انتظرت يوما، ويوما آخر، ولم يخبرها سيدها بأنها حرة، إلى أن طلب منها فجأة ذات عصر، أن تترك ما بين يديها، وتختفي بأسرع ما يمكن في أعشاب القاش، وألا تعود، إلا في المساء، عندما سألته لم، قال لها: الإنجليز يريدون أخذها وبيعها إلى الأتراك، والذين سوف يقومون بقتلها وإطعامها لكلابهم. كانت تعلم أنه كاذب، وكانت تعرف أن المفتش الإنجليزي يقوم بمداهمة البيوت التي تحتفظ بالرق ولم تنفذ القرارات الحكومية، وجدت بين أشجار نهر القاش الكثيفة يختبئ المئات من الرقيق، وكثير منهم كان يظن أن الإنجليز ينوون بهم شرا، بل بعضهم كان يطلق مقولة قالها لهم السيد: عبد بسيده خير من حر مجهجه.
وكانوا يخافون من أن يجهجههم الإنجليز، فماذا سوف يفعلون بحريتهم، من أين يأكلون، ويشربون، بل أين ينامون بالليل وهم لا يمتلكون أرضا ولا بيتا ولا وظيفة، ولا عملا؟ سيكونون صيدا سهلا للذئاب والثعابين والجوع والمرض. ولقد حلف كثير من الأسياد لمملوكيهم أنهم سوف لا يقبلون بهم إذا تحرروا الآن، ثم خرج الإنجليز كما خرج من قبلهم الأتراك الذين هم أقوى من الإنجليز، وذكروهم بكيف أعاد المهدي - رضي الله عنه وأرضاه - العبيد الذين حررتهم التركية إلى أسيادهم مرة أخرى، بعد أن هزم بسيفه الترك الكفار، وكيف أن بعض الأسياد من الغضب قام بقتل كل عبيده العائدين بحرقهم أحياء بالنار. وأكدوا لهم أن سيدنا المهدي عائد عائد، وهو لم يمت إنما يذهب ليقضي وطرا في مكة ويعود مرة أخرى بجيش من الملائكة.
قلة قليلة من الرقيق كانت تعي معنى الحرية، والتومة واحدة منهم، كانت تقول لهم إنها تفضل الجحيم من هؤلاء السادة الأشرار، بالنسبة لها الإنجليز أفضل من المهدية، والخواجة كتشنز خير من المهدي وخليفته. التومة هي أول من اتخذت قرارا بتسليم نفسها للإنجليز، وخرجت من عشيبات العدار الغزير. أحست بنسمة رقيقة من الهواء تمسح وجهها، شهقت هواء تحس به لأول مرة في حياتها نقيا، كانت تسير نحو عمق المدينة خفيفة كالريشة، ثم فجأة أحست بنفسها تجري، تجري بكل ما أوتيت من قوة وسرعة، كان الناس يشاهدونها في الشارع تمر مثل الطلقة، مرت بسادة كثر، لم تترك لهم الطريق، بل شقتهم شقا. مرت بعبيد يعملون، لم تهتم بشأنهم، مرت بإنجليز يتمشون وأسرهم لم تعرهم اهتماما، مرت بهنود يجرون عربة عليها إنجليزي عجوز، مرت بأناس شتى، بدو، تجار، بقايا جهادية منكسرين، عبرتهم إلى المديرية، وقفت أمام أول رجل أبيض تقابله، قالت له من بين أنفاسها المتلاحقة: أنا حرة.
