ومن هذه الضواحي الجميلة موقع اسمه كلوندارف ذهبت إليه مع غيري من السائحين، وهو موقع معركة حربية انتصر فيها أهل أرلاندا على الدنماركيين في العصور الأولى وطردوهم من البلاد، وهنالك قصور وحوانيت وحمامات بحرية يأتيها عدد كبير من الناس في فصل الصيف وتقصدها جماعات الناس من دبلن في أكثر الأحيان.
ولكن الذي ذكرناه لا يعد شيئا عند بحيرات كيلارني الذائعة الصيت في الآفاق وهي من المشاهد المعدودة في أوروبا، تبعد عن دبلن مسيرة 4 ساعات في القطار وهو يخترق سهولا فسيحة تزرع فيها البطاطس التي يعول الأرلانديون عليها في الغذاء حتى إنهم إذا أمحل موسمها أصابت بلادهم مجاعة، وبنيت في هذه السهول جذور يقطعها الأهالي ويجففونها ويستعملونها وقودا، وهي كثيرة المراعي للماشية تحدها صخور الجبال الزرقاء اللون، وفي بعض نواحيها حراج الصنوبر وغيره، وظللنا في القطار حتى وصلنا جهة هي ملك اللورد كيلدر أكبر أصحاب الأرض والمالكين في هذه الجهة، له نصف القضاء برمته والنصف الآخر لثلاثة من الموسرين الإنكليز ما عدا قليلا منه للأهالي، ونزلنا في فندق بتلك الجهة فوزع علينا بيان السياحة في البحيرات مطبوعا، وسرنا ذلك النهار مع جماعة كبيرة تقصد البحيرات في عربات كبيرة تنقل الواحدة منها 12 راكبا، وتسير ساعتين بين الجبال والآكام وكان المطر يهطل يومئذ مدرارا ورفاقي من السياح لا يعبئون به ولا يبالون حتى إذا انحبس المطر جعل صبية من أولاد القرى يجرون وراء عرباتنا ويبيعون للسائحين أمتعة وجوارب من الصوف يعملونها بأيديهم، وبعد مسير ساعتين في هذه العربة تركناها وركبنا خيلا سارت بنا في واد هائل المنظر كثير الصخور والعقبات لولا أني كنت مع كثيرين مدة سفري فيه لحسبت أني في أرض خلت من الآدميين، ثم مررنا بأراضي بعض المالكين الكبار، وقد فرضوا رسما على كل عابر طريق يمر في أرضهم - قيل إنه يعطى للخادمين - حتى وصلنا ضفة البحيرات، وجاءنا الزاد من الفندق، لكل زاده في سلة صغيرة عليها نمرة الغرفة المخصصة له، فجلسنا نأكل والماء من حولنا وقد لذ الطعام وحلت مناظر البحيرات أمامنا، وهي ثلاثة: اسم الأولى منها البحيرة العليا وطولها 5 أميال وفي وسطها صخر علوه 1000 قدم اسمه صخر النسر؛ لأن النسور تعيش فيه، وقد رأيت عددا كبيرا منها تحوم فوق البحيرة، وقد درت فيها مع غيري من السائحين في أحد القوارب. وأما البحيرة الثانية فطولها ميلان وتدعى الوسطى سرنا فيها مع التيار من غير مقذاف ثم دخلنا في البحيرة الثالثة أو السفلى، وهي أجمل الثلاثة طولها 5 أميال وعرضها 3، فيها 21 جزيرة وصخور متناثرة هنا وهنا في البحيرة ومنظرها جميل، ولطالما تغنى الأهالي بمدح هذه البحيرات ونظموا القصائد في وصفها، يغنيها الأرلانديون في مجتمعاتهم إلى اليوم. ويفصل بين هذه البحيرات شلال تهبطه الزوارق ويرتجف من هبوطها بعض السائحين، فأثر فينا ذلك السفر البديع، ولا سيما حين اجتاز زورقنا الشلال ودخل البحيرة السفلى، وهي أجمل أخواتها وأوسعهن مجالا، ولها منظر مفرط الجمال. ولما وصلت كل الزوارق منتهى البحيرات من ناحية داخلية البلاد رأينا العربات تنتظرنا على الشاطئ؛ فركبناها وعدنا إلى الفندق في تلك العربات، وقد رأيت أثناء سفري هذا ابن اللورد كيلدر الذي ذكرناه، كانت امرأة فقيرة الحال ترجوه أن يأمر وكيله بالرفق بها وتتوسل شاكية، وهو لا يرد عليها حتى قام القطار وغاب اللورد عن نظرها، وبعد سفر أربع ساعات فيه وصلنا دبلن، ومن ذلك الحين عزمت على السفر إلى لفربول التي ترى الكلام عنها فيما يلي.
