يبدو أننا أصبحنا الآن في حاجة إلى تحديد معنى الدراما والشروط التي تجعلها ممكنة، ولقد قام بذلك الباحث «بيتر زوندي» في كتابه «نظرية الدراما»، واعتمد على محاضرات هيجل في علم الجمال لينتهي إلى أن الدراما الأرسطية تقوم على العلاقات الموجودة بين الناس، وأنها مكان الاختيار الحر، وأنها أولية مطلقة بمعنى أنها لا تتعلق بشيء يأتي من خارجها، كما أنها تتم في وحدة زمانية مكانية مطلقة، وتقوم على الترابط العلي.
ولو نظرنا إلى الإنتاج الدرامي في أواخر القرن التاسع عشر على ضوء هذه الحقائق لوجدناه يتخلص منها واحدة بعد الأخرى، بعد أن زلزلت الأرض من تحتها نتيجة للرؤية الجديدة والواقع الجديد. فالعزلة والتفكك في العلاقات بين الناس قد حلت محل الترابط الوثيق بينهم، والظروف والضغوط الاجتماعية التي تحدد فعل الإنسان أخذت تخنق اختياره وإرادته الحرة، والرؤية الكونية أو الأيديولوجية الجديدة قد أدخلت الفرد في علاقات جديدة أو - بالأحرى - فرضت عليه العزلة وجردته من كل علاقة خارجة عنه، والعلنية والترابط المنطقي قد تحطما، والمكان والزمان صارت لهما وظيفة جديدة.
وأدت أزمة الدراما الأرسطية أو الكلاسيكية إلى ظهور مجموعة من التجارب الدرامية التي نظر إليها النقاد التقليديون نظرة الشك والارتياب. ولكن هذه التجارب تأكدت اليوم بعد أن شارك فيها كبار الكتاب وأصبحت جزءا لا يتجزأ من رصيد المسرح العالمي. ولذلك بات من الضروري أن ننظر إلى الأشكال الدرامية الجديدة نظرة الجد والاهتمام، لنجد ما يبررها في روح العصر التي كانت استجابة له. وإذا كان المضمون الجديد أو المادة الحديثة كما قال «جوته» قد استلزمت أشكالا درامية غير أرسطية، فقد وجب أن نبحث طبيعة هذا المضمون الجديد وهذه المادة الحديثة. •••
رأينا كيف كانت الدراما عند استرندبرج وبيراندللو في أواخر القرن الماضي وأوائل هذا القرن رد فعل للتغير الاجتماعي والتطور الاقتصادي. ولقد أدى هذا إلى غلبة النزعة العقلانية على الإنسان الحديث وإهمال نزعاته الباطنة أو سد الطريق في وجهها. فلم يكن أمام الفن - والفن الدرامي بوجه خاص - إلا التعبير عن هذا الواقع الجديد أو التنفيس عنه بالإغراق في تصوير العالم الباطن بكل ما يجيش به من اضطرابات وأزمات أو الهجوم على العالم الخارجي - عالم الطبيعة والمجتمع على السواء - الذي تحطم وتفتت ولم يعد من الممكن التمييز فيه بين الواقع والمظهر والحقيقة والقناع.
حاولت الدراما - بعد انحسار موجة المدرسة الطبيعية - أن تقدم على المسرح «صورة للعالم» من خلال العالم الباطن ، كما حاولت أن تكون هذه الصورة وافية وشاملة على قدر الإمكان (على نحو ما حاول استرندبرج على سبيل المثال أن يصور العالم من خلال الحلم في مسرحيته المعروفة بهذا الاسم). وهكذا برزت أهمية وجهين من وجوه الدراما الملحمية في المسرح الحديث، فراحت من ناحية تعالج مواد لها طابع الشمول وتقدم مضامين تعبر عن مواقف كلية ممتدة في المكان والزمان، كما استطاعت - من ناحية أخرى - أن تدخل العالم الباطن في بنائها بكل ما ينطوي عليه هذا العالم من ذكريات وأحلام ورؤى ومفارقات.
هذه الصورة التي حاولت الدراما الملحمية أن تنقلها عن العالم من خلال تصورها للعالم الباطن يمكن أن نصفها بأنها رؤية للكون أو نطلق عليها كلمة «الأيديولوجية» التي شاعت اليوم على الألسنة. والواقع أن عصرنا، سواء شئنا هذا أو لم نشأ، هو عصر الرؤية الشاملة أو عصر الأيديولوجيات. ولقد حاول هيدجر في كتابه «طرق مسدودة» أن يحدد معنى هذه الكلمة التي أصبحت طابع العصر. فالمقصود بالعالم هو وصف الموجود بأكمله، والعالم بهذا المعنى ليس مقصورا على الطبيعة أو الكون، بل يدخل فيه التاريخ كما يدخل فيه علة الوجود ومبدؤه أيا كان تصورنا لعلاقته بالعالم.