في ذلك اليوم أخرج الإنجليز من بين قصب العدار الذي ينمو في مجرى نهر القاش الموسمي والأحراش التي تحيط به، ما لا يقل عن ألف رجل وامرأة ومئات الأطفال، وقالوا لهم: أنتم أحرار، بكى كثير منهم من الفرح، وبكى الآخرون من الخوف على مستقبل حريتهم المجهجهة. وأصبح الخوف جديا وماثلا، خاصة بعد مذكرة السادة على الميرغني، الشريف يوسف الهندي وعبد الرحمن المهدي في 6 مارس 1925 إلى مدير المخابرات الإنجليزي التي طلبوا فيها من الحكومة الإنجليزية، إعادة النظر في الحرية الموهوبة للرق في السودان، بل استثناء الرقيق السوداني بالذات من الحرية التي كفلتها لهم المواثيق الدولية، وتركهم عبيدا إلى أبد الآبدين؛ لأن ذلك أجدى لهم وأنفع. وقد روج النخاسون والمالكون للرق دعاية مفادها أن الحكومة البريطانية قد استجابت لهؤلاء القادة الدينيين، وقريبا جدا سوف يعاد إليهم عبيدهم؛ مما جعل أسرا كثيرة وأفرادا من المعتوقين يهربون إلى إثيوبيا.
رجل اسمه فرج الله ود ملينة، كان مملوكا للحكومة كجندي جهادية، ويبدو أنه كان يفكر في مستقبله كثيرا؛ لذا، منذ خمسة عشر عاما، كان يستقطع أو بالأحرى يسرق من المال الذي يجبيه من التجار والمزارعين كزكاة أو عشور، ورشاوى للأمراء، ويدفنه في مغارة بجبل توتيل؛ فهو الآن يمتلك ثروة من الذهب والريالات الفضية، بالقدر الذي يضعه في مصاف أثرياء المدينة، اشترى بعد التحرير الأبقار والماعز، وبيتا كبيرا، به غرف متسعة مبنية بالطين اللبن ومعروشة بسوق الدوم والنخيل، تماما كما يفعل أسياده في الماضي. وإذا كان الرق مباحا، لسعى فرخان أو ثلاثة لخدمته، ولاتخذ لنفسه من السرايا كثيرات. فلقد كان رقيقا مميزا جدا؛ فهو مملوك للدولة، ولديه رتبة عسكرية، وسلطة مطلقة في البطش، فبسقوط الدولة المهدية التي كان مملوكا لها فقد تحرر، فلولا أن حرمت السلطة الجديدة الرق، لما فكر أن يكون شيئا آخر غير تاجر رقيق.
أعجب هذا الجهايدي المعاشي بالتومة وجمالها، وكان يرغب فيها بالماضي ولم يكن باستطاعته منافسة السادة. تقدم الآن إليها، بسنة الله ورسوله؛ أي يتزوجها كما يتزوج الذين كانوا أسيادهم، وراقت لها الفكرة، زميلاتها في العبودية قمن بتجهيزها، فلقد كانت توكل إليهن هذه المهام في الماضي، فصارت مثل الأميرة حسنا ورقة وإشراقا، وتطيبت بأحسن العطر، وهو الشيء الذي كان محرما عليهن في زمن الرق والعبودية، ألبست الذهب والفضة والثوب الزراق والفوطة الهندية، ولأول مرة ترتدي حذاء جديدا وقرقابا من الحرير، وكانت حديث المدينة، حيث يعلق الناس في حسد قائلين: لقوها الخدم والعبيد.
لم يكن الناس معترفين بالحرية التي أعطاها الإنجليز لهؤلاء العبيد، وكانوا يعتبرونها عارضة، وغير شرعية؛ لأن في رأيهم أن الإسلام نفسه لم يحرم الرق والاتجار به واتخاذ السرايا، سارت على نهجه المهدية المباركة، وقبلها السلطنة الزرقاء، التي امتلك فيها حتى أولياء الله الصالحين مئات العبيد، فكيف يحرم الإنجليز الكفار ما أحله الله على عباده؟ بل ماذا سوف يفعل الرقيق الأحرار بحريتهم، لنرى إذن.
