ومن هذه المشاهد ميدان عظيم (بلين) فيه حدائق بديعة في جوانبه الأربعة، وفي وسطها برك من الرخام الأبيض كثيرة الاتساع يخرج الماء فيها من عيون كثيرة، وتحيط بها الرياحين والأزهار والشجر الباسق ولها منظر كثير الجمال، وإلى جانب هذا الميدان قصر الصناعة الذي كان مركز المعرض السابق في هذه المدينة، دخلناه ورأينا قاعته الكبرى تضم ستة آلاف شخص يجتمعون فيها لسماع الأنغام، وله رواق كبير ذات ثمانية أبواب فتحت فيه المخازن لبيع الحرير وأشكال الأبضعة، وإلى جانبه حديقة غناء تصدح فيها الموسيقى كل يوم بالأنغام فتزيده زهاء وجمالا.
وتوجهت بعد مشاهدة هذه المواقع إلى القصر الملكي، وهو الذي أقام فيه لويس نابوليون مدة ملكه القصير في أول هذا القرن، وتقيم فيه الملكة الحالية حين تزور مدينة أمستردام ولا حاجة إلى القول إنه بناء فخيم، من ضمن قاعاته غرفة كبرى للاستقبال لا يقل ارتفاعها عن 30 مترا وطولها 80 مترا والعرض 33، وجدرانها ملبسة بالرخام الأبيض المطلي بالذهب وأرضها مفروشة بالرياش الفاخر، وفي صدرها منصة وضع عليها عرش الملكة، وهو من القطيفة الحمراء عليه شعار الملك وأسماء الولايات التابعة لهذه المملكة، وفي القصر من أنواع الزخارف والحدائق والقاعات البديعة ما لا يمكن لنا أن نشير إليه بأكثر من هذا الإيجاز.
ومن أشهر مشاهد أمستردام، ميناؤها المشهور وهو محط رحال السفن البخارية والشراعية تؤمه وتسافر منه إلى كل جهة من جهات الأرض؛ لأن هولاندا مشهورة بتجارتها الواسعة مع المستعمرات الباقية في حوزتها وأكثر السفن التجارية الهولاندية تعد ميناء أمستردام مقرها ومركزها؛ لأن هذه المدينة أكبر مدن البلاد وأهمها، ولئن تكن غيرها العاصمة الرسمية فهي في الحقيقة عاصمة الحركة والتجارة بلا مراء، وقد بنوا عند الميناء الطرق المنظمة ومدوا فوقها خطوط الحديد تجري عليها الأرتال حتى إنه ليمكن أن تنقل الأشياء من السفن في البحر على العربات في البر رأسا، وقسموا المينا أحواضا ثلاثة: أحدها لسفن المتاجر الأوروبية، والثاني لسفن التجارة الشرقية في مستعمرات هولاندا، والثالث للسفن الحربية، وبني عند هذه الأحواض مخازن ومستودعات عديدة للطرود التي تعد بمئات الألوف، وقد تمشيت عند خط هذا المينا المشهور بحركته التجارية حتى دخلت قسما من المدينة يكثر فيه الزحام من الذاهبين والآيبين، وفي ذلك القسم المعامل المشهورة لقطع الألماس وصقله، وقد امتاز الهولانديون بهذه الصناعة من زمان قديم حتى إن القطع الكبرى والصغيرة من هذا الجوهر النفيس ترسل من كل جهات أوروبا وأميركا إلى هذه المعامل الهولاندية لتقطع فيها على الشكل البلوري المعروف، وقد كانت هذه الصناعة سرا في عائلة إسرائيلية وصلت من بلاد البورتغال وما علمها أهل أوروبا إلا من نحو 300 عام، وهي الآن صناعة كثيرة الموارد ولها معامل كبيرة في هذه المدينة تدور آلاتها بالكهربائية، وهي إذا دارت لقطع الألماس أو جلائه أحدثت صوتا مثل صوت الحك على الزجاج يتألم السامع منه، وفي هذه المدينة معامل كبرى للسجاير الهولاندية، وهي ذات شهرة واسعة، أيضا منها معمل للحكومة تعمل فيه أربعة آلاف بنت وامرأة، وأرباحه ليست بالشيء القليل، وأهل أمستردام أكثرهم من طائفة البروتستانت وبينهم نحو 50 ألفا من اليهود جلهم سماسرة وتجار بالألماس وعمال في معاملها، فقد قيل إن عمال معامل الألماس في هذه المدينة 10 آلاف، منهم 9 آلاف من الإسرائيليين، ولا تقل قيمة الذي يخرج من أمستردام من هذا الحجر الكريم عن مائة مليون فرنك في السنة.
