المجلد الأول
مقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة الكتاب:
الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدي ودين الحق، ليظهره على الدين كله، والصلاة والسلام على عبد الله ورسوله محمد خاتم النبيين، وسيد ولد أدم أجمعين، وبعد: فإنه كانت لي بالتصوف صلة، هي صلة العبرة بالمأساة، فهنالك حيث كان يدرج بي الصبا في مدارجه السحرية، وتستقبل النفس كل صروف الأقدار بالفرحة الطروب، وتستنشي الروح ريا الجمال والحب من كل معاني الحياة، هنالك تحت شفوف الأسحار الوردية من ليالي القرية الوادعة الحالمة، وفي هيكل عبق بغيوم البخور، جثم على صدره ضم صغير يعبده كثير من شيوخ القرية، هنالك في مطاف هذه الذكريات الولهى: كان يجلس الصبي بين شيوخ تغضنت منهم الجباه، وتهدلت الجفون، ومشي الهرم في أيديهم خفقات حزينة راعشة، وفي أجسادهم الهضيمة نحولا ذابلا، يتراءون تحت وصوصة السراج الخافت أوهام رجاء ضيعته الخيبة، وبقايا آمال عصف بها اليأس.
وتتهدج ترانيم الشيوخ تحت السحر -نواحا بينها صوت الصبي- بالتراتيل الوثنية، وما زال الصبي يذكر أن صلوات ابن بشيش، ومنظومة الدردير كانتا أحب التراتيل إلى أولئك الشيوخ، وما زال يذكر أن أصوات الشيوخ كانت تشرق بالدموع، وتئن فيها الآهات حين كانوا ينطقون من الأولى: "اللهم انشلني من أوحال التوحيد!! " ومن الثانية: "وجد لي بجمع الجمع منك تفضلا" يا للصبي الغرير التعس المسكين!! فما كان يدري أنه بهذه الصلوات المجوسية يطلب أن يكون هو الله هوية وماهية وذاتا وصفة!! ما كان يدري ما التوحيد الذي يضرع إلى الله أن ينشله من أوحاله!! ولا ما جمع الجمع الذي يبتهل إلى الله أن يمن به عليه!!
1 / 3
ويشب الصبي، فيذهب إلى طنطا ليتعلم، وليتفقه في الدين. وثمت يسمع الكبار من شيوخه يقسمون له، ولصحابه: أن "البدوي" قطب الأقطاب، يصرف من شئون الكون، ويدبر من أقداره وغيوبه الخفية!! ويجرؤ الشاب مرة فيسأل خائفا مرتعدا: وماذا يفعل الله؟ ويهدر الشيخ غضبا، ويزمجر حنقا، فيلوذ الشاب بالرعب الصامت، وقد استشعر من سؤاله، وغضب الشيخ، أنه لطخ لسانه بجريمة لم تكتب لها مغفرة!! ولم لا؟ والشيخ هذا كبير جليل الشأن والخطر، وما كان يستطيع الشاب أبدا أن يفهم أن مثل هذا الحبر الأشيب -الذي يسائل عنه الموت- يرضى بالكفر، أو يتهوك مع الضلال والكذب. فصدق الشاب شيخه، وكذب ما كان يتلو قبل من آيات الله ﴿ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ﴾ [آل عمران: ١٠] !! ثم يقرأ الشاب في الكتب التي يدرسها: أن الصوفي فلانا غسلته الملائكة، وأن فلانا كان يصلي كل أوقاته في الكعبة، في حين كان يسكن جبل قاف، أو جزائر واق الواق!!! وأن رسول الله ﷺ مد يده من القبر وسلم على الرفاعي!! وأن فلانا عذبته الملائكة؛ لأنه حفظ القرآن والسنة وعمل بما فيهما، ولكنه لم يحفظ كتاب الجوهرة في التوحيد!! وأن مذهبنا في الفقه هو الحق وحده؛ لأنه أحاديث حذفت أسانيدها!! ويصدق الشاب بكل هذا، ويؤمن، وما كان يمكن إلا أن يفعل هذا.
إذا قال في نفسه: لو لم تكن هذه الكتب حقا، ما درست في الأزهر، ولا درسها هؤلاء الهرمون من الأحبار، ولا أخرجتها المطبعة، وهل كان يمكن أن يسأل نفسه مثلا مثل هذا السؤال: أين من الحق البين من كتاب الله هذا الباطل العربيد في هذه الكتب؟ لا فلقد جيء به إلى طنطا ليتفقه في الدين على هؤلاء الشيوخ، وها هو فقه الدين يسمعه من الشيوخ، ويقرؤه في الكتب، وحسبه هذا!!
1 / 4
وتموج طنطا بالوفود، وتعج بالآمين بيت الطاغوت الأكبر من كل حدب، ويجلس الشاب في حلقة يذكر فيها الصوفية اسم الله بخنات الأنوف، ورجات الأرداف، ووثنية الدفوف، وثمت يسمع منشد القوم يصيح راقصا: "ولي صنم في الدير أعبد ذاته" فتتعالى أصوات الدراويش طروبة الصيحات: "إيوه كده اكفر، اكفر يا مربي" ويرى الشاب على وجوه القوم فرحا وثنيا راقص الإثم بما سمعوا من المنشد الكافر، فيسأل شيخا ممن وفدوا من أهل قريته: يا سيدي الشيخ، ما ذلك الصنم المعبود؟! فيلزم الشيخ شفتيه، ثم يجود على الشاب الواله الحيرة بقوله: "إنته لسه صغير"!! ويسكت الشاب قليلا، ولكن الكفر يضج في النعيق، فسيمع المنشد يقيء "سلكت طريق الدير في الأبدية" "وما الكلب والخنزير إلا إلهنا" ويطوي الشاب نفسه على فزع وعجب يسائل الذهول: ما الكلب؟ ما الخنزير؟ ما الدير؟ وأنى للذهول بأن يجيب؟! ولقد خشى أن يسأل أحد الشيوخ ما دام قد قيل له: "إنته لسه صغير" ثم إنه رأي بعض شيوخه الكبار يطوفون بهذه الحمآت يشربون "القرفة" ويهنئون الأبدال والأنجاب والأوتاد بمولد القطب الغوث سيدهم السيد البدوي.
