولا مزيد من الحسن على قول عبد الجبار بن حمد يس الصقلي يصف دوحة وأسودًا ترى بالماء (توفي المذكور سنة تسع وعشرين وخمسمائة):
وضواغم سكنت عرين رياسة ... تركت خرير الماء فيه زئيرا
فكأنما غشى النضار جسومها ... وأذاب في أفواهها البلورا
أسد كأن سكونها متحرك ... في النفس لوجدت هناك مثيرا
وتذكرت قناتها فكأنما أقعت على أذنابها للشورى
وتخالها والشمس تجلو لونها ... نارًا وألسنها اللواحس نورا
فكأنما سلت سيوف جداول ... ذابت بلا نار فعدن غديرا
وكأنما نسج النسيم لمائه ... ردعا فقدر سرده تقديرا
وبديعة الثمرات تعبر نحوها ... عيناك بحر عجائب مسجورا
شجرية ذهبية شرعت إلى ... شجر يؤثر في النهي تأثيرا
قد صولحت أغصانها فكأنما ... قبضت بهن من الفضاء طيورا
وكأنما يأتي لوقع طيرها ... أن تستقل بنهضها وتطيرا
من كل ووقفة ترى منقارها ... ماء كسلسال اللجين نميرا
خرس يقلن من الفصاح فإن شدت ... جعلت تغرد بالمياه صفيرا
وكأنما في كل غصن فضة ... لانت فأرسل خيطها مجرورا
وتريك في الصهريج موقع قطرها ... فوق الزبرجد لؤلؤًا منثورا
وقال القاضي شهاب الدين بن فضل الله (مولده سنة سبعمائة، ووفاته سنة تسع وأربعين وسبعمائة) في ترجمة مجير الدين بن تميم (ووفاته سنة إحدى وثمانين وستمائة) وحكى: أنه جلس على بحيرة أشرقت سماؤها وطاف بكعبة المجلس ماؤها والشمس قد توسطت الظهيرة وأرخت ذوائب أشعتها الظفيرة واللجة قد نصبت في كل ناحية حباله وتناومت عينها فما رأت من الشيء إلا خياله والماء قد لبس من شعاع الشمس الغلاة وغابت سباع البركة فلعبت الغزالة فقال:
ولما احتمت منا الغزالة بالسما ... وعز على قناصها أن ينالها
نصبنا شباك الماء في الأرض حيلة ... عليها فلم نقدر فصدنا خيالها
وذكر هذه الترجمة في كتابه مسالك الأمصار من كلام علي بن طافر العسقلاني قال: جلسنا على بركى ألقى عليها ورد أحمر ملأبكثرة نجومهع فسحة سمائها وصبغ بحمرة شعاعه صفحة مائها وأهدى زمردة إلى مقلتها الزرقاء فصح سرورنا بدائها.
وقال المذكور في كتابه بدائع البداية أخبرني القاضي الأعز بن المؤيد رحمهما الله تعالى قال اجتمعت مع جماعة من أدباء الاسكندرية في بستان لبعض أهلها فحللنا روضًا تثنت قامات أشجاره وتغنت قيان أطياره وبين أيدينا بركة ماء كجو سماء فنثر عليه بعض الحاضرين ياسمينًا زان سمائها بزواهر منيرة وأهدى إلى لجتها جواهر نثيرة فتعاطينا القول في تشبيهه وأطرق كل منا لتحريك خاطره وتنبيهه ثم أظهرنا ما حررنا ونشرنا ما حبرنا فأنشد عباس بن ظريف:
نثر الياسمين لما جنوه ... عبثًا فاستقر فوق الماء
فحسبنا زهر الكواكب تحكي ... زهر الأرض في أديم السماء
قال والذي صنعته أنا:
نثروا الياسمين في صفحة الماء ... فخلنا النجوم وسط الماء
فكأن السماء في باطن الأر ... ض أو الدر طف فوق الماء
وقال مجير الدين بن تميم في مليح يشرب من بركة:
أقدي الذي أهوى بفيه شاربًاَ ... من بركة رقت وطابت مشرعا
أبدت لعيني وجهه وخياله ... فأرتني القمرين في وقت معا
نادرة:
1 / 15
اكترى نحوي حمالًا ليحمل له زيرًا فلما وصل إلى البيت وفيه بركة قال له النحوي اقفزن، فقفز فوقع فانكسر الزير، فقال ما هذا؟ قال جانب البركة ساكن والنون في اقفزن ساكنة فتحرك الزير بينهما بالكسر، فقال أحسنت ما أنت إلا عالم بيض الله وجهك.
