هذا، ولا بد للذي يزور بروكسل من التنزه في أطرافها وضواحيها وهي كثيرة العدد وافرة البهاء، متصلة بعضها ببعض من العاصمة إلى جميع أطراف المملكة حتى إن المسافر إذا سار من أول البلجيك إلى آخرها طولا وعرضا لم يسر على قدميه أكثر من نصف ساعة في أرض بلا بناء، فكأن البلاد مدينة واحدة، وهنا الدليل الأظهر على عمران البلاد وتقدمها العظيم وتوفر أسباب العدل والراحة فيها، وأشهر الضواحي لعاصمة البلجيك هي واترلو، حيث حدثت أعظم معارك التاريخ الحديث وأنتجت أعظم النتائج، وكانت بين نابوليون العظيم من جانب وبين جنود الإنكليز وبعض مناصريهم من الجانب الآخر، انتصر فيها الديوك أوف ولنتون القائد الإنكليزي على نابوليون، وأعانه على النصر الجنرال بلوخر البروسي وبعض الجنود الفلمنكية، ولما كانت معركة واترلو - كما قلنا - أعظم معارك الآدميين في التاريخ الحديث، وقد بنيت على نتائجها دول أوروبا الحالية، فلا نرى بدا من شرح يسير عنها إتماما للفائدة فنقول:
كان نابوليون بونابارت - كما يعلم القراء - أكبر قواد زمانه وأوصل فرنسا بحروبه إلى قمة المجد، ولكنه جعل أكثر دول أوروبا من أعدائها ولا سيما دولة الإنكليز التي حاول جهده إرغامها ولم يمكن له ذلك؛ نظرا لقوتها في البحر وتحاربت جنود نابوليون والجنود الإنكليزية مرارا في البر، فكان النصر في أكثر المواقع للإنكليز حتى إذا رأى هذا القائد العظيم ذلك، قصد ملاقاة الديوك أوف ولنتون - وهو أعظم قواد الإنكليز يومئذ - ومحاربته بنفسه، وجعل ذلك في سهول واترلو التي ذكرناها، وكانت إنكلترا قد اتفقت مع البلجيك وبروسيا على أن تعيناها في الحرب لرد غارة نابوليون وإرغامه فاجتمعت العساكر الإنكليزية في تلك السهول يوم 17 يونيو من سنة 1815، وكان معها بعض الجنود البلجيكية، ثم جاءت الجنود الفرنسوية وعسكرت على مقربة منها، وكان يفصل بين الفريقين واد صغير، وفي يوم 18 يونيو بدأ القتال فهجم الجنرال ناي - أحد قواد نابوليون - على صفوف الإنكليز هجوما عنيفا، واخترق من معسكرهم صفوفا، فلما رأى البلجيكيون فعله فروا هاربين وتركوا الإنكليز وحدهم يحاربون الفرنسويين، فثبت الإنكليز على هجمات الفرنسيس، ودارت رحى الحرب من كل جانب، فحصد الرجال من الجانبين ألوفا، وكان كل من نابوليون وولنتون لا يغفل طرفة عين حتى إذا كان آخر النهار؛ وصلت الجنود البروسية التي كانت قادمة لنجدة الإنكليز تحت قيادة الجنرال بلوخر الذي ذكرناه، فدخلت في معامع القتال بلا إمهال، وقضت على آمال الفرنسويين قضاء محتما، وبذلك تم النصر للجانب الإنكليزي في معركة واترلو، وكانت هي أول معركة كبيرة حضرها بونابارت بنفسه وكسر فيها، وأكبر معارك الأوروبيين في العصور الحديثة من حيث شهرة القواد فيها وجسامة نتائجها؛ لأنه لو انتصر بونابارت في تلك المعركة لتغيرت أحوال أوروبا من ذلك اليوم، وكانت بروسيا إلى الآن من الولايات الفرنسوية وإنكلترا دولة صغيرة إذا لم تكن تابعة لفرنسا أيضا، فهي على الأقل بلا أملاك واسعة مثل التي نراها اليوم لهذه الدولة العظيمة.
