مكان بهي بديع تشرح آياته الصدر ويشعر المرء فيه براحة البال وتعاون الطبيعة والصناعة على إبراز الجمال بأحلى الأشكال، يمكن الوصول إلى هذه الجهة بسكة الحديد أو بالعربات تجرها الخيل أو بحافلات الأوتوموبيل أو بغير ذلك من وسائل النقل، وقد قصدتها بعربة تجرها أربعة جياد وتسير العربة ساعة من الزمان في طريق مستقيم ليس به اعوجاج ولا انحناء ولا تعريج إلى الشمال أو إلى اليمين، بنيت رتشمند على ضفة نهر التمز الذي يخترق مدينة لندن ويشطرها شطرين، ففيها القوارب الحسناء يركبها من شاء التنقل فوق ماء البحر، وإلى مقربة منه حديقة رتشمند المشهورة، وهي مجموع حرجات وجنات وغابات تمر بها الناس فوق الجياد أو في مركباتها متلذذة بالهواء النقي، ومساحة هذه الحديقة 2225 فدانا، كانت فيما سبق من أملاك ملوك إنكلترا، فتنازلت الملكة فكتوريا عنها في أوائل حكمها وجعلتها من أملاك الأمة حتى تكون مثابة الجمهور كما هي الآن.
حديقة كيو:
وهذه أيضا من بدائع الضواحي الإنكليزية ومثابات أهل الترف والبطالة، يمكن الوصول إليها من حديقة رتشمند التي ذكرناها، والمسافة بينهما طويلة، ولكن السائر في هذا الطريق يرى قسما كبيرا من أطراف مدينة لندن، وهم يعنون بإنبات الأعشاب والنباتات الغريبة في هذا الموضع، فيضعون بعضه داخل بيوت من الزجاج وقد يوقدون النار من تحت جذوره؛ لأنه منقول عن بلاد حارة فلا ينمو إلا بمثل هذا التدبير، أذكر أني لقيت مدير هذه الحديقة ساعة زيارتي، وأنه رافقني وأرشدني بنفسه إلى كثير مما تحلو مشاهدته، وأظهر لطفا عظيما، وأذكر أيضا أني رأيت في هذه الجهة لأول وهلة إحدى بنات الإنكليز تشتغل بعزق الأرض والزراعة وهي بنظيف الملابس، وفي رجليها حذاء وفي يديها قفاز أو كفوف تقيهما المضار، وقد رأيت أشجار النخل هنا داخل محل علوه 70 قدما وحرارته لا تقل عن درجة 80 على مدار السنة، وهو منظر غريب لا نظير له في بلاد الإنكليز، وفي وسط الحديقة طريق عريض جميل إلى جانبيه صفوف الزهر والعشب يمتد منها إلى ضفة التمز، وفيها كل ما تطلب النفس من لوازم الطعام والشراب، فزيارتها عائدة بالمسرة والقوم الذين ينتابونها جمهور كبير.
اليوبيل
ولدت جلالة الملكة فكتوريا في الرابع والعشرين من مايو سنة 1819، وهي ابنة الديوك أوف كنت ابن الملك جورج الرابع، وأمها ألمانية من آل كوبرج، وربيت هذه الملكة في مهد الفضيلة حتى إذا توفي عمها سنة 1837 ورثت الملك عنه بحسب نظام المملكة الإنكليزية، وأظهرت من ساعة تتويجها رقة وشعورا بالواجب جذب قلوب الناس إليها وجعلهم يجلون مقامها ويحبونها حبا مفرطا، واقترنت سنة 1840 بابن عمها البرنس ألبرت أمير كوبرج وغوتا، وكان الرجل من أنجب أهل زمانه وأعقلهم وأبرعهم، طالما قام مقام الملكة في المحافل وأرشدها في المهمات، وقد حدثت في أيامها حوادث كثيرة أشرنا إلى بعضها في الخلاصة التاريخية من هذا الفصل. وتقدمت الأمة الإنكليزية تقدما لم يسبق له نظير في أيام هذه الملكة العظيمة التي اشتهرت بالفضائل ولم تغضب شعبها مرة واحدة مدة حكمها الطويل، ولما بلغت الخمسين من حكمها احتفل الإنكليز بذلك العيد احتفالا عظيما دعوا إليه ملوك الأرض وأمراءها، ولكنهم عادوا إلى احتفال أعظم منه سنة 1897 حين تم على الملكة ستون عاما وهي فوق العرش، وكان هذا هو اليوبيل الذي نحن في شأنه.