وقال الشريف العقيلي:
وبركة قد افادنا عجبًا ... ما ماج من مائها وما انسكبا
من حول فوارة مركبة ... قد انحنى ظهر مائها تعبا
وقال شمس الدين الطيب أحمد بن أبي المحاسن (مولده ببخارى سنة تسع وأربعين وستمائة ووفاته سنة سبع عشرة وسبعمائة بطرابلس):
النهر وافى شاهرًا سيفه ... ولمعه يختلس الأعينا
فماجت البركة من خوفه ... وارتعدت وادرعت جوشنا
وقال مجير الدين ابن تميم مضمنًا:
لو كنت إذ أبصرتها فوارة ... للشمس من أمواجها لألاء
رأيت أعجب ما يرى من بركة ... سال النضار بها وقام الماء
وله مضمنًا:
لقد نزهت عيني أنابيب بركة ... تقابلني أمواجها بالعجائب
أنابيب زادت في علو كأنما ... تحاول ثأرًا عند بعض الكواكب
وله:
يا حسن نوفرة بدت في بركة ... أبدًا يفيض الماء فيها ديدنا
ما إن بدت إلا وظللت مفكرًا ... في قدنوفر راح ينبت سوسنا
وقال الوجيه المناوي:
فوارة تشبه في شكلها ... سبيكة من فضة خالصه
تلهيك بالحسن فقد أصبحت ... جارية ملهية راقصة
وقد عكس بعضهم هذا فقال:
وقينة ملهية قد غدت ... تستوقف السامع والرائي
جارية راقصة أشبهت ... في وصفها فوارة الماء
وقال ابن حجاج (توفي سنة إحدىوتسعين وثلاثمائة):
صنعت في دارك فوارة ... أغرقت في الرض بها الأنجما
فاض على نجم السهى ماؤها ... فأصبحت أرضت تسقي السما
وقال ابن تميم في بركة بشاذروان:
ألا رب يوم قد تقضي ببركة ... اقمت بها فيما جرى متحيرا
بعيني رأيت الماء فيها وقد جرى ... على رأسه من ساهق فتكسرا
وقال الشيخ برهان الدين القيراطي:
مذهب شاذرواننا ال؟ ...؟عالي المقام والرتب
نال الغنى الماء به ... حين مشى على الذهب
وقال فيه:
لحسن شاذرواننا ... كل القلوب تعشق
من أجل ذا الماء له ... قلب به معلق
ومن كملام سيدي تقي الدين أبي بكر بن حجة في الفوارة كأنها سنان تطعن في صدر الظما، أو شجرة كدنا أنها طوبى لما ظهرت وأصلها ثابت وفرعها في السما، أو معترف بندا الماء وقد أفاض عليه عطاياه فيضا فرفع له لأجل ذلك فوق قناته راية بيضاء، أو عمود وفاء أشارت الناسي إليه بالأصابع أو ملك طالب السماء بودائع حتى قلنا إن إكليل الجوزاء له من جملة الودائع، أو أبيض طائرًا علا حتى قلنا أنه يلتقط حباب النجوم الثواقب، أو شجاع ذو همة عالية تحاول ثأرًا عند بعض الكواكب.
