وقد زاد الآستانة بهاء وجمالا أنها بنيت على تلال، فهي تعرف باسم مدينة التلال السبعة، فالقادم إليها من جهة البوسفور يسحره جمال هاتيك الروابي البهية، رصعت بالمنازل وازدانت جوانبها بالخضرة النضرة من فوق ماء نقي في مجرى البوسفور. وقد قسمت الطبيعة هذه العاصمة قسمين كبيرين: شرقي في آسيا وهو المعروف باسم أسكودار وأهله جلهم أتراك، وقسم آخر في الناحية الأوروبية، وبين القسمين بوغاز البوسفور وبحر مرمرا، وقد توسط ما بين البوسفور ومرمرا متسع من الماء سمي قرن الذهب، وهو يقسم الشطر الأوروبي من الآستانة قسمين: أولها قسم بيرا (بك أوغلي) وغلطة، وسكانهما خليط من الفرنجة والأرمن وبقية السكان غير الأتراك، وهو أهم أجزاء المدينة. والثاني وهو المدينة الأصلية يعرف باسم استامبول وسكانه أتراك ونزلاء على اختلاف الأجناس. وتمتاز هذه العاصمة البهية بأمور عدة، منها اجتماع الأجناس الكثيرة من كل لون وشكل في ربوعها، فهنالك الجنس الأوروبي من أهل النسق الحديث، والجنس الشرقي من أواسط آسيا وأقاصيها وأطرافها بالملابس الآسيوية، والأفريقي يسير إلى جانب الشركسي، والرومي يقيم مع الداغستاني، والأسوجي يلتقي في كل حين بالإيراني، فما ترى في مدينة من مدائن الأرض موضعا ضم كل هذه الأجناس المتباينة، وليس بين المدائن واحدة فيها من الأزياء الغريبة ما في هذه العاصمة العظيمة، التي لم يبن الناس موصلا بين الشرق والغرب أهم منها، ولا عثروا على مركز أجمل من مركزها.
وقد مر بك أني توجهت حال وصولي من غلطه إلى الفندق في بك أوغلي، وهذان القسمان أهم أجزاء الآستانة، يمكن الوصول من أحدهما إلى الآخر بثلاثة طرق: أولها نفق تحت الأرض حفروه ومدوا فيه خطوط الحديد تسير عليها العربات بقوة الضغط، فإذا شاء المرء أن ينزل من بيرا إلى غلطه وضفة البوسفور، دخل محطة هذا النفق وقعد في عربة مع غيره حتى إذا جاء موعد الحركة تحركت العربات هاوية تحت الأرض، فلا تستقر إلا في محطة غلطه. وأما الطريقة الثانية فالسير على الأقدام والشوارع التي تمر بها هنا مهملة مثل أكثر شوارع الآستانة، لا يستثنى منها غير شارع بيرا. والطريق الثالث تجري فيه عربات الأمنبوس مارة أمام البنك العثماني.
ولما كان منظر الآستانة - بوجه الإجمال - من أبهى مناظر الأرض سبق إلى ذهني أن أراها في لحظة من الزمان قبل أن أبدأ بالتفاصيل، وذلك متيسر فيها من عدة أماكن؛ نظرا إلى وضعها البديع، وأحسن ما يكون منها برج غلطه المشهور، وهو برج مرتفع بني على مقربة من البوسفور، وكان القصد من بنائه الإشراف على نواحي المدينة كلها لإيصال أخبار الحريق أينما شبت النار إلى رجال المطافئ، والحرائق كثيرة هنالك؛ لأن المدينة مبنية أكثر منازلها بالخشب، وفي بعض جهاتها ازدحام يساعد على انتشار النار، فإذا رأى الرجل الواقف في أعلى هذا البرج نارا لوح براية حمراء في يده يراها رجل آخر في برج السردارية هو أبدا يرقب ما حوله ولا يبرح مكانه حتى يأتي سواه لاستلامه، فإذا لاحت الراية أطلق مدفع يسمعه رجال المطافئ وأعطيت إشارة بالجهة المقصودة فيهب الرجال ولا هبوب الرياح، وهم يحملون المطافئ على أكتافهم، ولهم حين يقومون لمثل هذه الغاية منظر غريب؛ لأن أكثرهم من أقوياء الرجال يعدون في الطريق وعلى وجوههم جرأة الأسود الكواسر، فلا يقف في طريقهم شيء ولا يردهم عن أمرهم راد حتى يصلوا النار، ويبدءوا بإطفائها، وأكثرهم يتشاركون ويتعاونون على هذا العمل، ولهم أجرة يتقاضون على كل نار يطفئونها، وما هم بفرقة منظمة تحت إمرة الحكومة