وتكفن دورات الفلك من عمر الشاب سنوات، فيصبح طالبا في كلية أصول الدين، فيدرس أوسع كتب التوحيد-هكذا تسمى- فيعي منها كل شيء إلا حقيقة التوحيد، بل ما زادته دراستها إلا قلقا حزينا، وحيرة مسكينة.
ويجلس الشاب ذات يوم هو وصديق من أصدقائه مع شيخ صوفي أمي. فيسألهما عن معاني بعض تهاويل ابن عطاء الله السكندري "إرادتك التجريد مع إقامة الله، إياك في الأسباب من الشهوة الخفية، وإرادتك الأسباب، مع إقامة الله إياك في التجريد، انحطاط عن الهمة العلية". ويحار الطالبان، ولا يدريان بم يجيبان هذا الأمي عن هذه الحكم المزعومة -وقد عرفا بعد أنها تهدف إلى تقرير أسطورة
1 / 5
رفع التكليف- فتمتلئ نفساهما بالغم المهموم؛ إذ رسبا في امتحان عقده لهما أمي صوفي؟!
ويدور الزمن فيصبح الشاب طالبا في شعبة التوحيد والفلسفة. ويدرس فيها التصوف، ويقرأ في كتاب صنفه أستاذ من أساتذته، رأى ابن تيمية في ابن عربي. فتسكن نفس الشاب قليلا إلى ابن تيمية، وكان قبل يراه ضالا مضلا. فبهذا البهتان الأثيم نعته الدردير!!
وكانت عنده لابن تيمية كتب، بيد أنه كان يرهب مطالعتها، خشية أن يرتاب في الأولياء، كما قال له بعض شيوخه من قبل!! وخشية أن يضل ضلال ابن تيمية.. ويقرأ الشاب، ويستغرق في القراءة، ثم ينعم القدر على الشاب بصبح مشرق يهتك عنه حجب هذا الليل، فيقر به سراه المضنى عند جماعة أنصار السنة المحمدية، فكأنما لقي بها الواحة الندية السلسبيل بعد دو ملتهب الهجير. لقد دعته الجماعة على لسان منشئها فضيلة والدنا الروحي الشيخ محمد حامد الفقي إلى تدبر الحق والهدى من الكتاب والسنة، فيقرأ الشاب ويتدبر ما يقرأ، وثمت رويدا رويدا ترتفع الغشاوة عن عينيه، فيبهره النور السماوي، وعلى أشعته الهادية يرى الحقائق، ويبصر القيم. يرى النور نورا، والإيمان إيمانا، والحق حقا، والضلال ضلالا، وكان قبل -بسحر التصوف- يرى في الشيء عين نقيضه. فيؤمن بالشرك توحيدا، وبالكفر إيمانا، وبالمادية الصماء من الوثنية: روحانية عليا، ويدرك الشاب -وهو لا يكاد يصدق- أن التصوف دين الوثنية والمجوسية، دين ينسب الربوبية والإلهية إلى كل زنديق، وكل مجرم، وكل جريمة!! دين يرى في إبليس، وفرعون، وعجل السامري، وأوثان الجاهلية، يرى في كل هؤلاء الذين لعنتهم كتب الله، بل لعنتهم حتى العقول، يرى فيهم أربابا وآلهة تهيمن على القدر في أزله وأبده، دين يرى في كل شيء إلها يجب أن يعبد، وربا يخلق ما يشاء ويختار، دين يقر أن حقيقة التوحيد الأسمى: هي في الإيمان بأن الله
1 / 6
-سبحانه- عين كل شيء. دين لا تجد فيه فيصلا بين القيم، ولا بين حقائق الأشياء، ولا بين الضد وضده، ولا بين النقيض ونقيضه. دين يقول عن الجيف -يتأذى منه النتن، وعن الميكروبات تفتك سمومها بالبشرية- إنها هي الإله، وسبحان ربنا!! دين يقول عن القاتل، عن السارق، عن الباغي، عن كل وغد تسفل في دناءته، عن كل طاغية بغى في تجبره. يقول عن كل هؤلاء: إنهم تعينات الذات الإلهية!! فأي إله هذا الذي يقتل، ويبغي، ويفسد في الأرض؟ أي إله هذا الذي يدب تحت جنح الليل تتلظى في عينيه، وعلى يديه الإثم والجريمة الضارية؟ أي إله هذا الذي يلعق دم الضحايا يبرد به غلته، ويخصب بدماء الأعراض التي سفحها يديه الظالمتين؟ أي إله هذا الذي مشى في أيام التاريخ ولياليه بطشا وظلما وجبروتا يدمر، ويخرب، ويصنع القصة الأولى لكل جريمة خاتلة؟! ومن يكون إلا إله الصوفية الذي ابتدع أسطورته سلف ابن عربي، وابن الفارض وغيرهما!!؟
أيتها البشرية التي تهاب القانون، أو ترهب السماء!! ها هو دين التصوف يناديك ملحدا ملهوف النداء: أن تنحدري معه إلى حيث تترعين من كل خمرة مخمورة، وتتلطخين بكل فسق، وتتمرغين في أوحال الإثم!! وأنتم أيها العاكفون في المساجد: لا حاجة بكم إلى الصلاة والصوم والحج والزكاة، بل لا حاجة بكم إلى رب تحبونه وتخافونه، وترجونه، ولا إلى إله تعبدونه.