وإذا فصورة العالم أو الرؤية الكونية أو الأيديولوجية أو ما شئنا من أسماء تعبر عن وجهات النظر الشاملة التي أصبحت طابع العصر الحديث، وهذه الصورة في الواقع لوحة يقدمها الإنسان عن عالم الموجودات بأكمله، العالم الذي نتصل به ونرتب حياتنا فيه وننظر إليه كنظام قائم أمامنا. فالإنسان الحديث، كما يقول هيدجر، يتصور صورة عن العالم أو عن الموجود. وهو حين يتصور هذه الصورة إنما يضع نفسه فيها أو يعرض نفسه ضمن المشهد الذي يصوره ويتصوره. عالمه إذا قد أصبح هو العالم كما يتصوره هو، لا العالم الذي حاول مثلا الحكيم الإغريقي القديم قبل سقراط أن يتصوره ويفهمه كما هو في ذاته. ووجود العالم مرتبط برأيه فيه، وهو كذلك موضوع أحلامه ومستقبله ومستقبل البشرية التي تعيش فيه. ولذلك أصبحت علاقته بالعالم أو بالموجود في مجموعه هي علاقة رؤية وتصور، وأصبح يتنازع مع غيره من بني الإنسان أو يتفاهم معهم بمقدار قربهم أو بعدهم عن رؤيته وتصوره ووجهة نظره في هذا العالم، كما أصبح تاريخ العالم الحديث هو تاريخ الصراع والشر والحرب وأنهار الدماء التي تفرق بين الرؤى ووجهات النظر والأيديولوجيات، وهو صراع مرير يستخدم الإنسان فيه كل قدراته في العلم والتخطيط والتدمير، بل كذلك في الفن والخلق والإبداع.
إذا صح هذا تفسيرا للعصر الذي نعيش ونتعذب فيه ليل نهار، فمن الطبيعي أن يكون المسرح تعبيرا عنه وأن يصبح بدوره مسرح وجهات النظر الشاملة في الوجود أو مسرح الأيديولوجية (مهما كان من كراهيتنا لهذه الكلمة الأخيرة التي طالما سببت ولا زالت تسبب الكوارث لأبناء الأرض). وطبيعي أيضا أن الدراما الأرسطية يمكن أن تصور وجهات النظر الشاملة كما يمكن أن تصورها الدراما غير الأرسطية. فهي في الدراما الأرسطية تعبير عن ألوان الصراع الفردي الذي يدور بين الناس في علاقاتهم بعضهم ببعض. وهي في الدراما الملحمية تصوير للكون في مجموعه ومحاولة للتعبير عن العالم تعبيرا شاملا يتجاوز حدود العلاقات الفردية ويسمح بالنظرة التاريخية أو بالنظرة المتعالية على التاريخ. والواقع أن الدراما غير الأرسطية قد قدمت هذه الصورة الشاملة للعالم بطريقتين: إما بتصوير موقف كلي تصويرا تاريخيا (كما هو الحال مثلا في مسرحية موت دانتون لبوشنر) أو برسم صورة شاملة للعالم على أساس نموذج مثالي (كما في مسرحية المسرح العالمي الكبير لكالديرون). والنموذج الذي نشاهده كذلك في مسرحيات كالديرون - التي سبق الحديث عنها - يمكن أن يعالج المكان والزمان والمواقف والأحداث كما يشاء وتشاء الصورة التي يريد تقديمها للعالم.