وكان مع بونابارت في هذه المعركة 71900 جندي منهم 48950 من المشاة و15700 من الفرسان و246 مدفعا، وكان مع الديوك أوف ولنتون القائد الإنكليزي 67600 رجل منهم 49600 مشاة و12400 من الفرسان و150 مدفعا، فلما جاء بلوخر بجنوده البروسيانية بلغت قوة الدول المتحدة ضد نابوليون 75000 رجل و220 مدفعا، وقد قتل في هذه المعركة العظيمة 25000 من جيش فرنسا و13000 من جيش إنكلترا و7000 من جيش بروسيا، واضطر نابوليون بعدها إلى القهقرى والرجوع إلى بلاده، فرأى الهياج كثيرا ورحل عنها إلى إنكلترا حتى سلم نفسه، وتم به الذي تم كما يعلم من تاريخه.
وبعد أن مرت أعوام على هذه المعركة الكبرى اتفقت حكومات إنكلترا وبروسيا والبلجيك على إقامة أثر باق لها في محل حدوثها؛ فأرسل المهندسون وبعض الضباط الذين شهدوا الواقعة إلى قرية واترلو، وعملوا الرسوم اللازمة ثم اتفقت الحكومات الثلاث على أن يبنى تل هرمي الشكل في موضع ترى منه كل جوانب الأرض التي حصل فيها القتال؛ فبنوا ذلك التل من التراب وارتفاعه 45 مترا، وفوق قمته أسد بلجيكي من النحاس والناس يصعدون إليه بسلم عدد درجاته 235 درجة، قصدت واترلو للتفرج على هذه الآثار، فركبت رتل سكة الحديد وسرنا نحو ساعة حتى وصلنا محطة واترلو فرأينا فيها عربات تنتظر القادمين ركبناها وتوجهنا فيها إلى محل الآثار، فلما وصلنا أسفل التل الذي ذكرناه صعدنا مع الصاعدين إلى أعلاه وعددهم لا يقل عن أربعين أكثرهم من الإنكليز ووجدنا هنالك ضابطا من الجيش الإنكليزي درس تاريخ واترلو ومعركتها درسا دقيقا وعينته الحكومة ليشرحها للزائرين، فلما استقر بنا المقام في أعلى تلك الرابية جعل الضابط يشرح الواقعة شرحا مسهبا، وهو كلما ذكر موضعا يشير إليه بيده حتى نزل المتفرجون وهم كأنهم شهدوا موقع واترلو من دقة الوصف.
وقد أشار الضابط المذكور إلى آثار ومشاهد كثيرة، من ذلك عمود أقامته الحكومة الإنكليزية موضع شجرة يبست وأرسل جذعها إلى دار التحف في لندن، وكان الجنرال ولنتون قد وقف تحت تلك الشجرة مدة القتال، ومن ذلك عمد وآثار أخرى وأضرحة عليها كتابات أكثرها أقامها أقارب الضباط الإنكليز الذين قتلوا في هذه المعركة تذكارا لبسالتهم، ولم يزل في سهول واترلو عظام كثيرة من بقايا الذين قتلوا فيها ودفنوا يوم 18 يونيو سنة 1815 حتى إنه إذا هطل المطر في بعض الأعوام غزيرا وكان جارفا يجر معه التراب الكثير؛ ظهر من تحت التراب عظام المقتولين، وذكر الناس بأعظم معارك المتأخرين.