لاهاي
أقمت زمانا في مدينة أمستردام حتى رأيت كل الذي يرى فيها، ثم برحتها إلى عاصمة المملكة، وهي مدينة لاهاي، قصدتها عن طريق مدينتي هاولم وليدن، ولهما شهرة ومقام؛ فالأولى يبلغ عدد سكانها 50 ألفا ولها شهرة واسعة بتربية الأزهار وإنمائها وبيع بذورها، والثانية عرفت بمعامل القطن وبمدرسة جامعة مشهورة خرج منها الفلاسفة وأصحاب الاكتشافات الكيماوية، وقد طبعت فيها كتب عربية كثيرة، وكنا نمر في أراض فسيحة تخترقها فروع من نهر الرين وتستقي منها الأبقار الغريبة، وهي تمتاز عن نوعها في بقية الجهات في أن نصف جلدها أسود والنصف أبيض، ولتلك البقاع منظر جميل وأدلة الاعتناء والتعب ظاهرة في جميع جوانبها.
ودخلنا مدينة لاهاي عاصمة هذه البلاد سميت بهذا الاسم؛ لأنها بنيت في موضع غابة وتحيط بها الحراج من أكثر الجوانب، ومعنى اسمها في لغة القوم غابة أو حرجة، وهنا قاعدة المملكة ومركز الحكومة الهولاندية، وما يتبعها من الإدارات والمصالح وقصور الملك والسفارات وغير ذلك، وهي من العواصم القليلة التي تقل في الأهمية عن غيرها من مدائن المملكة، فإن سكانها لا يزيدون عن مائتي ألف والحركة التجارية فيها لا تذكر في جنب حركة روتردام وأمستردام، وهما فرضتا التجارة الهولاندية على مقربة منها، وقد امتنعت الحكومة عن وصل هذه العاصمة بالبحر مع قربها منه؛ لأنها آثرت أن تبقي المدينة بمعزل عن الحركة التجارية وتجعلها مثل واشنطن عاصمة الولايات المتحدة مقرا للحركة السياسية فقط. ولما وصلت هذه العاصمة استأجرت رجلا صناعته الترجمة ومرافقة السائحين، فدلني إلى أهم مشاهدها وذهبت معه إلى ميدان «بلين»، فيه أشجار الكستناء الباسقة منسقة تنسيقا بديعا، وقد أقيم في وسطه تمثال لوليم الأول أمير هولاندا الذي أسس المملكة الحالية من آل أورانج ناسو، ويحيط بهذا الميدان وزارات المملكة، لكل منها بناء خاص وفنادق عظيمة ومنازل ذات حسن وبهاء، وهو على مقربة من ميدان آخر أجمل منه وأكبر يعرف باسم فورهوت، ومن حوله صفوف من الشجر الجميل، وفي داخله حدائق صغيرة رصعت بأجمل الأزهار والرياحين، ويتصل به ميدان لانج فورهوت، وهو مثل الذي سبق وصفه فيه تمثال الأمير فريدريك ناسو أول ملوك الدولة الحالية من بعد خروج البلاد عن طاعة الدولة الفرنسوية في سنة 1813، والتمثال قائم على مرتفع من الرخام رسمت عليه صور الولايات الهولاندية وشعار الدولة، وحوله سور من الحديد، وهنالك ميادين أخرى كثيرة الجمال، وهي متقاربة وضعا وشكلا، ولهذه المدينة امتياز بهذه الميادين الفخيمة وبالحراج المحيطة بها، وهي فوق جمال شجرها الطبيعي مرصعة بالزهر على أشكال تتضوع منه الروائح العطرية، وقل أن ترى في المدينة شارعا لا يطل على ميدان أو غابة أو حديقة، فلا بدع إذا سميت باسم هذه الغابات التي تميزها عن سواها.