كانت الحكومة الإنكليزية والأمة قد استعدت لذلك الاحتفال الباهر قبل زمانه بمدة طويلة، وظلت الجرائد أشهرا وأعواما تكتب عنه وتقدم الآراء في وجوه إظهاره، وجمع الأفراد والجماعات في المملكة الإنكليزية والمستعمرات مبالغ طائلة؛ لتنفق على الزخارف والزينات في يوم الاحتفال؛ ولتقدم بها الهدايا لجلالة الملكة أو لتنشأ المدارس والآثار الدالة على ذلك العيد العظيم الذي لم يدون له التاريخ مثيلا، فإنه لم يملك في الأرض ملك أو ملكة 60 عاما على سلطنة لا تغيب الشمس عنها مثل سلطنة الإنكليز إلا اثنان، هما لويس الرابع عشر ملك فرنسا وجورج الرابع ملك إنكلترا، وكلاهما لم يكونا على تمام القوى العقلية مدة حكمهما الطويل، وأرسلت حكومة إنكلترا في أوائل سنة 1897 كتبا إلى ملوك الأرض وأمرائها ووزرائها تعلنهم أن الاحتفال العظيم بمرور ستين عاما على حكم الملكة فكتوريا يتم يوم 22 يونيو من تلك السنة، فانتدبت كل دولة وفدا من عظمائها يحضر ذلك الاحتفال بالنيابة عنها، وكان رئيس الوفد في أكثر الأحيان من أمراء الدولة المالكة أو ولي عهدها أو أقدم وزرائها، وبعض الملوك ذهبوا بأنفسهم مثل ملك البلجيك وملك سكسونيا وملك اليونان وملك الدنمارك وغيرهم، وأرسلت الوزارة الإنكليزية إلى سلطنة الهند والمستعمرات تدعوها لحضور هذا الاحتفال فجاء من كل مستعمرة وزيرها الأول مع قرينته، واستأجرت لهم الحكومة فندق سسل من أشهر فنادق لندن في شارع ستراند فأقاموا فيه مدة الاحتفال ضيوف دولتهم، وكذلك جاء من كل مستعمرة نفر من الجند فكنت ترى العساكر الأوسترالية والكندية والقبرسية والهندية والصينية والملقية والمالطية والأفريقية على أشكالها وأنواعا من الجند، والناس أتت من مشارق الأرض ومغاربها، حيث يخفق العلم الإنكليزي الذي تظلل بظله في أيام الملكة فكتوريا نحو خمس البشر جميعهم، وهو عدد لم يحكم مثله واحد من بني آدم قبلها، وكان منظر هؤلاء الأقوام المختلفة ومنظر ضباط الجيش الهندي بملابسهم المزوقة وعمائمهم المزخرفة يستحق الذكر والإعجاب ، ويشير إشارة واضحة إلى اتساع السلطنة الإنكليزية وقوتها الهائلة، ودعي إلى هذا الاحتفال أيضا قواد الأساطيل الإنكليزية والجيوش البرية وأعضاء البارلمنت ومجالس الشورى والبلدية والوزراء السابقون وكل ذي حيثية ومقام، فكان في ذلك المشهد العظيم من أمراء الأرض وملوكها وقوادها ووزرائها وأصحاب المقام الخطير فيها ما لم يتفق اجتماعه في نقطة واحدة من عهد تأسيس الحضارة الحديثة، ولا غرو إذا قيل إن اليوبيل كان من أعظم أعياد المتمدنين.