وقال شهاب الدين بن أبي حجلة:
وشاذروان ماء بات يجري ... كعين الصب روع يوم بين
إذا ما قيل جد بالماء سريعا ... يقول نعم على رأسي وعيني
وقال شيخنا الشيخ زين الدين بن العجمي (توفي سنة خمس وتسعين وسبعمائة):
تسلسل مائي وهو لا شك مطلق ... وصح حقيقاحين قالوا تكسرا
وفي قلب مائي للقلوب مسرة ... وقالوا سيجري بالهنا وكذا جرا
قلت: وقد تصرفت الفضلاء متأخر والعصر في هذه اللفظة أعنى وكذا جرى تصرفات حسنة فمنهم القاضي صلاح الدين الصفدي فقال:
أملت أن تتعطفوا بوصالكم ... فرأيت من هجرانكم ما لا يرى
وعلمت يوم فراقكم لا بد أن ... يجري له دمعي دمًا كذا جرى
ومنهم الشيخ عز الدين الموصلي فقال:
رب نسيم قد سرى ... يحدو سحابا ممطرا
أذياله بليلة ... تخبرنا بما جرى
وقال أيضًا:
حديث عذار الحب في خده جرى ... كمسك على الورد الجنى تسطرا
فقبلته حتى محوت رسومه ... كأن لم يكن ذاك الحديث ولا جرى
وقال الشيخ برهان الدين القيراطي:
لم يبك حين بكيت من ... هجرانه متحسرا
لكن حكى لك خده ال؟ ...؟مصقول صورة ما جرى
وقال:
كابرت عدل صبوتي ... في الدمع حين تحدرا
قالوا بكيت صبابة ... فأجبت هذا ما جرى
1 / 16
وأنشدني سيدي وأخي تقي الدين أبي بكر بن حجة ابقاه الله تعالى لبعض المغاربة:
وتحدث الماء الزلال مع الحصا ... فجرى النسيم عليه يسمع ما جرى
فكأن فوق الماء شيئًا ظاهرًا ... وكأن تحت الماء دارًا مضمرا
رجوع إلى ما كنا فيه قال ابن الظافر العسقلاني في كتابه بدائع البدائه: مررنا في بعض العشايا على بعض البساتين المجاورة لنهر النيل فرأينا بئرًا عليها دولابان متحاذيان قد دارت أفلاكهما بنجوم القواديس ولعبت بقلوب ناظريهما لعب الأماني بالمفاليس وهما يئنان أنين أهل الشواق ويفيضان دمعًا أغزر من دموع العشاق، والروض قد جلا للأعين زبرجده والأصيل قد راق حسنه فنثر عليه عسجده والزهر قد نظم جواهره في أجياد الغصون والسواقي قد أدلت من سلاسل فضتها كل مصون، والنبت قد اخضر شاربه وعارضه وطرف النسيم قد ركضه في ميادين الزهر راكضة ورضاب الماء قد قد علاه في الظل ألمى وحيات المجاري حائرة تخاف أن يدركها من زمرد البنان العمى، والبحر قد صقل صقيل النسيم درعه وزعفران العشي قد ألقي في ذيل السماء ردعه فاستحوذ علينا ذلك الموضع استحواذًا وملأ أبصارنا وقلوبنا التذاذًا وملنا إلى الدولابين شاكين أرمزا حين شجت قيان الطير بألحانها أم شدت على عيدانها أم ذكرا أيام نعما وطابا وكانا أغصانًا رطابا فنفيا لذيذ الهجوع ورجعا النوع وأفاضا الدموع طلبًا للرجوع.
وقال مجير الدين بن تميم مضمنًا:
ودولاب روض كان من قبل أغصنا ... تميس فلما فرقتها يد الدهر
تذكر عهدًا بالرياض فكله ... عيون على ايام عهد الصبا تجري
وقال:
تأمل تر الدولاب والنهر إذ جريا ... ودمعهما بين الرياض غزير
كأن النسيم الرطب قد ضاع منهمافأصبح ذا يجري وذاك يدور
وقال بدر الدين يوسف بن لؤلؤ الذهبي (توفي سنة ثمانين وستمائة):
وروضة دولابها ... إلى الغصون قد شكا
في حين ضاع زهرها ... دار عليه وبكى
واستعمل هذا المعنى صلاح الدين الصفدي في غير الدولاب فقال:
أضحى يقول عذاره ... هل فيكم لي عاذر
الورد ضاع نجده ... وأنا عليه دائر
وقال الشيخ جمال الدين محمد بن محمد بن نباتة:
أعجب لها ناعورة وقلبها ... للماء منشي العيش والعشب
تعبانة الجسم لكنها ... كما ترى طيبة القلب
وقال سعد الدين بن عربي (ومولده سنة ست وخمسين وخمسمائة، ووفاته سنة اثنتين وستمائة):
شاهدت دولابًا له أدمع ... تكلفت للروض بالريّ
فأعجب له من فلك دائر ... ما فيه برج غير ماءي
ولآخر:
ابدى لنا الدولاب قولًا معجبا ... لما رآنا قادمين إليه
إني من العجب العجيب كما ترى ... قلبي معي وأنا أدور عليه
قال أبو حنيفة الدينوري الدولاب بضم الدال وفتحها كذا سمعته من فصحاء العرب.