لفربول
إن المسافة في البحر ما بين دبلن ولفربول 12 ساعة، اجتزناها في يوم راقت سماؤه وصفا هواؤه، فلما دخلت الباخرة نهر مرزي الذي بنيت عليه هذه المدينة رأيت من ضجة الخلق الكثير المزدحم فوق رصيف الميناء وحركة البواخر الذاهبة والقادمة ما يعجز القلم عن وصفه؛ لأن هذه المدينة من أهم مراكز التجارة في الأرض برمتها يقوم منها كل ثلاث ساعات باخرة كبرى إلى بعيد الأقطار، ومن هذه البواخر 1500 تذهب إلى شطوط أميركا ويأتي مينها الكثيرة أكثر من عشرين ألف سفينة في كل عام تنقل إليها حاصلات الأرض، وتأخذ منها الأبضعة الإنكليزية التي اشتهرت هذه المدينة العظيمة بتوريدها، حتى إنه لا يخلو بلد صغير في أطراف الشرق والغرب من أثر لمدينة لفربول.
ولقد وصفت كثيرا من مدائن بريطانيا العظمى وأرلاندا فلست أرى موجبا للإسهاب في ذكر بقية المدن الآتي ذكرها؛ لأن أكثر ما فيها متقارب في نوعه لا يخرج كثيرا عن وصف الذي تقدم إيراده عن مشاهد إنكلترا وعواصم الممالك الأوروبية الأخرى، غير أني أقول هنا موجزا إن لفربول كانت مدينة صغيرة لا تذكر وما عظمت إلا من عهد قريب؛ فقد ورد في التاريخ أنها كانت قرية لبعض صيادي السمك في أيام الملك تشارلس الأول، وكانت ضريبة الدولة على أهلها 15 جنيها في كل عام، وهم يعدونها ثقيلة رابية يريدون خفضها، حتى إنهم لما رفع الملك مقدارها في سنة 1572 وجعلها 25 جنيها، ثاروا على حكومته ونادوا بالانضمام إلى الحزب الذي رأسه كرومويل، وكانت شكواهم من أسباب الحرب التي انتهت بخذلان الملك وإعدامه، ولكن هذه المدينة كبرت ونمت بعد تلك الأيام فمنحها الملك وليم الثالث سنة 1723 لقب مدينة، وبدأ أهلها من ذلك الحين يتجرون ويرسلون أبضعة ومصنوعات حديدية إلى أراضي أفريقيا الشرقية في سفن شراعية جعلت تعود من تلك الأراضي محملة عبيدا، وراجت تجارة العبيد عندهم زمانا؛ لأنهم كانوا يرسلونهم إلى جزائر الهند الغربية ويسخرونهم في الزرع وبقية الأعمال، فلما بطلت النخاسة من كل الممالك الإنكليزية في سنة 1806، تحولت الأذهان إلى الاتجار والمصنوعات والبضائع ونقل حاصلات الممالك الأخرى إلى إنكلترا عن طريق لفربول، وكان هذا كله يتم في سفن الهواء فلما صنعت البواخر وجرت فوق نهر مرزي تجاه لفربول كبرت أهمية المدينة وتيسرت أحوالها وزادت حركة التجارة فيها، حتى إنه بعد أن كان الناس يعبرون البحر ما بين لفربول هذه ونيويورك في سفن البخار في 26 يوما كما فعل أحد الأميركيين سنة 1815 في زورق بخاري أصبح المسير الآن هينا، والمسافة تقطع في خمسة أيام وبعض الساعات. وشركات البواخر كثيرة، منها شركة كيونارد وشركة النجم الأبيض وغيرها من الشركات التي تبني البواخر الكبرى منها وتنقل في السنة ألوفا من بعيد الأقطار وإليها.