لم هذا الكدح والجهاد والنصب والعبودية؟ لم هذا وكل فرد منكم في حقيقته هو الرب، وهو الإله كما يزعم الصوفية!؟ ألا فاطلقوا غرائزكم الحبيسة، ودعوها تعيش في الغاب والدغل وحوشا ضارية، وأفاعي فتاكة! وأنتم يا بني الشرق! دعوا المستعمر الغاصب يسومكم الخسف والهوان، ويلطخ شرفكم بالضعة، وعزتكم بالذل المهين، ويهيمن على مصائركم بما يهوى بطشه الباغي، وبغيه الظلوم. دعوه يهتك ما تحمون من أعراض، ويدمر ما تشيدون من معال،
1 / 7
وينسف كل ما أسستم من أمجاد، ثم الثموا ضارعين خناجره هو تمزق منكم الحشاشات، واهتفوا لسياطه، وهي تشوي منكم -أذلاء- الجلود. فما ذلك المستعمر عند الصوفية سوى ربهم، تعين في صورة مستعمر.
دعوا المواخير مفتحة الأبواب، ممهدة الفجاج. ومباءات البغاء تفتح ذراعيها الملهوفتين لكل شريد من ذئاب البشر، وحانات الخمور تطغى على قدسية المساجد، وأقيموا ذهبي الهياكل للأصنام، وارفعوا فوق الذرى منتن الجيف، ثم خروا ساجدين لها، مسبحين باسم ابن عربي وأسلافه وأخلافه. فقد أباح لكم أن تعبدوا الجيفة، وأن تتوسلوا إلى عبادتها بالجريمة.
ذلكم هو دين التصوف في وسائله وغاياته، وتلك هي روحانيته العليا!! ألا فاسمعوها غير هيابة ولا وجلة، واصغوا ألى هتاف الحق يهدر بالحق من أعماق الروح: إن التصوف أدنأ وألأم كيد ابتدعه الشيطان ليسخر معه عباد الله في حربه لله، ولرسله. إنه قناع المجوسي يتراءى بأنه رباني، بل قناع كل عدو صوفي العداوة للدين الحق. فتش فيه تجد برهمية، وبوذية، وزرادشتية، ومانوية وديصانية. تجد أفلوطينية، وغنوصية، تجد فيه يهودية ونصرانية ووثنية جاهلية، تجد فيه كل ما ابتدعه الشيطان من كفر، منذ وقف في جرأة صوفية يتحدى الله، ويقسم بعزته أنه الذي سيضل غير المخلصين من عباده. تجد فيه كل هذا الكفر الشيطاني، وقد جعل منه الشيطان كفرا جديدا مكحول الإثم متبرج الغواية، متقتل الفتون، ثم سماه للمسلمين: "تصوف" وزعم لهم -وأيده في زعمه القدامى والمحدثون من الأحبار والرهبان- أنه يمثل أقدس المظاهر الروحية العليا في الإسلام!! أقولها عن بينة من كتاب الله، وسنة خير المرسلين صلوات الله وسلامه عليه، وبعون من الله، سأظل أقولها، لعلي أعين الفريسة التعسة على أن تنجو من أنياب هذا الوحش الملثم بوشاح الدعة الحانية العطوف ولكن سلوا الصوفية سودا وبيضا، خضرا وحمرا، سلوهم: ما ردكم على هذا الصوت الهادر من أعماق الحق؟ سيقولون: ما قالت وثنية عاد ﴿إِنْ نَقُولُ
1 / 8
إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ﴾ وآلهتهم هي قباب أضرحة الموتى وأعتابها، دمغناهم بالحق، فراحوا يعوون عواء اللص الحذر، وقع فجأة في قبضة الحارس، وجأروا بالشكوى الذليلة إلى النيابة، فلم تر النيابة فيمن يمسك بالبريء إلا مجرما، وشكوا إلى رئيس حكومة سابق، وختموا الشكاة بهذه الضراعة الذليلة: "والله نسأل لمقامكم الرفيع الخير والسؤدد في ظل حامي الدين حضرة صاحب الجلالة الملك المعظم صان الله عرشه، وأيد حكومته الرشيدة، وألهمها التوفيق"١، فلم ير الرئيس السابق فيمن يثرم أنياب الرقطاء مجرما. وطاح الحق ببغي إلههم وملاذهم حامي دينهم، كما كانوا يلقبونه.
وما زلنا -بعون من الله نستلهمه- بكتاب الله نتحداهم، وبسنة رسوله ﷺ نحاججهم، والله على كل شيء شهيد، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
سيقول الناعمون -من ذوي الألسنة التي استمرأت كلمات الذل والعبودية، وليونة النفاق، وممن يتملقون الجماهير على حساب الحق، ويزعمون أنهم لا يحبون إثارة شقاق، أو جدال، ولا الطعن على أحد- سيقول هؤلاء: ما هكذا يكون النقد، ولا هكذا يكون البحث العلمي!! لا. أيها المدللون الخانعون للأساطير، فإنا لسنا أمام جماعة مسلمة، فنخشى إثارة الشقاق بينهم، ولو خشى الرسول مثل هذا لمالأ قريشا على حساب الحق، ولكنه ﷺ أطاع أمر ربه ﴿فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ﴾ [الحجر: ٩٤] ووعى قلبه -المشرق المؤمن الطهور التقي- موعظة ربه فيما قال له العلي الكبير: ﴿وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ﴾ [القلم: ٩] وفيما قال له: ﴿وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا، وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا، إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا﴾ [الإسراء: ٧٣-٧٥] فكان سيد ما يستغفر به الرسول الكريم الأمين ربه: "اللهم أنت ربي، لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك
_________
١ قدموا هذه الشكوى بتاريخ ٤ أغسطس سنة ١٩٥١.
1 / 9
ما استطعت" فكيف بنا نحن الذين أمرنا أن نجعل الرسول وحده لنا الأسوة؟!