بمرور الزمن تطور مفهوم العبودية بأن يظل العبد عبدا ما عاش، حرره الإنجليز أم أعتقه سيده. بل يرث الأبناء تلك الصفة، وذهب لأبعد من ذلك، فبعض السادة القدامى ضربوا ما كان رقا لهم بالعصي، محاولين إعادتهم إلى بيت الطاعة، وهنالك من السراري من فضلن البقاء في رفقة أزواجهن بشرعية ما ملكت الأيمان، وذلك طوعا، ولكن الأسوأ هو أن السادة قد أصابتهم حالة سعر نتيجة لجنون الفقد والحرمان، فأصبحوا يطلقون على كل شخص شابه في لونه أو هيئته ما كانوا يمتلكونه من رق، العبد؛ وهذا ما جعل رجلا من الجنوب، كان يعمل في المديرية كاتبا، أن يقتل رجلين بسلاح شخصي؛ لأن أحدهما ناداه بالفرخ، واستطاع أن يهرب ويختفي في الغابة المجاورة، وظل يطلق النار على كل من يقترب من غابته. ولأن الإنجليز كان يعجبهم هذا التصرف، فإنهم لم يرسلوا جنودا للقبض عليه لمحاكمته بجريمة القتل التي ارتكبها، كانوا يريدون أن يلقنوا الناس درسا، ويجعلوهم يفهمون أن ذلك العصر الذي يقسم الناس لعبيد وأسياد، قد ولى، وعلى الناس أن تفهم متطلبات العصر الجديد وأن تتعايش معه.
أنجبت التومة، في أكتوبر 1933 بنتا جميلة في بشرة جدها البدوي السيد وقوام أبيها، وبها ملامح ملكة نوبية عظيمة، سماها أبوها فرج الله على أمه التاية، في مارس 1956 تزوجت التاية من رجل اسمه خضر إبراهيم خضر، يطعن الناس في نسبه، يظنون أنه من السودانيين على الرغم من بشرته الصفراء. في أكتوبر 1963، أنجبت له ولدا أسماه إبراهيم على أبيه، وبعد عشر سنوات أخرى أنجبت له بنتا سماها أمل، وأمل هي البنت التي عندما تم صيد إبراهيم خضر عند مدخل مدينة الخرطوم في نقطة التفتيش بسوبا لأداء الخدمة الإلزامية، كانت في صحبته بالباص، وكان على إبراهيم توصيلها للجامعة وتيسير أمر إقامتها.
أخذ إبراهيم خضر يعي حقيقة وضعه الاجتماعي متأخرا جدا؛ لأن والديه كانا يصران على قطع أية صلة بينه وبين أقاربه وجدوده وجداته، الذين ما زالوا محتفظين بكثير من سمات قبائلهم التي أتوا منها من شتى أنحاء السودان، مجلوبين من قوافل الرقيق، وهي أسر شهيرة ومعروفة في كل أنحاء مدينة كسلا، بل إن والده كان يصر على أن يطلق كلمة عبد على كل شخص له بشرة سوداء داكنة، أو ملامح موغلة في أفريقيتها، ويحكي قصصا أسطورية عن أصوله البدوية وما كانوا يمتلكونه من رقيق، عن قوافل جده التي تجوب الأحراش في صيد الرجال والأطفال والنساء. لم يبق كثيرا إبراهيم خضر بهذا الوعي الزائف، لقد نضج وبصورة جيدة، لم يخجل من أصوله التي عيره بها الكثيرون، وقصتها له الجدة التومة ذاتها، وقالت له: إن أباه موهوم؛ فقد أخذ يبحث بصورة جادة عن أصول جداته المسبيات والمباعات في أسواق الرق مسترشدا بخارطة طريق جدته التومة، وظل لفترة طويلة خاصة أيام دراسته الجامعية بكلية الآداب جامعة الخرطوم، ينقب في دار الوثائق القومية والمجلات الدورية الرصينة مثل مجلة
Halaman tidak diketahui