ولفربول الآن ثانية المدائن الإنكليزية في العظمة بعد لندن لا يقل سكانها مع الضواحي عن مليون نفس بنيت على شاطئ النهر كما تقدم، وهي قريبة من البحر وفيها من محطات سكك الحديد شيء كثير، فالاتصال دائم بينها وبين مدن إنكلترا والأقطار النائية، وقد لا يقل عدد القطر التي تقوم منها في اليوم الواحد عن ألف، ومن هذا تعلم مقدار أهميتها وعظيم حركتها التجارية. وأمام لفربول مدن عامرة أهمها نيوبريطن، وهي متنزه لطيف على شاطئ البحر، فيه مرابض ورمال شهية ينتابها المتنزهون، وفيها ألاعيب وحانات وهواؤها جميل. ومنها بركنهد، وهي مدينة كبيرة سكانها مائة ألف تعد ساعد لفربول وعضدها في الأعمال التجارية، والاتصال بين هذه الجهات والمدينة تام لا ينقطع، فإن في لفربول شركات لبواخر خاصة بنقل الناس بين الضفتين كثيرة الجمال تقوم منها كل نصف ساعة، وهي أبدا ملأى بالمتنقلين؛ لأن عددا كبيرا من سكان لفربول يسكن في هاتين المدينتين، والذي يزور أرصفة المينا - حيث تقوم هذه البواخر - يرى المهابة والعظمة؛ لأن أرصفة لفربول أكبر ما في الأرض من نوعها وأعظمها، وهي كثيرة العدد بعضها للجهات القريبة وبعضها لبواخر الشركات الكبرى، فلا يقل عدد الأحواض التي ترسو فيها عن 26 حوضا وطول المينا من طرف إلى طرف ثمانية أميال، بنوا فوقها الأرصفة للسفن العظيمة كما قلنا، ومهدوا بها الطرق الفسيحة وإلى جانبها طريق فسيح للعربات والمارة تليه البيوت والمخازن والحانات العديدة، وهي تشرف منافذها وكواها على تلك الحياض والمرافئ ويرى الناس منها أعظم مشاهد الحركة التجارية في الأرض، ولم يكف كل هذا لتسهيل النقل والانتقال حتى إن القوم بنوا سكة حديدية فوق قناطر من الحديد تمر من تحتها العواجل والحوافل وعربات النقل على أشكالها، ومن فوق القناطر أرتال تقوم بالراكبين وتسير بالقوة الكهربائية، أتموا بناءها سنة 1902 واحتفلوا بافتتاحها احتفالا عظيما، وهي مرتفعة 16 قدما فوق سطح الأرض، ومنظرها في غاية الجمال، ومنظر المينا والمدينة منها يستحق الذكر والإعجاب، وهذا كله لم يكف أيضا للحركة الكبرى في لفربول حتى إنهم حفروا نفقا تحت النهر ومدوا فيه سكة الحديد تنقل الأرتال وما فيها بين ضفتي نهر مرزي، وهم ينزلون هذا النفق بالآلات الرافعة والخافضة أو على سلم كثير الدرجات، فإذا وصل المرء المحطة تحت الأرض رأى نفسه في مثابة تنيرها الكهربائية ويأتيها الهواء النقي بمراوح يديرها البخار، وفيها الخلق والمناظر البهية والأرتال تسير تحت مجرى النهر إلى الجهة الأخرى مسافة ألفي متر تظهر فيها غرائب الصناعة الحديثة واقتدار جماعة المتمدنين.