ولآخر:
لله أزهار دوح بات يضحكها ... صوت الغمام بدمع منه منسفك
حكت نجوم السما أزهارها فكاذ ... أضحى يدور بها الدولاب كالفلك
وقال ابن نباتة:
وناعورة قالت وقد ضاع قلبها ... وأضلعها كادت تعد من المسقم
أدور على قلبي فإني فقدته ... وأما دموعي فهي تجري على جسمي
ولآخر:
وذات شجو أسالت ... مدامعًا لم تصنها
تبكي بفرط دموع ... وتضحك الروض منها
ولآخر:
أشبه ما بين القواديس صوتها ... ومن كل وجه ماؤها يتحدر
بأرملة ضمت إليها بناتها ... تنوح بشجو المدامع تقطر
ولآخر:
وناعورة قد ضاعفت بنواحها ... نواحي وأجرت مقلتاي دموعها
وقد ضعفت مما تانَّ فقد غدت ... من الضعف والشكوى تعد ضلوعها
سأل الشيخ نجم الدين القحقيري جماعة من الطلبة المشتغلة عليه عن قول الشاعر (ومولده سنة ثمان وستين وستمائة، ووفاته سنة أربع وأربعين وسبعمائة):
يأيها الحبر الذي ... علم العروض به امتزج
ابن لنا دايرة ... فيها بسيط وهزج
ففكر بعض الطلبة ساعة طويلة ثم قال هذا في الساقية لأنه أراد بالبسيط الماء والهزج صوت الساقية حال دورانها، فقال له الشيخ: ألا إنك درت فيها زمانًا حتى ظهرت لك وهذا الكلام في غاية الطرافة من الشيخ رحمه الله تعالى وقال ابن تميم:
1 / 17
وناعورة قد ألبستها حبالها ... من الشمس ثوبًاَ فورق أوراقها الخضر
كطاوس بستان يدور وينجلي ... وينفض عن أرياشه بلل القطر
وله:
ايدت لنا بالعذر ناعورة ... أدمعها في غاية السكب
تقول لما غاب قلبي ... وقد ضعفت بالنوح وبالندب
صيرت جسمي كله أعينا ... تدور في الماء على قلبي
وقال الشيخ زين الدين بن الوردي:
ناعورة مذعورة ... للبين ثكلى حائرة
الماء فوق كتفها ... وهي عليه دائرة
وله:
حالة الدولاب دلت ... أنه في فرط حزن
كان يسقي ويغني ... صار يسقى ويغني
وقال مؤلف الكتاب في مرثيته التي رثى بها دمشق وغيرها عند حلول الواقعة المشهورة من التتار:
أعروسنا لك أسوة بحماتنا ... في ذا المصاب فأنتما أختان
غابت بدور الحسن عن هالالتها ... فاستبدلت من عزها بهوان
ناحت نواعير الرياض لفقدهم ... فكأنها الأفلاك في الدوران
وقال ابن تميم:
أيا حسنها من روضة ضاع نشرها ... فنادت عليه من الرياض طيور
ودولابها كادت تذوب ضلوعه ... لكثرة ما يبكي بها ويدور
وقال جمال الدين بن نباتة:
وناعورة قسمت حسنها ... على واصف وعلى سامع
وقد ضاع نشر الربا فاغتدت ... تدور وتبكي على الضائع
وقال مؤلفه ارتجالًا جسيمًا اقترح عليه والحالة كذا:
كأن البحر إذ يزهو صفاه ... ونور البدر يشرق والسواقي
دموعي ثم وجهك يا حبيبي ... وقلبي إذ شكا ألم الفراق
قلت ومن المداعبات اللطيفة ما كتب به المرحوم القاضي فخر الدين بن مكانس إلى الشيخ بدر الدين البشتكي سلمه الله تعالى (ومولده سنة ثمان وأربعين وسبعمائة) وقد دار قي ساقية الهمائل وهو:
دورة الابدر في سواقي الهمائل ... تركت أدمع العيون هوامل
آه من للرياض نور أديب ... مظهر من كلامه سحر بابل
فاق سعيًا على بني عجل في ال؟ ...؟جود وأغنى عن الولي الهاطل
زاد علمًا على أبي ثور لكن ... قال بالدور ماؤه والسلاسل
قد أعاد الجناس حسن نوار ... واتته ثورية فهو كامل
يا سعيد أثرى من النظم والنث؟ ...؟ر فأنسى الورى زمان الفاضل
قد سقيت الرياض يا شيخ بالدو ... ر فها غصنها من السكر مائل
لم تدع من نباتة لم تجدها ... أنها بالثنا عليك تواصل
وابن قادوس كان طالع في خد ... متك اليوم بالأوامر نازل
وغدا بالظلال كل أديب ... في هجير الرمضاء بفضلك قائل
وبروحي عيون نرجس روض ... يغزل الحسن بالندا ويغازل
أنت شنفتها بشعرك زهرًا ... وبعثت المياه فيها خلاخل
كم غضون أينعتها فعليها ... هاج الطير والمحب بلابل
أنت في الحالتين تصريفك الأح؟ ...؟رف أو كيمياء ذهنك واصل
أنت لو لم تكن بحار علوم ... ما جرت في الرياض منك جداول
كنت عندي أجلى قدرًا وقد در ... ت في الثور للوجود الحامل
وغدا قس بين لفظك والرو_ض على الحالتين عندك باقل
أنت يا بدر فقت بلدر الدياجي ... فلهذا تبدو وذاك آفل
يا خليًا أبثه الشجو إن لم ... يك عني كدمع عيني سائل
والأديب المحب يشكو هواه ... للأديب المحب عند النوازل
أنا مغرى بحب أحور اللمى ... نافثي يزري بغصن الخمائل
من بني الترك قده اللدن واللح؟ ...؟ظ كلا الفاتنين أصبح ذابل
أعين الزهر والغصون تراها ... شاخصات إذا مشى وموائل
لا تقل بي الأعراب تحكم حسنًا ... ما ترى للأعراب هذي العوامل
ماس عجبًا وقصده يقتل الخل؟ ...؟ق دلالًا وللدلال دلائل
لا تلم في عذاره هتك شيبي ... أنا قد بعت آجلي بالعاجل
ولعمري أنت الذكي وكلن ... أنت والله عن غرامي غافل
ولئن كنت عاقلًا إنني من ... صبوتي في الهوى عن العقل عاقل
هاك حالي شرحته فاغنني ... إن تكن يا أخي لهمي حامل
وأطرح غتبها فعيش المحبي؟ ...؟ين محبون والعيش كالظل زائل
دمت يا جامع المحاسن والشم؟ ...؟ل ولا زال غيث فضلك شامل
1 / 18
أنت بدر أم أنت شمس فإنا ... قد رأيناك غرة في الأصائل
وكفيت الحرار يا أشرف القو ... م ومن جوده ينعي ابن باخل
الباب الثامن
في الباذهنج وترتيبه
قال القاضي محي الدين بن عبد الظاهر في باذهنج مطل على البحر
أنا نعمى من ابتهج ... أنعش الروح والمهج
وعن البحر يا نسي؟ ...؟م حدث ولا حرج
وقال ابن سناء الملك (توفي سنة ثمان وستمائة):
وباذهنج علا علاء ... ولكنه قد هوى هواء
دام عليك النسيم فيه ... وكأنه يطلب الشفاء
وقال أبو الحسن عبد الكريم الأنصاري:
ونفحة باذهنج أسكرتنا ... وجدت بروحها برد النعيم
أتينا من أنيق الشكل سمح ... تراه مثل راووق النديم
صفا وجرى الهوى فيه رقيقًا ... فسميناه راووق النسيم