وأما عن استعداد الأهالي والزينات الباهرة في كل جوانب لندن وفي الشوارع التي تقرر أن يمر بها الموكب العظيم في ذلك اليوم المشهود فحدث ولا تسل؛ لأن حلقات الزهر والأعمدة والقبات والمصابيح والكرات والرايات وأشكال الزينة الأخرى كانت متواصلة متوالية من قصر بكنهام الذي خرجت منه الملكة وبقية الكبراء إلى كنيسة مار بولس التي أقيم فيها الاحتفال الديني، ومن هذه الكنيسة إلى القصر في شوارع غير التي قدم الموكب منها، وقد استغرق مسير الموكب ذهابا وإيابا 4 ساعات ونصف ساعة، ومر في شوارع طولها ثمانية أميال حتى يتمكن الناس من رؤية ملكتهم ومشهدها الباهر في ذلك اليوم من عدة أماكن، وكان الناس قد استأجروا كل شرفة أو كوة أو نافذة يمكن لهم أن يقعدوا فيها ساعة مرور الموكب حتى إن أجرة الشباك في تلك الشوارع بلغت مبلغا كبيرا، وهدمت مواضع قديمة بني موضعها مقاعد من الخشب صفوفا فوق صفوف، فما بقي رصيف ولا سطح ولا مكان حتى احتشد فيه المئات والألوف، وخيل للناظرين في ذلك اليوم الغريب أن شوارع لندن وأرصفتها وأبنيتها انقلبت إلى مراسح فيها صفوف الجالسين بعضهم يلي بعضا، أولهم في الأرض وآخرهم في أعلى السطوح، والكل بأجمل هندام مع أولادهم وأصحابهم فرحين بذلك العيد الذي طبقت الآفاق بذكره مدة الأعوام الماضية، وقد تحلوا رجالا ونساء بألوان الراية البريطانية، وهي الأحمر والأبيض والأزرق، بعضهم لبسوها أزرارا في الرداء أو رباطا للعنق أو زينة لملابس الرأس، أو بطرق أخرى تظهر وطنيتهم وفرحهم الكثير. وتخلل صفوف الناس في كل جانب تلك الرايات المعقودة على أشكال بهية والزينات الباهرة وشعار الدولة الإنكليزية، وقد كتب عليها في معظم الجهات «الله يحرس الملكة» بأحرف مختلفة الأشكال والألوان.
وكان الهواء في ذلك النهار صحوا بديعا يوافق ما تعودته الملكة فكتوريا حين خروجها مدة حكمها الطويل، فإنها لم تخرج لأمر خطير مدة أيامها إلا والهواء معتدل والمطر قليل مع كثرة وقوعه في بلاد الإنكليز حتى صار من مصطلحات القوم أنهم يسمون أوقات الصحو «بهواء الملكة». وابتدأ الموكب العظيم بالخروج من قصر بكنهام الساعة 8 والدقيقة 45 صباحا بين دق الأجراس وقصف المدافع وعزف الآلات الموسيقية وصياح الناس من كل جانب، فكان لذلك الاحتفال تأثير كبير، وكان بدء ذلك الموكب خروج فرق من الشرطة والجند لبست أبهى الملابس المعروف جمالها، وقد تألقت الوسامات الحربية على صدور الرجال ووقفت الجنود في طول الطريق لحراسة أولئك العظام الذين تألف منهم الموكب والمحافظة على النظام بين الذين احتشدوا لمشاهدة ذلك المنظر الغريب، وما كاد النظام يتم والوقت يجيء حتى برزت من داخل القصر البهي فرقة من الحرس الملوكي، وهم جنود تضرب الأمثال بجمال وجوههم وقاماتهم وملابسهم ينتقون من طوال الرجال وأصحاب المناظر البهية، ويلبسون فاخر الثياب من خوذة نحاسية تلمع كالذهب الوهاج فوقها شعار الدولة الإنكليزية وريشة بيضاء وسلسلة تربطها إلى العنق، وكل هذه تسطع وتلمع من دونها سترة حمراء بديعة الجمال مزركشة بالقصب والذهب من أعلاها إلى أسفلها، وبنطلون أبيض متين له حواش من القصب وجزمة صفراء إلى الركبتين، وقفاز أبيض في اليدين، هذا غير ما على الجواد من الأدوات الثمينة، فكان منظر أولئك الجنود مما يشرح الصدور وترتاح إليه النفوس، وتقدم هذه الفرق من الحرس الملوكي ضابط صغير الجسم ضئيل امتطى جوادا أبيض وقد غطي صدر هذا الضابط بأفخر الوسامات، وكان في يده عصا المشيرية وعليه أمارات العظمة مع صغر جسمه، فعرف الناس في الحال أنه بطلهم المغوار والليث الكرار اللورد روبرتس الذي قاد جنود الهند وإنكلترا في مواقع الهند وبرما وأفغانستان والترانسفال، وشاد لدولته صروح الفخار؛ فصاحت تلك الجماهير لرؤيته فرحة مرحبة، ونادت الألسن أن ليعش روبرتس، وكان بعضهم يقول «برافو بوبس» وهو اسم هذا القائد العظيم عند العامة التي تحبه حبا مفرطا، فكان بدء الموكب ببروز هذا القائد العظيم استهلالا بديعا، وتوالت بعد ذلك فرق لا عد لها ولا حصر من فرق الجيش الإنكليزي وجيوش المستعمرات، وكان وراء كل فرقة وزير المستعمرة التي جاءت منها الجنود في عربة خاصة به مع قرينته، وجاءت بعد هذه فرق من بحرية إنكلترا وتلامذة مدارسها البحرية، فكانت تلك الجموع تصيح مرحبة بها صياحا دوت به الآفاق؛ لأن الإنكليز يفخرون بقوتهم في البحار، وهي عنوان ملكهم الوسيع، فما رأى البحرية من إكرام الناس لهم مثل ما رأوا في ذلك اليوم العظيم، ومرت بعد هذا فرق الجيش الهندي فصفق لها الناس كثيرا وبالغوا في إكرامها مبالغة ثم توالت عربات الوفود القادمة من كل مملكة، فكانت الجماهير كلما عرفت أميرا عظيما أو مندوبا ساميا تنادي مرحبة به وتعظم قدره، وقد خصوا بالإكرام الجنرال ميلز قائد جنود الولايات المتحدة ومعتمدها في ذلك الاحتفال، والبرنس هنري البروسي شقيق الإمبراطور ورئيس الوفد الألماني، والغراندوق سرجيوس عم القيصر ورئيس الوفد الروسي، وظل القوم يرحبون بهذه الجماعات.