ومشاهد لفربول كثيرة، منها البورصة تلي المينا ولها شهرة ذائعة في الخافقين، منها بورصة الأقطان، وبورصة الحبوب وأعمالها تفوق الحصر حتى إن المشتغلين بها لا يلقون وقتا لمناولة الطعام على مهل، فهم يتغذون في مطاعم قريبة منها ويقرءون الصحف التجارية والنشرات، في حين هم يأكلون ويشربون حتى لا يضيع عليهم شيء من الوقت الثمين، ويمكن الوصول من هذه البورصة إلى ميدان القديس جورجيوس في شوارع بهية غنية، أهمها اسمه لورد ستريت، ويليه تشرتش ستريت وغيرهما حتى إذا وصل المرء هذا الميدان رأى من عظمة المدينة ما يؤثر في النفس، ولا سيما تلك القاعة الكبرى في البناء الفخيم المعد للولائم الرسمية، وفيه دار المحافظة والمجلس البلدي إلى جانبه من الحدائق والكنائس والمكاتب العمومية والشوارع ما يضيق المقام عن عده، وقد صرفوا على هذا البناء العظيم نحو أربعمائة ألف جنيه، وأحاطوه بالحدائق اللطيفة وتماثيل العظام، منهم الملكة فكتوريا وزوجها في بدء الاقتران وهما على الجياد، وهنالك تمثال غلادستون الوزير المشهور والجنرال أرل الذي كان من قواد حملة السودان سنة 1885، وقتل في معركة كربكان، والرجلان ولدا في هذه المدينة، وما زال البيت الذي ولد فيه غلادستون باقيا على حاله يذكر الناس بفعال هذا الرجل العظيم.
مانشستر
ضربت صفحا عن ذكر كثير من المعامل والأشياء المهمة في لفربول، وأنا سأفعل ذلك في مانشستر التي ذاع صيتها في الخافقين بمصنوعاتها والأقمشة القطنية التي تنسج في معاملها العظيمة، فهي أشهر مواضع النسج في الأرض بلا مراء، ليس في الأقطار كلها بلدة حقيرة تخلو من بعض ما نسج في هذه المعامل الكبرى التي اشتهرت بها مانشستر ولفربول حتى صار ذكرهما مرادفا لذكر الشيت والخام وكل نسج من القطن، والحق يقال إن أهم ما في مدينة مانشستر هذه معاملها العظيمة، وأماكن التجارة الكثيرة فيها، وهي لا تمتاز بجمال في المنظر والأبنية، ولو أنها من أشهر مدن الأرض طرا فإن أحسن بناء فيها للمجلس البلدي ويعرف باسم مار جورجيوس أيضا، ومن أشهر مواضعها البورصة الجديدة، دخلتها مع أحد المعارف فأذهلني اتساعها وزخارفها وعلو سقفها، وهي قليل نظيرها في كل مدن أوروبا ومحطات سكك الحديد التي يقوم منها عدد يماثل القطرات التي تقوم من لفربول والترعة التي حفروها بين مانشستر ولفربول، وأنفقوا عليها الملايين حتى ترد إليهم البضاعة رأسا من البحار بدل أن تفرغ في لفربول وتنقل منها إلى معاملهم. وقد اشتهرت هذه الترعة بكثرة ما أنفق عليها وقلة إيرادها وجمال البواخر التي تجري فيها، وهي لا تزيد في الطول عن 36 ميلا وعرضها 120 قدما والعمق 26، وهنالك أبنية ضخمة هي وكالات ومكاتب قد لا يقل عدد المكاتب في بعضها عن ألف، وأما عن العربات والحركة وقتام المعامل فلا تسل، فإن ظاهر المدينة كله أسود من كثرة الدخان والجبلة في بعض أنحائها لا تطاق، والسكن غير ذي لذة إلا لأصحاب المكاتب والأعمال، وهي مع كل هذا تكسو الأرض بمنسوجاتها ولا تفوقها في الشهرة مدينة قديمة أو حديثة، وهي تعد بثمانمائة ألف نفس.
بريطن
Halaman tidak diketahui