ومما يحسن أن ينشد على لسان الباذهنج قول بعض العرب:
إذا الريح من نحو الحبيب تبسمت ... وجدت لرباها على كبدي بردا
وإني بتهباب النسيم موكل ... طروب وبعض القوم يحسبني
وللشيخ برهان الدين القيراطي:
يا طيب نفحة باذهنج لم يزل ... بهوائه لنفوسنا تنفيس
مغرى بجذب الريح من آفاقها ... فكأنه للريح مغناطيس
وللشيخ شهاب الدين بن أبي حجلة:
وباذهنج لا خلت ... ديارنا من أنسه
كأنه ميتم ... يلقى الهوى بنفسه
وله:
وباذهنج غدا في الجو منظر ... من فوق منظره تبدو على سنن
فانظر فديتك يا محبوب رفعته ... واستنشق الريح من تلقاه يا سكني
وله:
يا باذهنجي كم كذا ... تعلو على بان الحمى
ابديت حمقًا زائدًا ... رفعت رأسك للسما
وله مضمنًا:
ودار حكت قصر السمؤل فاغتدت ... تباهي ببنيان لها وتقول
أرى باذهنجي في الهواء ارتفاعه ... يعز على من راحه ويطول
وله مضمنًا:
يا باذهنجي أما ترثي لذي حرق ... يبدي لهيب الجوى مذبات يخفيها
عودتنا صدقات من لطيف هوى ... فامنن علي بريح منك يجريها
وله مضمنًا:
يا باذهنجي لا برحت من الهوى ... مثلي على حب الديار مولها
داري بحبك دائمًا مشغوفة ... خلقت هواك كما خلقت هوى لها
وله:
وباذهنج تره كغصن بان ترنح ... يهتز عند العطايا لأنه يتريح
وله ملغزًا فيه:
وذي جناح طوله ... أضعاف ما في العرض
ما جار في شرع الهوى ... وحكمه إذ يقضي
ولم يطر مع كونه ... بين السما والأرض
وقال أبو الفتح بن قادوس يهجوه:
لك باذهنج قلب صب له ... نفس يصاعد لوعة الحرق
مات النسيم به فأجمعنا ... نبكي عليه بأدمع العرق
ولصدر الدين بن عبد الحق (توفي تقريبًا سنة ثمانين وسبعمائة):
في الباذهنج لا تنم ... فما لمرضاه دوى
لا يأمن الشخص الذي ... يسرق في الليل الهوى
ولشهاب الدين بن أبي حجلة:
وباذهنج ريحه ... تضرم نيران الجوى
مدحته جهلًا به ... فراح مدحي في الهوى
وله مضمنًا فيه:
هجا الشعراء جهلًا باذهنجي ... لأن نسيمه أبدا عليل
فقال الباذهنج وقد هجوه ... إذا صح الهوى دعهم يقولوا
وقال شهاب الدين السنبلي المالكي (توفي سنة أربع وستين وستمائة):
وباذهنج إذا حر المصيف أتى ... أهدى النسيم وقد رقت حواشيه
مصغ إلى الجو ما ناجاه فحة ... إلا ونم عليه فهو واشيه
وأكثر الناس ولوعًا بالباذهنج القاضي الفاضل فإنه قال من رسالة: إني من مدة سنتين وما قاربهما وهي المدة من تاريخها فرح بهجرة وكرى وعلو سعر شعري قد نظمت مائتين وخمسين ألف بيت من الشعر بشهادة عيانها وحضور ديوانها مثل قولي في باذهنج شديد الحرور كأنما يتنفس نفس مصدور ما يناهز ألف بيت كل مقطوع منها يخرع العقول اختراعه ويعفي المحاسن بديع ابتداعه.
ومثل قولي في رجل طويل الآذان كأنهما في رأسه خفان أو قد عجل له منهما نعلان، ما يقارب ألف بيت تجاوزت بهما وأوريت وما أدخلت منها الشاعر إلى بيت.