ولما نزلنا من تلك الأكمة دخلنا معرضا صغيرا عند سفحها جمعت فيه السيوف والبنادق والخوذ وبقية الآلات الحربية مما استعمل في هذه المعركة العظيمة، وتباع إلى جانبه رسوم وآثار يأخذها السائحون لتذكر واترلو، فلما انتهينا من هذه الأشياء عدنا إلى بروكسل في قطار مر بين صفوف الزرع وغابات الشجر الكثير ومنازل الأكابر الذين يعملون في العاصمة مدة النهار، وفي آخره يعودون إلى حيث تتم لهم الراحة، ولا يقلقهم دوي العواصم الكبرى وحركتها الدائمة، وأقمنا فيها زمانا وقد راق لنا لطف سكانها وحسن مؤانستهم وكثرة ما في مدينتهم من أسباب الحظ والطرب حتى إذا حان زمان الرحيل عنها فارقناها، ونحن من رأي القائلين إنها باريس الصغرى وإنها من أبهى عواصم أوروبا وأكثرها رونقا وجمالا، وقصدنا الحمامات البحرية المشهورة في مدينة أوستاند.
ولا حاجة إلى الإسهاب هنا في وصف الحمامات البحرية في مدينة أوستاند البلجيكية؛ فإن الذي يقال عنها لا يزيد عما في حمامات هولاندا وغيرها من الحمامات البحرية التي مر ذكرها في هذه الرحلة، إلا أن مدينة أوستاند هذه ذاعت شهرتها في الآفاق وعرفت بطيب هوائها، فكثر ورود القادمين إليها من أنحاء البلجيك ومن البلدان الأخرى، وتسهلت وسائل النقل والمخابرة بينها وبين فرنسا وبلاد الإنكليز؛ نظرا لكثرة الذين يقصدونها من البلادين والمسافة بين أوستاند وإنكلترا في البحر لا تزيد عن عشر ساعات، فهي يأتيها كل يوم ثلاث بواخر إنكليزية ملأى بالزائرين، ويأتيها أيضا ثلاثة قطرات من فرنسا تنقل المتفرجين، فلا يقل عدد الموجودين على ضفة البحر في أوستاند كل يوم عن خمسة آلاف أو ستة، ولا يقل عدد الزائرين مدة فصل الصيف عن خمسين ألفا أو ستين نصفهم من أهل البلاد البلجيكية والنصف إنكليز وأميركان وفرنسويون وأفراد من جميع الجهات، والإنكليز أكثر الأجانب عددا من بين زائري ذلك الموضع، وكثيرا ما يذهب ملك البلجيك بنفسه إلى حمامات أوستاند، ويؤمها أشراف البلجيك وسراتهم وتقصدها العائلات فتقيم فيها الأيام والأسابيع، وتقضي بين الرمل والماء أكثر ساعات النهار لا فرق في ذلك بين الكبار والصغار، وقد بني رصيف طويل عريض على شاطئ البحر هنا طوله 1500 متر وعرضه 18 وعلوه عن سطح البحر ثمانية أمتار، وهنالك يتمشى المتنزهون رجالا ونساء ويرى المتفرج من أشكال الناس ما بين راكب وماش وسابح في الماء ومتمرغ في الرمل ما يرى في أكثر هذه الحمامات البحرية. وقد بني على طول الرصيف المذكور فنادق وحانات ومنازل فخيمة بعضها للعائلات المصطافة وأكثرها معد للأجرة، وفيها كل ما تطلبه النفس من وسائل الراحة. وهنالك حانة كبرى على شكل الكازينو يسمونها «كورسال»، وفيها الموسيقى وغرف اللعب والرقص والمطالعة والمسامرة وغير ذلك مما يوجد في كل محل من هذا القبيل، وهنالك أيضا لسان بني من الخشب والحديد كالجسر فوق البحر يمتد في الماء مسافة 625 مترا، وفيه كل ما يسر الخواطر من معدات الإتقان والراحة للقادمين، وغير هذا مما يعسر عده ويضيق المقام عن وصفه.
فلما انتهينا من هذه المشاهد ولم يبق علينا في بلاد البلجيك ما يمكن رؤيته برحنا تلك البلاد العامرة، وسرنا منها إلى فرنسا وهي مجاورة لها كما تعلم.
فرنسا
خلاصة تاريخية
Halaman tidak diketahui