ولسنا كذلك أمام فئة تحترم العقل، بل تزدريه وتحقره، ثم تهب في قحة طاغية الجراءة لتشتم الله، وتذود عن إبليس وفرعون وعباد العجل والوثن، داعية المسلمين إلى اتخاذ هؤلاء أربابا وآلهة، وسيرد على القارئ عشرات النصوص من فصوص بن عربي وتائية ابن الفارض شهيدة عليهم بما ذكرت، وابن عربي وابن الفارض قطبا التصوف، وإمام الصوفية المعاصرة. فكيف يعاب علينا أننا ندافع عن دين الله، وأنا نقول للشيطان: إنك أنت الشيطان؟!
ماذا نقول عن رجل -وهو ابن عربي- يفتري أدنأ البهتان على الله، فيصوره في صورة رجل وامرأة يقترفان الإثم، مؤكدا لأتباعه أن الجسدين الآثمين هما في الحقيقة ذات الله، سبحانه؟ وسبحان رب العزة عما يصف الآثم.
فهل نلام إذا هتكنا القناع عن وجه هذا الرجل، ليبصره المخدوعون به، ليبصروه مسخا ثانيا للشيطان؟ إننا في ميدان مستعر الأتون، يقاتلنا فيه عدو دنيء يتراءى أنه الأخ الشفيق الحنو، الندي الرحمة، فلا أقل من أن نحاربه بما يدفع ضره وشره، ويحول بينه وبين القضاء على الرمق الذابل من عقائد المسلمين، وبين تشتيت الحشاشة الباقية من الجماعة الإسلامية.
هذا الكتاب: هو في الحقيقة كتابان صنفهما علم من أعلام القرن التاسع الهجري، هو برهان الدين البقاعي، سمى أولهما "تنبيه الغبي، إلى تكفير ابن عربي" وسمى الآخر "تحذير العباد من أهل العناد ببدعة الاتحاد١" نقد فيهما ابن عربي وابن الفارض بخاصة، والتصوف المشاكل لدينهما بعامة. ومنهاج البقاعي في النقد يقوم على أصلين.
أولا: نقل نصوص كثيرة عن "فصوص الحكم" لابن عربي، وعن
_________
١ لما كان الكتاب ينقد التصوف نقدا قاتلا، فقد سميناه "مصرع التصوف" وأعتذر عن مخالفة الأصل في التسمية لطول عنواني الكتابين، ولما في أحدهما من تعريض بالقارئ.
1 / 10
"التائية الكبرى" لابن الفارض، وقليلا ما يعلق البقاعي على هذه النصوص، أو يكشف عما فيها من مجافاة لروح التوحيد القرآني. معتمدا على فطنة القارئ ومعرفته بدينه، فهما كفيلان بإدراك ما في هذه النصوص من كفر ومجوسية، يدركهما القارئ حتى باللمحة الفكرية الهافية.
الآخر: ذكر فتاوي كثيرة عن أعلام شيوخ القرون: السابع والثامن والتاسع الهجرية، ومما لاحظته: أن المؤلف لم ينقل عن ابن تيمية سوى النزر اليسير جدا بيد أن هذا مما يجعل للكتاب خطره الكبير في نظر المتصوفة على معتقدهم، إذ ما يستطيعون اتهام أحد ممن ذكرهم البقاعي بالخصومة، كما كانوا يفعلون -مفترين- بالنسبة إلى الشيخ الإمام ابن تيمية. فهؤلاء الذين أفتوا بفكر ابن عربي وابن الفارض: إما فريق قد ناهض ابن تيمية وخاصمه، ولكنه أدلى معه بدلوه في فضح الصوفية، وإما فريق لم يعرف عنه لا موالاة جلية ولا خصومة صريحة لابن تيمية -وإن كانوا فيما يذهبون إليه في مسألة العقيدة يخالفون ابن تيمية- فجلهم من أئمة الأشاعرة، وإما فريق كان له جاه ومقام كبيران في التصوف، كعلاء الدين البخاري، وهو أقسى هؤلاء جميعا حملة على ابن عربي وابن الفارض، ومن دان بدينهما.
عملي في الكتاب: أولا تحقيق نص الكتاب، وهو إما نقول عن فصوص ابن عربي وتائية ابن الفارض، أو عن كتب علماء نقدوا التصوف، وإما من إنشاء المؤلف. أما ما نقله عن الفصوص: فراجعته على مطبوعة الحلبي بتحقيق الدكتور عفيفي، وجعلتها العمدة في تحقيق نصوص الفصوص، وقد أيقنت من هذه المراجعة أن المؤلف أمين جدا فيما نقل. بيد أنه كان يترك أحيانا ما له رحم ماسة بالكشف عن حقيقة معتقد ابن عربي، أو ما لا بد منه للربط بين نصوص الفصوص، وأحينا كان يسقط منه -أو من الناسخ- بعض ألفاظ، وكل هذا أثبته عن الفصوص، وجعلته بين قوسين هكذا []، وقد أشرت في الهامش إلى هذا وإلى أرقام الصفحات التي وردت فيها هذه النصوص حسب ترقيم صفحات.
