إشارة إلى الديمومة
مكان
إشارة إلى المكان
نظرية أو رأي
مثل أو عبرة أو درس
ومن الخير أن نوضح التقابل في هذين الجدولين بتطبيقه على نموذجين من الدراما الأرسطية والدراما الملحمية على الترتيب. أما النموذج الأول فنستمده من إحدى مسرحيات «شيلر» (1759-1805م) وهي مسرحية «دون كارلوس» التي بدأ بها، كما يقول النقاد ومؤرخو الأدب، المرحلة الكلاسيكية في إنتاجه. وأما النموذج الثاني فهو من خير الأمثلة على المسرح الملحمي بوجه عام ومسرح برشت 1898-1956م بوجه خاص، ونعني بها مسرحية «دائرة الطباشير القوقازية» التي عرضت لحسن الحظ على مسرحنا القومي منذ سنوات قليلة.
وشيلر يسير في بنائه لمسرحيته «دون كارلوس» على الأسلوب الأرسطي؛ فهو يضع الصراع في موضعه من العلاقات الإنسانية المتشابكة بين الناس، ويقيم بناءه على أساس من الأحداث التي يرويها التاريخ. إن الدسائس والمؤامرات هي التي تحدد سير الحدث الدرامي، كما تحدده المصالح المعقدة المتشابكة بين الشخصيات المختلفة بحيث يصل الصراع إلى قمته ثم يميل إلى الحل والنهاية. والنسيج الداخلي للحدث هو الذي يحدد بناء المسرحية. والمشاهد المختلفة تتداخل من ناحية المكان والزمان في بعضها البعض كما تتداخل تروس العجلة. والمكان لا يتغير في المسرحية تغيرا ملحوظا سوى مرة واحدة؛ إذ يدور الفصل الأول في مدينة «إرانخويز» وتدور بقية الفصول في البلاط الملكي في مدريد. غير أننا لا نحس كثيرا بهذا الفارق أو هذا الفراغ الكبير الذي يفصل مكانين بعيدين لأن مسار الحدث الدرامي واتساقه المنطقي يملآن الفراغ ويقللان الشعور به إلى أقصى حد؛ فنحن نرى تصميم الأمير دون كارلوس في المشهد الأخير من الفصل الأول على أن يرجو أباه الملك فيليب الثاني ملك إسبانيا أن يسلمه قياد البلاد الواطئة، كما نراه ينفذ ما صمم عليه في بداية الفصل الثاني. وتتغير الأمكنة في الفصول الثلاثة التالية تغييرات شتى، ولكنها تظل محصورة في نطاق القصر الملكي، كما أن الأحداث التي تتسبب في تغيير الأمكنة تلتحم ببعضها البعض من الناحية الزمنية أو تسير متوازية وتتم في وقت واحد. والمهم أن المتفرج أو القارئ لا يشعر بالفواصل المكانية أو الزمنية لأن تسلسل الأحداث على المسرح تسلسلا منطقيا مترابطا ترابط العلة والمعلول يسد الفراغ ويمد جسرا يتم عليه العبور بينها؛ بحيث نحس أن هناك حدثا مسرحيا متكاملا يندفع إلى الأمام ولا يسمح لشيء أن يوقفه أو يحيد به عن طريقه. هكذا يتركز الحدث بكل مواقفه الدرامية من ناحية المكان والزمان في كل متصل مترابط الحلقات. صحيح أن هناك لحظات توقف في هذا الحدث، كالحكايات التي تروى أو الذكريات أو المونولوجات التي تتحدث بها الشخصيات إلى نفسها أو المناقشات الفكرية، إلا أنها لا توقف الحدث تماما ولا تسمح كما قلت بالخروج عليه. والسبب هو أنها جميعا تدخل في نسيج الحدث العام فلا توقفه ولا تعطله، بل تكون بمثابة محاور أو عوامل دافعة له.
فإذا تأملنا مسرحية دائرة الطباشير القوقازية، وجدنا أنفسنا أمام شكل آخر مما سميناه مسرح الأفكار ووجهات النظر الشاملة أو مسرح الأيديولوجية. فهي تتألف من ثلاثة أقسام مستقلة عن بعضها البعض هي المقدمة وقصة الخادمة جروشا وقصة القاضي أزداك. والقسمان الأخيران تربطهما صلة وثيقة، ويمكن أن نعدهما في الحقيقة مقدمة للوحة الخامسة التي تجمع بينهما وتعرض فيها قصة التقاضي بين المرأتين المتنازعتين على أمومة الطفل.
إن المقدمة تعرض الرأي أو الدرس الذي سنستخلصه من المسرحية. أما المسرحية نفسها فليست إلا المثل المضروب لإثبات هذا الرأي أو الدرس. فها هم جماعة من الفلاحين الروس يعودون بعد الحرب إلى قريتهم التي خربها النازيون وفي نيتهم الاحتفاظ بالوادي الذي كانوا يزرعونه وتعميره من جديد. ويدخلون في حوار مع سكان المزرعة الجماعية المجاورة لهم، الذين يريدون أن يشغلوا ذلك الوادي في مشروع واسع للري. ويفوز هؤلاء بعد مناقشة طريفة مع جيرانهم ويقنعونهم بأن مشروع الري أجدى عليهما معا وأقدر على زيادة خصوبة الوادي وإنتاجه من الفاكهة والمحاصيل. ويحتفل الجميع بهذه النهاية السعيدة التي فض بها النزاع، فيقدم الممثلون الذين اشتركوا في المناقشة مسرحية نعلم أنهم تمرنوا عليها من قبل. ونعلم أيضا أن المسرحية أو التمثيل بمعنى أصح سيقوم على حكاية صينية قديمة عن دائرة الطباشير وأنهم سيستوحون هذه الحكاية ويعرضونها في «صورة مختلفة». وهذا الاختلاف ينصب في الواقع على الهدف الجديد من الحكاية أو الخرافة القديمة لأنه ينفذ منها إلى غرض فكري أو أيديولوجي جديد. وليس الغرض كله إلا وسيلة لإثبات الفكرة التي تقول إن الحقوق الطبيعية ليست هي المقياس في الحكم على الأمور، بل إن المقياس هو الكفاءة والقدرة على استغلال الوادي بأكبر طاقة ممكنة ليعود الخير على الجميع؛ ومن ثم لا يحصل على الوادي إلا من يستطيع أن يبذل أقصى جهد ممكن في استغلاله. وعندما يعرض القسم الرئيسي من المسرحية - وهو دائرة الطباشير - نجد قاضي الشعب «أزداك» لا يحكم للأم الطبيعية بالطفل الذي تخلت عنه في وقت الخطر لانشغالها بمتاعها وملابسها، بل للخادمة الطيبة «جروشا» التي ضحت من أجله ورعته وتعهدته سنوات طويلة. وهكذا يلخص الراوية الحكمة أو العبرة التي تنتهي بها المسرحية وتضم مقدمتها وقسمها الرئيسي هذه الأبيات:
أما أنتم يا من استمعتم،
Halaman tidak diketahui