ومثل قولي في رثاء الوطن الذي درجت من وكره وخرجت فلم أخرج عن ذكره ما يناهز عشرة آلاف بيت ومثل قولي:
في مدايح منصوصه ... وأهاجي مخصوصه
1 / 19
وللشيخ برهان الدين القيراطي ملغزًا فيه:
أهواءنا المختلفة ... قد أصبحت مؤتلفة
في شامخ بأنفه ... على العوالي أنفه
وذي جناح لم يطر ... ولك طير ألفه
جناحه طول المدى ... يبدي علينا رفرفة
كم من كئيب عاشق ... أهدى له مشرفه
ولا يزال مرسلًا ... لنجوه ملطفه
في الريح ضاع قول من ... على هواه عنفه
عليله الصحيح كم ... شفى قلوبًا دنفة
وروحه لطيفة ... وذاته منحرفة
عن قلبه الدين أرى ... حب الهوى قد صرفه
ولم يكن مع الهوى ... أعطافه منعطفه
هواه تحت طوعه ... كيف يشاء يصرفه
كم عممت غمامة ... هامته المنكشفة
ما زال غير ساكن ... ساكنه مذ ألفه
وكلما لاح له ... من الهواء التقفه
فنى الوليد ذاته ... بذاته مؤتلفه
سكانها سميها ... في الغرب يبدي حيفه
فيه تشتي عصبة ... قد اصبحت مصيفه
ببدر ذو الرشد ولا ... ينسبه إلى السفه
حمدت مع تبذيره ... وبذله تصرفه
وكل ما أسرف في ... بلد شكرنا أسرفه
ونصفه مع جبل ... ملك سطاه متلفه
تصحيف ثلثيه جلت ... فض حديثه الشفة
وثلثه حر فإن بلل ... حرف فدع من حرفه
أنفاسه كم أودعت ... محاسنًا مستلطفة
كم رنحت من غصن ... ذي قامة مهفهفة
معلتة وهو الصح؟ ...؟يح عند من قد عرفه
وثوبه البيض لا ... يزال يبدي صلفه
آخره مصنف ... لعالم قد صنفه
وبيت سلطان غدا ... يصون فيه تحفه
يكنى بسدسي لفظه ... عصابة مستنكفة
وسدسه أرى السما ... والأرض والماء يألفه
فاكشف معمى قلبه ... فمثلكم من كشفه
نهار ذهنكم محى ... من الظلام سدفه
يجري لحل المشكلا ... ت لم يخف توقفه
وبحركم در وما ... صادفت فيه صدفة
وللرقاب قلدت ... هباتك المؤلفة
كل البرايا نكرة ... وأنت فيهم معرفة
وخذ عروسًا شنفت ... مذ جليت مشنفة
زهير لو بان له ... زهر جلاها قطفة
أغشى سناء طرفها ... إذا لاح طرف طرفه
حديقة حاسدها ... يرعد مثل السفعه
الباب التاسع
في النسيم ولطافة هبوبه
وإنما ذكرت النسيم لأنه من لوازم الباذهني، والنسيم الريح الطيبة ونسيم الريح أولها حين تقبل بلين قبل أن تشتد، ومنه الحديث "بعثت في نسيم الساعة" أي حين ابتدأت وأقبلت.
وما أحسن قول بعضهم * نسيم الريح بسيب الروح * قال أبو زكريا يحيى بن علي الخطيب التبريزي الرياح المعروفة أربع: الصبا: وهي تسلي عن الكروب، والجنوب وهي تجمع السحاب، والشمال: وهي تعصره وتفرقه، والدبور، وهي تهدم البنيان وتقلع الشجر وهي المذكورة في القرآن الريح العقيم وريح عاصف وريح صرصر.
وكل موضع جرى فيه ذكر الريح المراد بها الدبور والمراد بها العقوبة، وكل موضع جرى فيها ذكر الرياح في القرآن فإنه يرجع إلى الثلاثة التي تقدم ذكرها فيراد به الرحمة.
وقيل: الرياح ثمان أربع من الجهات الأربع، وأربع تسمى النكب لميلها، وتنكيبها عن الجهات الأربع فالشمال من ناحية الشام وذلك عن يمينك إذا استقبلت قبلة العراق فهبوبها من تحت بنات نعش، ويقابلها الجنوب وهي باردة يابسة صافية من الكدر تشد الأعضاء وتسد المسام وتحصر الحرارة في الباطن فينهضم الغذاء وتصفو بها كدورة الروح الحيواني الذي في القلب من الأبخرة الدخانية وتديم الصحة وتقوي حواس الدماغ وذلك إن وصلت إلى الجسم باعتدال وهي قليلة الهبوب ليلًا؛ لذلك تقول العرب في أحاديثها أن الجنوب قالت للشمال إن لي عليك فضلًا لأنني أسري وأنت لا تسري، فقالت الشمال إن الحرة لا تسري.
وكان المتوكل بيت مال يسميه بيت مال الشمال فكلما هبت شمالًا تصدق بألف درهم وسمع عمر بن الخطاب ﵁ قول سحيم عبد بني الحسحاس:
وهبت شمالًا آخر الليل سحرة ... ولا ثوب إلا درعها وردائيا
فما زال بردي طيبا من نباتها ... إلى الحول حتى أنهج البرد باليا
فقال عمر: إنك مقتول، فاتهم بعد ذلك بامرأة فقتل.
1 / 20