1 / 11
فصوص الحكم طبع الحلبي، حتى يسهل على القارئ مراجعة كل ما نقله المؤلف عن الفصوص في مصدره الأصيل، أما أبيات تائية ابن الفارض، فراجعتها على مرجعين: أحدهما ديوان ابن الفارض طبع بيروت، والآخر شرح تائية ابن الفارض للكاشاني المطبوع على هامش شرح ديوان ابن الفارض المطبوع سنة ١٣١٠هـ في المطبعة الخيرية. أما ما نقله عن العلماء فقد بذلت كل الجهد في سبيل تحقيق نقوله بمراجعتها في كتب أولئك العلماء، وأشرت إلى أرقام الصفحات التي وردت فيها تلك النقول في مصادرها الأصلية، مثل ما فعلت بما نقل المؤلف عن الشفاء لعياض، والمواقف للإيجي، والملل للشهرستاني وغيرها حتى يسهل أيضا على القارئ مراجعة آراء هؤلاء العلماء في كتبهم هم. وقد يسر الله سبحانه، فوجدت بعض ما نقله البقاعي من فتاوي عن العلماء في عصره وقبل عصره مذكورا في كتاب "العلم الشامخ" للعلامة المقبلي بتحقيق وتعليق العلامة الشيخ رشيد رضا، فراجعت بعض نقول البقاعي عن العلماء الذين لم أعثر على كتبهم في العلم الشامخ، وأثبت زيادة العلم، وجعلتها بين قوسين هكذا []، ويشهد الله أني لقيت في سبيل ذلك نصبا كبيرا، كان من نتائجه أن أصبحت أمانة البقاعي في النقل فوق كل مظنة، وسيكون من آثاره اطمئنان القارئ إلى كل ما نقله البقاعي عن الفصوص والتائية، وكتب العلماء، وما نقل عنهم من فتاوى.
أما ما كان من أسلوب المؤلف: فتركته على حاله، فما صوبت فيه إلا ما تجزم قواعد العربية بخطئه مشيرا إلى ذلك في الهامش.
ثانيا: ترجمت لمعظم من ذكروا في الكتاب ترجمة مختصرة، ولقيت في سبيل هذا مشقة وجهدا، سببهما: أن المؤلف كان يذكرهم إما بألقابهم أو كناهم، في حين تذكرهم كتب التراجم بأسمائهم أولا.
ثالثا: ترجمت لكل فرق أو نحلة جاء ذكرها في الكتاب ترجمة ذكرت فيها أهم الأصول لتلك الفرقة، أو هذه النحلة، معتمدا على أصدق المراجع.
1 / 12
رابعا: حققت كل ما ورد في الكتاب من أحاديث، وخرجتها تخريجا صحيحا، إذ كان يخطئ المؤلف أحيانا في نسبتها إلى رواتها.
خامسا: ولما كانت بعض نصوص الفصوص غامضة تخفى معانيها ومراميها على بعض القراء، وكذلك بعض أبيات تائية ابن الفارض، لما كان ذلك كذلك: فقد شرحت في الهامش تلك النصوص وهذه الأبيات، ويشهد الله ما فهمت في الألفاظ غير معانيها، التي لها في عرف الصوفية، ولا فسرتها إلا بما هو مقرر عند شراح الفصوص والتائية من الصوفية.
سادسا: برهنت في كثير من المواضع على مخالفة ما ذهب إليه الصوفية للنقل وللعقل، إذ كان المؤلف يكتفي بإيراد النصوص تاركا للقارئ الحكم عليها، وهو حكم يجزم به كل من له أدنى فهم لحقيقة التوحيد.
سابعا: في الكتابين كثير من مصطلحات الصوفية، كالفناء والجمع، وجمع الجمع، والقطب، وقاب قوسين، وغيرها، وقد فسرت في هامش الكتاب هذه المصطلحات الصوفية معتمدا على كتبهم هم، حتى يخلص الكتاب للحق والإنصاف، والصدق.
ثامنا: عنونت لمواضيع الكتابين، إذا خلا كلاهما إلا من عناوين قليلة وضعها الناسخ، أو المؤلف على هامش الكتابين، ومعظمها ليست ذات دلالة على ما وضعت له.
تاسعا: رقمت ما ورد في الكتاب من الآيات القرآنية، والرقم الأول يدل على السورة، والثاني على الآية.
ملحوظة: تشير الأرقام الواردة في صلب متن الكتاب إلى صفحات النسخة المصورة التي اعتمدت عليها في نشر هذا الكتاب.
الأصل المطبوع عنه: يملك النسخة التي عنها نشرنا الكتاب سري جدة الجليل، الشيخ محمد نصيف. وقد تفضل -كدأبه دائما في العمل على نشر العلم
1 / 13
أعطاها إلى فضيلة أستاذنا الكبير الشيخ محمد. حامد الفقي ليعمل على نشرها، فتفضل أستاذنا، ووكل إليّ أمر تحقيقها والتعليق عليها.
وصف النسخة: وقد عثر على النسخة الخطية الأصيلة لكتابي البقاعي، العلامة شيخ العروبة في وقته أحمد زكي، عثر عليها في خزائن القسطنطينية، فنقلها بالتصوير الشمسي في مجلد واحد. ثم نقل عن نسخته المصورة نسخة أخرى بالتصوير الشمسي أيضا في مجلد واحد وأهداه إلى العالم الجليل الشيخ محمد نصيف.
وقد ورد في الصفحة الأولى من الأصل الذي نشرنا عنه هذا الكتاب ما يأتي:
"نقلت باسم الله هذا الكتاب بالتصوير الشمسي من خزائن القسطنطينية وأضفته إلى مجموعة كتبي التي أودعتها قبة الغوري بالقاهرة باسم الخزانة الزكية، وجعلتها وقفا على العلماء وطلبة العلم، نفع الله بها" ثم يلي ذلك إمضاء "وكتبه أحمد زكي" وورد أيضا في الصفحة الأولى ما يأتي: "وهذه النسخة المنقولة عنها هدية إلى خادم العلم الإسلامي والعمراني بالحرمين الشريفين الشيخ محمد نصيف، فخر جدة أعانه الله" ثم يلي ذلك إمضاء "أحمد زكي" وتاريخ الإهداء ٥ محرم الحرام سنة ١٣٥٢ الموافق ٣٠ إبريل سنة ١٩٣٣، وقد صورت النسخة المهداة سنة ١٩٣٣م بمطبعة دار الكتب قسم التصوير.
