ذهبت أول الأمر في باخرة علمها أخضر تتنقل بين المحطات الأوروبية فقط إلى محطة قباطاش، فمرت بنا السفينة بإزاء سراي طولمه بغجه المشهورة، بناها السلطان عبد المجيد من الرخام الأبيض سنة 1855 وأنفق مالا لا يحصى مقداره حتى جعلها حيرة للألباب في فرط جمالها وثمن مفروشاتها ودقة زخارفها، وهي على ضفة البوسفور داخل سور جميل تحيط بها الأشجار والأزهار البديعة، يراها المار فوق الماء من أكبر آيات الجمال في تلك البقعة الطيبة، وواجهتها بديعة الجمال من الرخام الأبيض النفيس المزخرف بأدق أنواع النقش، ويقرب طول هذه السراي من 800 متر، وقد كانت مقر السلطان عبد العزيز وأولمت فيها الولائم الفاخرة للإمبراطورة أوجيني حين زارت الآستانة، وفيها اجتمع مجلس المبعوثين الأول حين صدور الأمر باجتماعه في أوائل حكم السلطان عبد الحميد، ومن قاعاتها واحدة يمكن اجتماع خمسة آلاف نفس فيها، وقد أتيح للناس عامة دخول ساحة هذا القصر المنيف ولم يكن ممكنا قبل إلا بإرادة سنية من السلطان السابق.
ومررنا بعد ذلك بمحطة باشكطاش، وهو اسم الحي الذي بنيت فيه سراي يلدز حيث أقام جلالة السلطان السابق، وفي تلك المحطة قبر أمير البحر خير الدين باشا المعروف عند الإفرنج باسم بارباروسا أو ذو اللحية الحمراء، ورأينا بعد ذلك سراي جراغان، وهي جميلة بنيت بالرخام الأبيض وأحيطت بسور عال منيع، ويقرب طول هذه السراي من ألف متر، وبعد ذلك محطة أورنه كوي فيها جامع والدة السلطان، وهي ملاصقة لجدار يلدز، وهنالك منازل فخيمة وقصور عديدة لسراة الآستانة وكبراء السلطنة. ومثلها محطة ببك التي تليها وهي مرصعة بأجمل القصور والديار تملأ جوانب تلك الأرض البهية من شاطئ البوسفور إلى قمة الجبل، وفي قمة الجبل المذكور كشك بديع الإتقان كان السلاطين فيما مر يختلون بسفراء الدول فيه ويتداولون بمهام الملك، وعلى مقربة منه مدرسة للأميركان كلية تعرف باسم روبرت، أسسها مرسل أميركي اسمه روبرت سنة 1863، وهي من أكبر المدارس في السلطنة السنية إذا لم تكن أكبرها وأعلاها يقصدها الطلاب من كل نواحي السلطنة ومن بلغاريا والسرب ورومانيا وبلاد اليونان، وبين وزراء بلغاريا كثيرون تلقوا العلوم في هذه المدرسة المشهورة، أشهرهم الوزير ستامبولوف الذي قتل من بضعة أعوام، وهو أشهر بلغاري رأس الوزارة في بلاده، ولهذه البقعة - أي محطة بيك - شهرة في التاريخ؛ فإن جنود داريوس وزركسيس وهي مئات من الألوف كانت تمر منها قاصدة بلاد الروم لمحاربتها في القرن الخامس قبل المسيح، والصليبيون لما عرجوا على الآستانة جعلوا بيك هذه نقطة مركزية لحركاتهم، ومحمد الفاتح هاجم الآستانة وملكها من تلك النقطة بعد أن أقام الحصون وركب المدافع مصوبا كراتها إلى عاصمة الروم، ورست الباخرة بعد ذلك في محطة بوياجي كوي، وأكثر سكانها روم وأرمن، ثم محطة ميركون وفيها قصر للخديوي الأسبق إسماعيل باشا أهدي إليه من جلالة السلطان عبد الحميد، ثم وقفنا في يكي كوي، وهي بلدة فيها نحو عشرة آلاف نفس أكثرهم من الروم والأرمن أيضا، وتليها محطة طرابيه المشهورة واسمها رومي معناه الشفاء سميت بذلك؛ لجودة هوائها وجمال مناظرها؛ ولذلك أصبحت مقر الهيئة العالية من سكان الآستانة واختارها أكثر السفراء لمنازلهم فبنوا هنالك القصور المنيفة والصروح الأنيقة، وقامت من حولها الفنادق العظيمة، فالذي يمر تجاه هذه البقعة يرى سفارات إنكلترا وفرنسا وإيطاليا وألمانيا في وسط حدائق غناء تتصل خضرتها النضرة برأس الجبل، ومجموع طرابيه هذه جمال مدهش وبهاء مفرط، وأما عامة السكان في طرابيه فأكثرهم أروام يقربون من خمسة آلاف نفس عدا، ومنازلهم درجات بعضها فوق بعض في ذلك المنحدر البهي، فهي متواصلة ما بين قمة الجبل وضفة البوسفور، ولها رونق وحسن بديع.
خارطة البوسفور.
ويلي هذه البقعة الجميلة محطة بيو كدره فيها سفارات أميركا والنمسا وروسيا ومساكن بعض التجار الأغنياء، وهي تقرب من طرابيه في جمالها الفتان. وآخر هذه المحطات قاواق، وهي في طرف البوسفور من جهة البحر الأسود أقيمت حولها الحصون المنيعة والقلاع الكبرى، فلما انتهينا إلى هذا الحد عدنا إلى مقرنا في العاصمة، وقد رأينا من جمال البوسفور ما تحفظه الذاكرة ولم يخطر لنا ببال.
