أصيب المعسكر بحالة من الارتباك عندما انتشر خبر الهجوم الذي تعد له القوات الحكومية والجنجويد، بل الذي بدأ بالفعل، عندما هاجمت طائرة مقاتلة تطير على مستوى منخفض جدا، تكاد أن تلامس هامات الجبال مثل طائر وحشي يراوغ فريسة تجري على الأرض، كان ضجيجها مزعجا ومرعبا، أسقطت قنبلتين برميليتين على السهل الجنوبي، وكان المقصود السهل الأوسط حيث منبع البحيرة والمدينة، ولكن المسافة بين الأوسط والغربي لا تتعدى الثانيتين بسرعة الطائرة المقاتلة النفاثة الصينية المرعبة، وكعادة الطيارين يخطئون الأهداف نتيجة للخوف وفقدان الدافع الأخلاقي أو الثوري وليس لعدم دقة الآلة. وقبل أن تعيد الكرة، وهو الشيء الذي لا يخاطر الكابتن بالقيام به في مثل هذا المكان، كان الجميع على أهبة، وقام شارون بإطلاق سراح الأسرى؛ لأنهم قد يقتلون في سجنهم بدون أن يتمكنوا من انتهاز فرصة إنسانية لإنقاذ أنفسهم، كما أنه لا يستطيع أن يثق فيهم بالصورة الكافية التي تجعله يضمهم إلى وحداته القتالية؛ لأن كل ما يفكر فيه الأسير هو الهرب، ومن يظن غير ذلك يعتبر مغفلا حسن النية، وهي صفة لا يمكن أن يوصف بها شارون. هي المرة الأولى في حياته يقوم فيها بإطلاق سراح أسير، لكن هي المرة الأولى أيضا التي تجرؤ فيها الحكومة على مهاجمة معسكره: أنتم أحرار، فقط لا أريدكم قريبا من جيشي، اذهبوا أينما شئتم، بالتأكيد لا أريد أن أراكم أسرى مرة أخرى.
ولكنهم يظنون أن وراء العملية خطة، فشارون في عرفهم لا يفعل شيئا بدون حسابات دقيقة، كانوا في ذهولهم التام لا يدرون ما هو التصرف اللائق، وعندما تركهم لشأن آخر أهم، هربوا معا شمالا، حدث ذلك بعد مشورة قصيرة فيما بينهم؛ لأنه إذا كان هنالك هجوم أرضي لا بد أنه سيأتي من جهة الغرب؛ لأن المنطقة الجنوبية والشرقية ملغمتان، والشمالية بها درع جبلي لا يمكن تسلقه بسهولة، وهم لا يريدون أن يلتقوا بالقوات المهاجمة؛ لأنها سوف تقضي عليهم في الحال، قد تعتبرهم بعض قوات العدو، عندما تخطوا الدرع الجبلي وانطلقوا بين الأشجار، كانوا عشرين رجلا، ولكنهم الآن واحد وعشرون، لقد انضم إليهم إبراهيم خضر، الذي كان ينتظر تلك الفرصة بل ويحلم بها، هرب قبلهم بزمن قصير، ولأنه يجهل طبيعة المنطقة، ظل مختبئا، إلى أن يوطن نفسه على فكرة، وفوجئ بالأسرى فتبعهم.
العنكبوت
قرية خربتي الجبل، قد لا يعرفها الكثيرون، حتى الذين ولدوا ونشئوا وماتوا بإقليم دارفور، قرية صغيرة تقع في مضب صخري جنوب جبل مرة، سكانها القليلون يعملون في زراعة المانجو والبصل، وقليل جدا من الذرة للاستهلاك اليومي، وتعتبر المانجو هي عصب الحياة لديهم، وينتجون عينة منها تعرف بمانجو الجبل، وهي نادرة، كبيرة الحجم، غالية الثمن وحلوة الطعم، لها بذرة صغيرة جدا، ليس بها ألياف، لا تتلف بسهولة، يشتريها منهم تجار يأتون من أقاصي دارفور؛ ليصدروها للخرطوم، في شهور مارس وأبريل ومايو، يبيعون البصل في السوق المحلية. يعتمدون في شرابهم وسقيا حيواناتهم، على ماء اليمامات من الخور الوحيد الذي يهبط من الجبل عابرا جنائن المانجو التي يمتلكونها، تتمتع خربتي بأرض زراعية خصبة تنمو عليها الأعشاب الموسمية بكثرة، ولو أن سكان خربتي لا يميلون لتربية الماشية بكميات كبيرة، إلا أن بيئتهم وأرضهم رعويتان، وعمدة خربتي رجل طيب وإنسان مسالم ومسلم؛ لذا يؤمن بأن الناس شركاء في ثلاثة: الماء والنار والكلأ.