والنسخة مكتوبة بخط فارسي جميل، وناسخها سليمان بن عبد الرحيم. وقد انتهى من نسخها -كما ذكر هو في آخر الكتاب- سنة ٩٤٧ هـ وتقع النسخة في ٨٤ صفحة، وقد كتبت ورقاتها من وجه واحد ومسطرتها تبلغ ٢١ سطرا، ويقع الكتاب الأول منها، وهو "تنبيه الغبي" في ٥٩ صفحة، والثاني وهو "تحذير العباد" في ٢٣ صفحة.
وقد كتب الشيخ الجليل محمد نصيف على نسخته ما يأتي: "أقول أنا محمد نصيف بن حسين بن عمر نصيف: سألت السائح التركي ولي هاشم عند عودته من الحج في محرم سنة ١٣٥٥ عن سبب عدم وجود ما صنفه العلماء في الرد على
1 / 14
ابن عربي، وأهل نحلته الحلولية والاتحادية من المتصوفة. فقال: قد سعى الأمير السيد عبد القادر الجزائري بجمعها كلها بالشراء والهبة وطالعها كلها، ثم أحرقها بالنار، وقد ألف الأمير عبد القادر كتابا في التصوف على طريقة ابن عربي. صرح فيه بما كان يلوح به ابن عربي، خوفا من سيف الشرع الذي صرع قبله "أبو الحسين الحلاج" وقد طبع كتابه بمصر في ثلاثة مجلدات، وسماه المواقف في الوعظ والإرشاد، وطبع وقفا، ولا حول ولا قوة إلا بالله".
شبهة: يقول بعض من لا يستنبطون خبيئة التصوف، ويرسلون النظرة الكاشفة إلى أعماقه: وهل تدين الصوفية المعاصرة بما دان به ابن عربي، وابن الفارض، حتى تحكموا عليهم بما حكم به على ابن عربي وابن الفارض، أو حتى يصلح هذا الكتاب ردا عليهم؟ وأقول لهذا السائل: نعم، تدين الصوفية المعاصرة بوحدة الوجود، وبوحدة الأديان، فإنما هو أمر مبيت للدين الحق يتوارثه الصوفية خلفا عن سلف، ليكيدوا به لهذا الدين الحق. وفي أورادهم دليل ما نقول. وفي تقديسهم لابن عربي وكتابه الفصوص، ولابن الفارض. وتائيته حجة على أنهم يدينون بدينهما، فالأول عندهم "الشيخ الأكبر". والثاني: "سلطان العاشقين" ويا طالما قلنا للصوفية المعاصرة: أن تغنم رضاء الله مرة. فتبرأ إليه من ابن عربي، وابن الفارض. بل حتى من كتبهما وأشعارهما قلنا لها ذلك، فكان أن برئت إلى أصنامها ممن يقدم لها النصح ابتغاء وجه الله. واستغاثت بالأحياء، وبالأموات من الطواغيت، حتى لا ينزع الناصح تاج القداسة الزائف عن الشيطان المريد.
وقد يقول قائل: وما بالكم تخصون الصوفية بهذا كله؟!
وأقول: بل هو جهادنا الأول. ونقتدي في هذا برسولنا وأسوتنا عبد الله ورسوله سيدنا محمد ﷺ، إذ بدأ دعوته بالدعوة إلى الله وحده، وإلى النهي عن اتخاذ شركاء أو شفعاء من دون الله رب العالمين، بدأ بوحي من الله
1 / 15
بدعوة الناس إلى التوحيد الخالص، وإذا ما تمكنت عقيدة التوحيد الخالص من قلب المسلم، جعلته إنسانا مثاليا في دينه وخلقه وروحانيته، ودفعت به إلى الحياة بطلا يعمل باسم الله لتحقيق المثل العليا للجماعة المسلمة، بل للإنسانية عامة، وجعلت منه وليا كريما للحق والعدل والخير والصدق والسمو والكرامة؛ وذلك لأنه يحمل قلبا مؤمنا لا يحب إلا الله، ولا يرهب غير الله، ولا يتقي غير الله، ولا يرجو إلا ثواب الله، ولا يطيع غير الله ورسوله ﷺ، أما الصوفية سواء كانت نظرية أم عملية، فقد قامت لتصرف الناس عن عبادة الخالق، إلى عبادة المخلوق. إنسانا كان أم حيوانا، ملكا أم شيطانا، حيا أم ميتا، لتجعل من المسلمين عباد هوى وشهوة وأوثان.
ناج القلب الصادق الإيمان باسم الله يتجاوب معك، أَبِن له عن أمر الله، تجده يتلمس كل سبيل إلى طاعة أمر ربه سبحانه، ناشده باسم الله ما يحب الله تجده طيعا ذلولا في عزة ونبل وكرم وإيثار. ثم سل القلب الصوفي بعض ما سألت قلب المؤمن، فلن يسمع لك إلا إذا ناجيته باسم طواغيته ابن عربي وابن الفارض والشعراني وأمثالهم، أو باسم أوثانه وأصنامه، من قباب آلهته الموتى.
فنحن إذن نعمل ليكون لله وحده الدين خالصا، ولتكون قلوب عباده إيمانا به وحده، وحبا له وحده، ورجاء فيه وحده، وتقوى له وحده، ولتتوحد الجماعة الإسلامية بهذا الإيمان، وهذا الحب، وهذا الرجاء، وهذه التقوى.
وإلى العلي القدير أضرع أن يجعل علمنا خالصا لوجهه الكريم، وأن يجعل من المسلمين أمة واحدة تعمل بقول الله سبحانه: ﴿وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ﴾
عبد الرحمن الوكيل
عضو جماعة أنصار السنة المحمدية
القاهرة: الجمعة:
١٢ من صفر سنة ١٣٧٢
٣١ أكتوبر سنة ١٩٥٢
1 / 16
البقاعي في سطور:
ملخصة عن شذرات الذهب، والضوء اللامع
هو الإمام إبراهيم بن عمر بن حسن الرباط بن علي بن أبي بكر أبو الحسن برهان الدين البقاعي الشافعي المحدث المفسر العلامة المؤرخ.