ولاهاي مثل غيرها من مدائن هولاندا مبنية منازلها بالطوب الأحمر وأرض شوارعها مرصوصة بمثله أيضا، وهي آية في نظافتها؛ لأن الشوارع وجدران المنازل تغسل بالماء النقي من حين إلى حين، وللأهالي تمسك غريب بالنظافة يروى عنهم، وقد برع الهولانديون بالفنون الجميلة، مثل التصوير والحفر والنقش وقام منهم مشاهير عظام تذكر أسماؤهم في متاحف الفنون الجميلة في كل البلاد، مثل فانديك ورمبراند وصورهما موجودة في كل متاحف أوروبا، مثل صور رفائيل الإيطالي، ومنها قسم عظيم في متحف هذه المدينة دخلته ودرت في جوانبه، وذهلت من إتقان ما فيه من الصور البديعة التي يقف المرء أمامها ساعات ولا يمل من النظر إليها، أذكر منها صورة آدم وحواء في الفردوس، وصورة هيردوس والي فلسطين يأمر بذبح الأطفال عند ولادة المسيح، وهي صورة كبيرة تشغل جدارا بأكمله، وصورا أخرى لا محل هنا لذكرها.
وبعد أن رأيت هذا المتحف الجميل ذهبت ومعي الدليل إلى قصر الملكة ودخلته وحدي؛ لأن التراجمة لا يحق لهم مرافقة المتفرجين إلى داخله، كما أنه لا يجوز لأحد الخادمين أن يقبل مالا من أحد الداخلين، ورأيت في ساحة القصر تمثال وليم الأول الذي مر ذكره نصب بأمر ابنه وليم الثاني سنة 1845، وفي القاعة العمومية من قاعات هذا القصر صور جميع الذين حكموا هولاندا من آل أورانج ناسو، في جملتهم الملكة ولهلمينا الحالية والكل بقدهم الطبيعي، وفي هذا القصر قاعات عظيمة غير هذه وضع في إحداها بعض ما أرسل إلى ملوك هولاندا من نفيس التحف وثمين الهدايا، من ذلك أوان من الفخار الصيني البديع صنع معمل سيفر الفرنسوي المشهور، أرسلها الإمبراطور نابوليون الثالث إلى وليم الثالث والد الملكة الحالية، ومنضدة من حجر المالكيت الغالي الثمن من إمبراطور روسيا إسكندر الثاني، ومنضدة أخرى من قداسة البابا بيوس التاسع زينت بالفسيفساء، ورسم قلعة من الرخام قدمها الجنود الهولانديون وفي رأسها العلم الوطني وإلى جوانبها الجنود من فرقة المدفعية بمدافعهم والمشاة ببنادقهم والفرسان بخيلهم وكله حفر على رخام هذه القلعة الصغيرة، ومن ذلك ثريا (نجفة) من الفضة أهدتها بلدية أمستردام للملك وغير هذا كثير. ودخلت أيضا قاعة المكتب، وهي ملبسة جدرانها بخشب الماهوجان الأحمر، فقاعة النوم وجدرانها ملبسة بالحرير الأحمر رسمت عليه عروق وفروع، وهو من النوع المسمى «دمشقي»، ورياش الغرفة من هذا النوع أيضا، والسرير من خشب الماهوجان فوقه ناموسية من الحرير الأبيض، وفي أعلاها التاج الملكي من الذهب.