ومسرح الأيديولوجية الذي تعبر عنه تجارب القرن الماضي وأوائل هذا القرن يتصف بصفة أخرى تعكس رؤية الإنسان لهذا العالم كنظام قائم يسعى بكل قواه إلى فهمه والسيطرة عليه، وهي صفة التأثير والتعليم. ويتصل بهذا التأثير والتعليم أو يكرس لخدمتهما عنصر نقابله في المسرح التقليدي كما نقابله في المسرح الملحمي الحديث بوجه خاص، ألا وهو عنصر التأمل والتعليق؛ فالمسرح الملحمي قد جعل المتفرج هو البطل والأنا الملحمية قد أصبحت تفرض نفسها بقوة وتتدخل بين خشبة المسرح وبين القاعة التي يجلس فيها جمهور المشاهدين. ونعني بالأنا الملحمية المغني أو الراوية أو مدير المسرح أو الشخصية التي لا تراقب الأحداث الجارية على الخشبة فحسب، بل تعلق عليها بوجه عام ومطلق، وتحدد مسارها الملحمي، وتتصرف في الزمان والمكان، وتخلق من الشخصيات والأشكال والأحداث ما يعينها على تصوير المثل الذي تريد أن تضربه للمتفرجين بقصد تعليمهم وتوجيههم والتأثير عليهم. هي إذا تقوم بدور الوسيط بين المسرح والجمهور، وهي تتأمل الحدث المسرحي من أعلى وتعلق عليه. وهي لا تكتفي بالتأمل الذاتي بل تتجه أيضا إلى الجمهور لتشركه فيه. وإذا أردنا أن نفهم الوظيفة الملحمية التي يقوم بها الراوية فعلينا أن نرجع إلى ما قاله عنه «جوته» في مقاله الذي سبق أن ذكرناه عن الأدب الملحمي والأدب الدرامي. يقول جوته في وصفه لهذا الراوية المنشد: «إن الراوية الذي يتناول الكل ويقتصر على حكاية الماضي وحده يظهر في صورة رجل حكيم يستعرض الأحداث في هدوء وتدبر، ويهدف بأسلوبه في الرواية إلى تهدئة السامعين حتى ينصتوا إليه ويطيلوا الإنصات عن طيب خاطر، كما أنه يوزع عليهم الاهتمام بالتساوي ... إنه يتقدم للأمام أو يتراجع للخلف حسبما يشاء ويتابعه المستمعون حيث ذهب ...» وبقدر ما يستطيع الراوية أن يدمج المتفرج في تأمله، بقدر ما يبعده عن الحدث المسرحي نفسه؛ ومن ثم يصبح الحدث بالنسبة للمتفرج المتأمل شيئا يمكن أن يراقبه من عل؛ وبهذا يبتعد عنه هذا الحدث كما يبتعد هو عنه. هذا البعد يضفي طابع الموضوعية على الحدث المسرحي بما يجعله «مثلا» أو «نموذجا»، ويجرد الشخصيات من فرديتها ويجعلها أشكالا أو نماذج أو أمثلة لجماعة أو طبقة من الناس.
وفي تاريخ الدراما أمثلة عديدة على هذا الانشطار أو الانقسام الذي يتجلى في الحدث ومناقشة الحدث، أعني كسر حاجز الوهم عن طريق التأمل والتعليق والمناقشة (كما رأينا عند تيك وبيراندللو، وكما لاحظنا عند بوشنر في أثناء الكلام عن القناع والوجه في مسرحية ليونس ولينا وإن لم يؤثر هذا على الشكل الدرامي كما فعل عند الكاتبين السابقين) هذا الانقسام أو الانشطار لم يقتصر على المسرح وحده. لقد كان نتيجة موقف تاريخي وظروف تاريخية معينة؛ ولذلك امتد إلى وجوه الفن المختلفة في العصر الحديث، وأصبح ظاهرة ملازمة له، سواء في ذلك الفن التشكيلي أو الشعر أو الرواية الحديثة. المهم أن ظاهرة الانقسام هذه بين الفعل والكلمة أو بين الحدث والتعليق عليه قد أصبحت كما تقدم وسيلة للتعليم والتأمل والتأثير وضرب الأمثلة. ولا بد هنا من التفرقة بين التأمل في المسرح الأرسطي أو التقليدي عندما يتحدث الممثل مع نفسه في مونولوج وبينه في المسرح الملحمي؛ لأن التأمل هناك ليس إلا لحظة يعود فيها البطل إلى نفسه ليستجمع قواه أو يستريح قبل الدخول في صراع جديد. إنه تأمل لا يخرج به عن مسار الحدث؛ لأنه خيط داخل في نسيج هذا الحدث. وفرق كبير بين موقفه وموقف الراوية أو المتحدث والمعلق في الدراما الملحمية؛ فتأمله أو تعليقه لا يندمج في تيار الحدث الدائر على المسرح، بل يسير موازيا له أو خارجا عنه، بل إن هذا التأمل والتعليق أو هذه الرواية هي الخيط الذي يمسك البناء الدرامي بأجمعه. إن الراوية يخرج عن دوره كما يخرج عن الحدث ويتجه للجمهور ليتحدث أو يروي أو يغني أو يشترك في حوار مع مدير المسرح، على نحو ما نرى مثلا في مسرحية «بلدتنا» لتورنتون وايلدر.
Halaman tidak diketahui