ولد سنة ٨٠٩هـ، بقرية خربة روحا من عمل البقاع، ونشأ بها، ثم دخل دمشق وفيها جود القرآن وجدد حفظه وأفرد القراءات، واشتغل بالنحو والفقه وغيرهما من العلوم.
أخذ عن أساطين عصره، كابن ناصر الدين وابن حجر، وبرع، وتميز، وناظر وانتقد حتى على شيوخه.
وصنف تصانيف عديدة. من أجلها المناسبات القرآنية، وعنوان الزمان بتراجم الشيوخ والأقران، وتنبيه الغبي بتكفير عمر بن الفارض وابن عربي، دخل بيت المقدس، ثم القاهرة.
وتوفي بدمشق في رجب ٨٨٥ عن ست وسبعين سنة.
1 / 17
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين
خطبة الكتاب:
الحمد لله المضل الهاد، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة تضمن الإسعاد، يوم يقوم الأشهاد، وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله الداعي إلى سبيل الرشاد. صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين قمعوا أهل العناد، وحكموا سيوفهم في رقاب أهل الفساد، فلم يجسر أحد في زمانهم على إلحاد، بتمثيل، أو تعطيل، أو حلول، أو اتحاد. أبعدنا الله من ذلك أيما إبعاد، وحمانا منه على مر الدهور والآباد.
وبعد: فإني لما رأيت الناس مضطربين في ابن عربي١ المنسوب إلى التصوف، الموسوم عند أهل الحق: بالوحدة، ولم أر من شفى القلب في ترجمته٢ وكان كفره في كتابه الفصوص أظهر منه في غيره، أحببت أن أذكر منه ما كان ظاهرا، حتى يعلم حاله، فيهجر مقاله، ويعتقد انحلاله، وكفره وضلاله، وأنه إلى الهاوية مآبه ومآله، امتثالا لما رواه مسلم عن أبي سعيد [الخدري] ﵁ أن النبي ﷺ قال: "من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن
_________
١ هو أبو بكر محيي الدين محمد بن علي بن محمد الحاتمي الطائي الأندلسي، ولد بمرسية سنة ٥٦٠ ونشأ بها وانتقل إلى أشبيلية، ثم ارتحل وطاف البلدان فطرق بلاد الشام والروم والمشرق، ودخل بغداد، وارتحل إلى مكة، وكانت وفاته سنة ٦٣٨هـ.
٢غمط بقوله هذا حق الإمام ابن تيمية، وهو شيخ شيوخ البقاعي، وإليه تنتهي الإمامة في نقد التصوف، والبرهنة العقلية والنقلية على منابذته للحق من الكتاب والسنة، وللبدهيات من العقل.
1 / 18
لم يستطع، فبلسانه، فإن [لم] يستطع، فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان١" وفي رواية [عن عبد الله بن مسعود]: "وليس وراء ذلك من الإيمان مثقال حبة من خردل" وما أحضر إلى النسخة التي نقلت ما تراه منها إلا شخص من كبار معتقديه، وأتباعه ومحبيه.
عقيدة ابن عربي وكيده للإسلام
وينبغي أن يعلم أولا أن كلامه دائر على الوحدة المطلقة، وهي: أنه لا شيء سوى هذا العالم، وأن الإله أمر كلي لا وجود له إلا في ضمن جزئياته. ثم إنه يسعى في إبطال الدين من أصله، بما يحل به عقائد أهله؛ بأن كل أحد على صراط مستقيم، وأن الوعيد لا يقع منه شيء، وعلى تقدير وقوعه، فالعذاب المتوعد به إنما هو نعيم وعذوبة، ونحو ذلك!! وإن حصل لأهله ألم، فهو لا ينافي السعادة والرضى، كما لم ينافها ما يحصل من الآلام في الدنيا، وهذا يحط عند من له وعي على اعتقاد: أنه لا إله أصلا، وأنه مأثم٢ إلا أرحام تدفع، وأرض تبلع، وما وراء ذلك شيء.
منهاج الصوفية في الكيد بدعوتهم
وكل ما في كلامه من غير هذا المهيع٣ فهو تستر وتلبيس على من ينتقد عليه، ولا يلقي زمام انقياده إليه، فإنه علم أنه إن صرح بالتعطيل ابتداء بَعُد كل سامع من قبوله فأظهر لأهل الدين أنه منهم، ووقف لهم في أودية اعتقادهم، ثم استدرجهم عند المضائق، واستغواهم في أماكن الاشتباه، وهو أصنع الناس في التلبيس،
_________
١ مسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجه.
٢ في الأصل: مأثم.
٣ الطريق الواضح.
1 / 19
فإنه يذكر أحاديث صحاحا، ويحرفها على أوجه غريبة، ومناح عجيبة، فإذا تدرج معه من أراد الله -والعياذ به- ضلاله، وصل -ولا بد- إلى مراده من الانحلال من كل شرعة، والمباعدة لكل ملة. وخواص أهل هذه النحلة يتسترون [٣] بإظهار شعائر الإسلام، وإقامة الصلاة والصيام، وتمويه الإلحاد بزي التنسك والتقشف، وتزويق الزندقة بتسميتها: بعلم التصوف، فهو ممن أشار إليه النبي ﷺ: "يحقر أحدكم صلاته مع صلاته، وصيامه مع صيامه، يقرءون القرآن، لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية١".
وقد أصل لهم غويهم هذا كما صرح به في الفص النوحى: أن الدعوة إلى الله مكر!! ونسب ذلك إلى الأنبياء ﵈، فقال: ادعوا إلى الله. فهذا عين المكر.. إلى آخر كلامه.