ومن أهم ما يذكر بين مشاهد هذه المدينة قصر الغاب، بنته أميرة اسمها إملي سنة 1647؛ تذكارا لزوجها الأمير فريدريك هنري من آل أورانج، وأنفقت مالا طائلا على كتابة تاريخ هولاندا بالرسوم في جدرانه، وهذا نسق كما تعلم قليل المثال، فلما ولجته وجدت جوانبه غاصة بالسائحين والمتفرجين، وفيه قاعات كبرى فرشت على النسق الصيني والنسق الهندي وقاعة بديعة واسعة الجوانب رسم على جدرانها وسقفها البرنس فريدريك المذكور بكل أدوار حياته وحروبه واستقلاله من حكم إسبانيا وقتله غدرا بإغراء فيليب الثاني ملك إسبانيا على مثل ما مر في الخلاصة التاريخية. ولهذا القصر منزلة في النفوس كبيرة حتى إنهم لما قر رأي الدول مؤخرا على اجتماع مؤتمر السلام في عاصمة هولاندا أعد لمندوبي الدول يتداولون فيه، وهو من أهم المؤتمرات السياسية التي عقدت في العصور الحديثة.
ومما يذكر أيضا موضع مشهور في كل أوروبا وجد على مقربة من هذه العاصمة واسمه شفنتجن وهو للحمامات العظيمة، يمكن أن يقال إنه لمدينة لاهاي مثل سان ستفانو لمدينة الإسكندرية؛ لأنه محط الرحال ومقصد الجماعات في أيام الصيف يأتيه الناس من كل جهة فلا يقل عدد الزائرين عن خمسة وعشرين ألفا في السنة، ويقرب الموجود منهم كل يوم من خمسة آلاف يأتون عن طريق لاهاي في عربات الترامواي البخارية، وهي تسير بهم في تلك الغابات نحو ثلاث ساعات، هذا غير الذين يأتونها رأسا من إنكلترا في بواخر خاصة لهذا الغرض، والقارئ يعلم أن الحمامات البحرية في كل موضع موصوفة بالجمال، ولكن شفنتجن هذه من أكثرها شهرة وجمالا بنيت في أرض رملية وفيها من المطاعم والفنادق والحانات وأماكن ذوي الفراغ واللهو ما يعد بالعشرات، ويمتد على شاطئ البحر مسافة ثلاثة آلاف متر، ومن أشهر هذه الأبنية حانة كبرى (كازينو) فيها قاعة للموسيقى تضم ثلاثة آلاف سامع وسامعة، ومطعم فيه موضع لخمسمائة شخص وقاعة للرقص رياشها فاخر كله من القطيفة الحمراء المزركشة بالقصب وعليها شعار الدولة الهولاندية، وفي سقفها وجوانبها مصابيح تنار بالكهربائية، وفي هذا الكازينو أيضا قاعة للقراءة والمطالعة وضعوا فيها عشرات من الصحف والمجلات أكثرها هولاندية وبعضها فرنسوية وألمانية وإنكليزية، وفيها مناضد للكتابة وورق وبقية لوازم التحرير وصندوق للبريد ومكتب للتلغراف والتلفون، وغير هذا مما تتوفر معه الراحة ويكثر الهناء، وفيه قاعات للتدخين وللمسامرة ولألعاب الورق على أشكالها، ورحبات فسيحة مزخرفة الجوانب، وفي الدور الأعلى من هذا الكازينو فندق فيه مائتا غرفة، وإلى مقربة منه مرسح لتمثيل الروايات ومضمار لسباق الخيل ومسافات بعيدة من الرمل النقي يتمشى عليها الناس حفاة، ويلعب الصغار برملها وهم يعدون ذلك من أحسن أنواع الرياضة المفيدة للأبدان.
Halaman tidak diketahui