وقد جاء وراء الوزراء أعضاء مجلس الأعيان ومجلس النواب والمجالس البلدية وحكام الولايات وتلامذة المدارس الحربية والبحرية حتى إذا تعددت الأشكال ومرت فرق العظماء على مثل ما تقدم، برز من وراء الجند أمراء امتطوا صهوات الجياد، وفي جملة هؤلاء الأمراء العظام الغراندوق سرجيوس الروسي عم جلالة القيصر والبرنس هنري الروسي شقيق إمبراطور ألمانيا، والأرشدوق فردناند النائب عن إمبراطور النمسا، وسمو البرنس محمد علي شقيق الجناب الخديوي، وأمير الجبل الأسود، وولي عهد السويد، وولي عهد الدنمارك، وملك سكسونيا، وولي عهد رومانيا ، وكثار غير هؤلاء من أمراء أوروبا وأقيال الهند والممالك الشرقية، وكان من وراء هؤلاء الأمراء عربة الملكة ووراءها ولي العهد البرنس أوف ويلس وأخوه الديوك أوف كونوت وابن عم الملكة الديوك أوف كامبردج، والكل بفاخر اللباس العسكري والوسامات العالية على ظهور الجياد، فكانت جماهير الناس كلما رأت أحد الرجال العظام أو كلما وصلت جلالة الملكة إلى أحد المواضع ترفع أصواتها إلى السماء طربا وترحيبا، وقد تكرر هتاف الناس وتصفيقهم وطارت في الفضاء قبعاتهم ولاحت في الهواء مناديلهم، وظهر لهم من الحماسة والفرح ما لم يرو نظيره عن الإنكليز. وكانت جلالة الملكة في عربة فاخرة يجرها ثمانية من جياد الخيل، وقد قعدت في صدرها وإلى يمينها ابنتها البرنسيس كرستيان، وإلى يسارها ابنتها الأخرى البرنسيس هنري باتنبرج، وسار أمامها في طليعة هذا الموكب العظيم اللورد ولسلي وهو يومئذ القائد العام لجيوش إنكلترا كلها وصاحب النصرات المتوالية في جهات الأرض، ومن أركان الدولة الإنكليزية وأكبر مشيدي صروح العز والمجد لها في أيام هذه الملكة السعيدة.
ويضيق بنا المقام لو وصفنا عشر معشار الذي تلا مركبة الملكة والذي تقدمها أو الذي أتته ملايين الناس في ذلك اليوم المشهود، ولكننا نكتفي بالقول إن هذا الموكب الهائل وصل كنيسة مار بولس، وكان الذين تقدم ذكرهم من وزراء المملكة ونوابها وقوادها ووزراء المستعمرات الإنكليزية وغيرهم قد سبقوا جلالة الملكة إلى تلك الكنيسة حيث أقيمت الصلوات شكرا لله على ما أنعم على الملكة من طول العمر والتوفيق العجيب لها ولمملكتها الزاهرة، وهذه عادة الإنكليز يجعلون مدار كل احتفال كبير على الصلاة. وحضرت تلك الوفود هذه الصلاة فسمعت الألوف تنشد نشيدا خاصا بذلك الاحتفال كتبه أحد أساقفة الإنكليز وحفظه الناس حتى إذا جاءت ساعة إنشاده اشترك الجماهير المحيطون بالكنيسة من كل جانب بترتيله، فكان لذلك وقع غريب وتأثير خارق في جميع النفوس.
Halaman tidak diketahui