وهذا هو السر في تنسكهم، على أنهم قد استغنوا في هذا الزمان عن التنسك؛ لانقياد أهله بغير ذلك، وقد يستدرجهم الله وأمثالهم -ممن يريد ضلاله- بإظهار شيء من الخوارق على أيديهم، كما يظهره الله على يد الدجال، وأيدي بعض الرهبان، فليتبين الموقن من المرتاب.
مثالهم في زندقتهم
وقد ضربوا -لتصحيح زندقتهم- مثالا مكروا فيه بمن لم ترسخ قدمه في الإسلام، ولا خالط أنفاس النبوة، حتى صار يدفع الشبه. حاصل ذلك المثال: أنهم يصلون إلى الله بغير واسطة المبعوث بالشرع٢، فتم لهم المكر،
_________
١ من حديث رواه البخاري -واللفظ له- ومسلم وأبو داود والنسائي.
٢ قال ابن عربي: "علماء الرسوم يأخذون خلفا عن سلف إلى يوم القيامة، فيبعد النسب. والأولياء يأخذون عن الله ألقاه في صدورهم" المناوى ص٢٤٦.
1 / 20
وتبعهم في ذلك أكثر الرعاع، ولم يبالوا بخرق الإجماع، وذلك المثال: أن ملكا أقام على بابه سيافا، وقال له: من دخل بغير إذنك فاقتله، وقال لغيره: أذنت لك في الدخول متى شئت، فإذا دخل الغير، فقد أصاب، وإن قتله السياف فقد أصاب. وعنوا بالسياف: الشارع. فما أفادهم مثالهم مع زندقتهم به شيئا. فإنهم اعترفوا فيه بإباحة دمائهم، وهو قصد أهل الشريعة، ومن يعتقد أن لأحد من الخلق طريقا إلى الله من غير متابعة محمد ﷺ، فهو كافر من أولياء الشيطان بالإجماع، فإن رسالته ﷺ عامة ودعوته شاملة.
احتجاج الصوفية بقصة الخضر:
ولا حجة لهم في قصة الخضر مع موسى ﵇، للفرق بخصوص تلك الرسالة، مع أن الخبر بعلم الخضر جاء من الله تعالى١ إلى موسى عليه
_________
١ يقول ابن تيمية "ولا حجة فيها -أي: في قصة الخضر- لوجهين:
أحدهما: أن موسى لم يكن مبعوثا إلى الخضر، ولا كان يجب على الخضر اتباع موسى، فإن موسى كان مبعوثا إلى بني إسرائيل، ولهذا قال الخضر لموسى: إنك على علم من علم الله علمك الله إياه، وأنا على علم من الله علمنيه لا تعلمه أنت. ومحمد رسول الله إلى جميع الثقلين فليس لأحد الخروج عن مبايعته ظاهرا وباطنا، ولا عن متابعة ما جاء به من الكتاب والسنة في دقيق ولا جليل، لا في العلوم، ولا في الأعمال، وليس لأحد أن يقول له كما قال الخضر لموسى. وأما موسى فلم يكن مبعوثا إلى الخضر.
الثاني: أن قصة الخضر ليس فيها مخالفة للشريعة. بل الأمور التي فعلها تباح في الشريعة، إذا علم العبد أسبابها كما علمها الخضر، ولهذا لما بيّن أسبابها لموسى وافقه على ذلك، ولو كان فيها مخالفة للشريعة لم يوافقه بحال. فإن خرق السفينة مضمونه: أن المال المعصوم يجوز للإنسان أن يحفظه لصاحبه بإتلاف بعضه، فإن ذلك خير من ذهابه بالكلية، كما جاز للراعي على عهد النبي ﷺ أن يذبح الشاة التي خاف عليها الموت، وقصة الغلام مضمونها: جواز قتل الصبي الصائل =
1 / 21
السلام، فأين هي من دعاويهم١؟! ولا شبهة عليها، فضلا عن دليل، بل هي مصادمة للقواطع، ومن صادم القواطع، انقطعت عنقه، ولو بلغ في الزهد والعبادة أقصى الغايات ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ، عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ، تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً﴾ [الغاشية: ٢-٤] الآيات. ولو وقعت منهم الخوارق، فإنها شيطانية. قال الله تعالى: ﴿وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ﴾ [يس: ٤٣]، ﴿وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ﴾ [الأنعام: ١٢١] .
القول في صرف الكلام عن ظاهره:
وسميت هذه الأوراق: تنبيه الغبي على تكفير ابن عربي، وإن شئت فسمها: النصوص من كفر [٤] الفصوص؛ لأني لم أستشهد على كفره، وقبيح أمره إلا بما لا ينفع معه التأويل من كلامه، فإنه ليس كل كلام يقبل تأويله، وصرفه عن ظاهره. وذلك يرجع إلى قاعدة الإقرار بشيء وتعقيبه بما يرفع شيئا ما من معناه، ولا خلاف عند الشافعية في أنه إن كان مفصولا لا يقبل، وأما إذا كان موصولا ففيه خلاف. ومن صورة ما لا ينفع فيه الصرف عن الظاهر،
_________
= ولهذا قال ابن عباس: وأما الغلمان فإن كنت تعلم منهم ما علمه الخضر من ذلك الغلام فاقتلهم وإلا فلا. وأما إقامة الجدار ففيها فعل المعروف بلا أجرة مع الحاجة، إذا كان لذرية قوم صالحين" باختصار عن مجموعة الرسائل والمسائل جـ٤ ص٦٧. وأقول: على فرض أن في القصة مخالفة الباطن للظاهر. فهذا بالنسبة إلى شريعتين، شريعة الخضر وشريعة موسى. أما الأمر بالنسبة إلى الخضر، فكان ما فعله هو الظاهر في شريعته، فلم يخالف ظاهر ما فعل باطن ما به أمر. فليس إذن ثمة باطن خالف ظاهرا، أما دعوى الصوفية فتفتري جواز مخالفة الباطن للظاهر في الشريعة الواحدة.
١ في الأصل: دعا.
1 / 22