في صيف 1988 قبل هطول الأمطار بخمسة وأربعين يوما، جاء إلى قرية خربتي شيوخ من الأعراب، وليس غريبا أن يرى الناس مثلهم من حين لآخر يتجولون حول أراضيهم، ويرسمون معهم وآخرين مسارات لمرور الماشية. وجدوا الشيخ وحوله جماعة من الرجال يشوون لحم مرفعين شحيم، صاده أحدهم. كانوا يستمتعون بالشواء، وكل في أعماقه ما يأكل اللحم لأجله؛ فهو مفيد لذوى العمش والعمى الليلي، هو طاقة جيدة للباردين في الفراش والذين يتأخرون في القذف كثيرا، وشفاء مجرب للعقم أيضا، وهو يعالج بصورة نهائية المرضى الذين يعانون من ألم المفاصل، بالإضافة إلى أن لحم المرفعين يفسد عمل السحر، وزيت المرفعين إذا وضع الرجل قدرا قليلا منه في سرته، فسيصبح بذيل قصير، ولحسن الحظ لم يوجد الرجل المغامر الذي سوف يتحقق من الفرضية الأخيرة، كانوا يتجادلون في كل ذلك، بينما شيوخ البدو يقتربون من الجمع، لم يهتم الناس كثيرا بهم، إلى أن هتف هاتفهم: السلام عليكم.
في تلك اللحظة رد الجميع ولحم المرفعين بين أسنانهم: عليكم السلام ورحمة الله تعالى وبركاته، تفضلوا قدام.
يعرف بدو بني حسن فضيلتين أخريين للحم المرفعين، ولكنهم كانوا في ضيق من أمرهم؛ لذا اكتفوا بالكلام عن فضيلة واحدة مهمة، وهي أنه يجعل الراعي مطمئنا أن مرفعينا على الأقل لا يمكنه أن يأكل أغنامه بعد الآن.
تدبروا أمر إكرام الضيوف سريعا، الطعام في هذا الصيف وفير، والناس ما زالوا متواجدين في القرية ولا يذهبون بعيدا، ربما يعمل الشباب في اصطياد أبشوك، ولم تبدأ الاستعدادات الجدية للزراعة إلى الآن؛ أي إنها لم تأخذ جل وقتهم بعد، لكن الجميع في مثل ساعة العصرية تلك، يوجدون في الغالب فيما يسمونه بالديوان، وهو حجرة كبيرة في حوش كبير ببيت الشيخ آدم كويا، يؤدون فيه الصلاة، يقيمون المآتم والأفراح، يتبادلون الآراء، ويحددون سعر المانجو. ولولا وليمة لحم المرفعين لوجدوهم يلعبون الضالة تحت شجرة المانجو الكبيرة، التي يطلقون عليها شجرة الرأي.
لم يذبحوا لهم؛ فالماشية كانت بعيدة، ولكن تجمعت سريعا بعض صواني وقداح الطعام من الحلة، أتى بها الصبية الشباب أو الأطفال، بالإضافة إلى شواء لحم وشحم المرفعين اللذيذين، كان غداء مقبولا وكريما على أية حال.
تحدث أكبر الأعراب سنا، كان حكيما ومرحا في ذات الوقت، تحدث عن أخلاق أهل خربتي، وعن مواقف لهم مشهودة في الملمات والمصاب، وقصد العفو عن قاتل أحد أبنائهم من بني حسن في شجار حول المرعى، وقصد الذرة التي أعانوهم بها في سنة الجفاف، التي هم أنفسهم كانوا في أشد الحاجة إليها، وقال إنهم يطمعون في أكثر من الجيرة المؤقتة والعلاقات العابرة، ثم أفصح بأنهم ونسبة لشح المراعي وفترات الجفاف المتتالية، وخاصة جفاف 83-84-85 الرهيب، الذي فقدوا فيه 90٪ من حيواناتهم، بدأت حياتهم تختلف قليلا، ويؤدون ممارسة الزراعة بصورة محدودة على الأقل بالطريقة التي تؤمن غذائهم وتوفر أقصابها بعض علف الماشية في الصيف، ويتعلم أبناؤهم مهارة أخرى تعينهم على الحياة؛ أي إنهم يريدون استقطاع جزء من الأراضي الزراعية الخصبة الخاصة بخربتي، لزراعة الذرة، ولم يطلبوا مساحة كبيرة، بل ما طلبوه كان أقل من ألف فدان لا أكثر، وهي تقع في المناطق الأقل خصوبة، وقاموا بتحديدها بالشجرة والخور والمفازة.
Halaman tidak diketahui