وفي اليوم التالي عدنا إلى بواخر الشركة الخيرية، واخترنا واحدة علمها أحمر حتى نرى الشاطئ الشرقي أو الجهة الآسيوية من البوسفور العجيب، فقمنا أولا إلى أسكودار وهي القسم الشرقي من المدينة ذكرناه قبل الآن، وسرنا منها إلى قوز غنجق فمررنا من أمام سراي بكلر بك، وهي من أعظم قصور الآستانة، تعد ثانية طولمه بغجه بناها السلطان عبد العزيز سنة 1865 من الرخام الأبيض النقي على شاطئ البوسفور في وسط حديقة غناء تمتد أغراسها البهية إلى حدود الجبل، ولها سور مذهب وزخارف يطول المقام لو أردنا وصفها، يكفي أن يقال إن الإمبراطورة أوجيني أقامت في هذا القصر، وإن السلطان عبد العزيز أنفق على إضافتها والهدايا التي قدمت لها مبلغا كبيرا، ثم لما جاء إمبراطور ألمانيا سنة 1889، أقام هنا أيضا ولا غرو؛ فإنها تليق بأعظم ملوك الزمان. ثم جئنا محطة جنكل كوي، وفيها حديقة واسعة لها ذكر في التاريخ، هو أن السلطان سليمان المشهور اختبأ فيها 3 سنوات فرارا من والده السلطان سليم، وكان السلطان قد أمر بقتله فلما عرف بعد طول المدة أن ابنه حي في تلك الحديقة فرح فرحا لا يوصف وأقام الأفراح في عاصمة بلاده، وظللنا على المسير نتنقل بين محطات البوسفور الشرقية حتى انتهينا منها عند آخر محطة في فم البوسفور وعدنا إلى المدينة.
قصر طولمه بغجه.
بقي علينا الخط الثالث لهذه البواخر وهم يسمونه الزقزاق؛ لأنه يمر على النقط الشرقية والغربية معا في البوسفور، فقصدناه في يوم ثالث وجعلنا نقف تارة في الشرق وطورا في الغرب، وقد ذكرنا أسماء المحطات في الجهتين فلا حاجة إلى التكرار، وقضينا في ذلك خمس ساعات متواليات، فما رأت عيني مثل الذي رأيناه من بهي الحراج وشهي المناظر الطبيعية، وقد رصعتها يد الصناعة بالقصور الشماء والطرق الحسناء فما البوسفور إلا معجزة من معجزات الزمان، وما أخطأ الذي قال إن الآستانة وضواحيها زينة البرين ودرة البحرين.
ولقد ذكرنا قرن الذهب كثيرا، وهو مجرى من الماء بديع جميل يفصل بين القسمين الأوروبيين من أقسام الآستانة، نريد بهما غلطه وبيرا من ناحية، واستامبول من ناحية أخرى، والموصل بين هذين القسمين جسر غلطه المشهور وقد مر ذكره. طول هذا المجرى 11 كيلومترا وعرضه 450 مترا، وهو يتصل عند طرفه الواقع في غلطه بالبوسفور وبحر مرمرا، وأما في الطرف الآخر فإنه ينتهي بجبال بهية سرنا إليها في أحد الأيام ورأينا في الطريق بواخر الأسطول العثماني، وعلى الشاطئ من تلك الناحية سراي وزارة البحر (طوبخانة)، وهو بناء شاهق فخيم تتبعه المدرسة البحرية والترسانة، ثم وقفت الباخرة في محطة آيا قبو في سفح الجبل، وعلى قمة الجبل المذكور جامع السلطان سليمان، وتليها محطة الفنار فيها بطرخكانة الروم الأرثوذكس ومدرستهم، ثم انتهينا إلى آخر قرن الذهب في محطة أيوب فنزلنا إلى البر وتقدمنا إلى جامع أيوب، بناه السلطان محمد الفاتح تذكارا لمقتل أبي أيوب الأنصاري حامل الراية النبوية، وكان قد جاء في جملة المسلمين الذين هاجموا الآستانة في صدر الإسلام سنة 668 وقد وضع سيف النبي
صلى الله عليه وسلم
في هذا الجامع، فكلما بويع سلطان بالخلافة احتفلوا بتقليده السيف هنا، وهم لا يسمحون لواحد من الأجانب أن يدخله ولو يكون من السفراء، هذا مع أن لسفراء الدول في الآستانة مقاما خطيرا وامتيازا لا نظير له في العواصم الأوروبية، فإن لكل سفير هنا باخرتين حربيتين تقومان بخدمته وحراسة السفارة والرعايا حين اللزوم، وفي كل سفارة من القواصة والأعوان عدد كبير، حتى إن السفير في الآستانة يعد بمثابة ملك صغير، وقد بني هذا الجامع من الرخام الأبيض وصنعت له قبة عظيمة ومئذنتان، ودفن حامل الراية النبوية فيه. وبرحنا أرض هذا الجامع فصعدنا قمة الجبل، وأشرفنا من هنالك على متنزه يعرف باسم كاغدخانة، والإفرنج يسمونه الماء الحلو؛ لأن النهر يلتقي عنده بالبحر، وهذا الموضع مصيف لبعض الناس يكثر ترددهم إليه في أيام الربيع.
Halaman tidak diketahui