مثل رجال المطافئ في أكثر النواحي الأوروبية؛ ولذلك قصدت برج غلطه المذكور بعد وصولي بيوم واحد وارتقيت القمة فراق لي منظر هذه المدينة العظيمة وضواحيها الباهرة من كل جانب، وأنت إذا صعدت قمة هذا البرج وجدت نفسك في دار أو رحبة لها 14 طاقة كبرى تريك ما حولك من الأرض في كل جهة، ففي الشمال جهة قاسم باشا ونظارة الحربية وقرن الذهب، وفيه الباخرات العثمانية راسية، وفي الشرق ترى حارة الطوبخانة وحي فندقلي، وفيه سفارة ألمانيا وحي نشان طاش قامت في أواخره سراي يلدز العظيمة، ثم إذا تلفت يمينا بعد هذه المناظر لاح لك البوسفور البهي بمائه المترقرق والسفائن التجارية ذاهبة وآيبة فوق سطحه تحدثك بغريب أمره، ويلي ذلك طاقات ترى منها الباب الهمايوني ومركز الصدارة العظمى ووزارات الدولة العلية من ورائها أسواق الآستانة، تنتهي بمنظر آيا صوفيا وجامع السلطان أحمد بمآذنه الست وجامع نور عثمان ثم سراي السر عسكرية وسراي شيخ الإسلام وبعض الجوامع المشهورة والمشاهد الأخرى التي سنعود إليها، وجملتها تؤثر في النفس تأثيرا عظيما يشهد بما لهذه العاصمة من فريد الجمال وغرابة الموقع الطبيعي وعظيم المشاهد.
جامع آيا صوفيا.
ولا بد لكل من يقيم يوما واحدا في الآستانة ويسمع بشطريها العظيمين وبحريها البديعين أن ينتقل من أحد قسميها إلى الآخر فوق جسر غلطه المشهور، وهو ينتقل عليه الناس بين غلطه واستانبول، ويعد الحد الفاصل بين البوسفور وقرن الذهب يمر عليه كل يوم ألوف من الناس أكثرهم مشاة على الأقدام وبعضهم في العربات أو على ظهور الخيل، وكل ذاهب أو آيب يدفع عشر بارات رسم العبور على هذا الجسر، فيجتمع عند الحكومة من إيراده مبلغ يستحق الذكر كل يوم، وما رأيت نقطة في الأرض ترى فيها أشكال الناس المتباعدة مثل جسر غلطه هذا، فإن الذي يقف فوقه ويتأمل المارة ساعة من الزمن يرى الذي لا يراه بعض السائحين في أشهر طوال، ولا عجب فهنالك الحلقة الموصلة بين العالمين كما قدمنا. والجسر مبني من الخشب على عمد من الحجر متينة، يقف عند طرفيه خادمون يتقاضون الرسم من المارة باليدين، فكلما امتلأت يد واحد منهم أفرغها في مكتب من الخشب عند طرف الجسر يقيم فيه عامل من الحكومة يدفع إليها المجموع في آخر النهار، وقد اعتاد هؤلاء العمال جمع الضريبة حتى إنهم لا يوقفون المار لحظة بل يقبضون من هذا باليمين ويصرفون لذلك القطع الكبيرة باليسار ولا يخطئون، وكل سائر في طريقه لا يقف لدفع ما عليه.
ولا بد أن يعلم القراء ما لجامع آيا صوفيا من الشهرة وهو أقدم جوامع الآستانة، كان أصله كنيسة بنيت على عهد الإمبراطور جوستنيانوس الذي مر ذكره، وكان في نيته أن يجعلها أعظم ما بني من نوعها، فاستحضر لها الأعمدة الثمينة من الهياكل القديمة في أثينا ورومة وبعلبك ومن بعض الهياكل المصرية، واستخدم في البناء عشرة آلاف رجل أقام عليهم المقدمين والوكلاء، وكان هو يأتي بنفسه من حين إلى حين ليراقب الأعمال وينشط العمال؛ لفرط اهتمامه بتلك الكنيسة، ثم إن هذا الإمبراطور أراد أن يجعل قبة الكنيسة من غرائب البناء، فصنع له عماله نوعا من الآجر أو القرميد خفيف الوزن لا يزيد عن عشر غيره وزنا، وجدوا ترابه في جزيرة رودس، ونقشوا على كل قطعة منه جملة معناها: «إن الله جبلها وهو يحفظها»، وكانوا يصلون إلى الله مدة البناء أن يؤيد دعائمه ويوطد أركانه فما أخطأوا؛ لأن البناء قاوم فعل الطبيعة مدة القرون الطوال، ولم يزل إلى يومنا الحاضر شاهدا على اجتهاد بانيه وغرابة وضعه وتقدم الصناعة في تلك الأيام، ثم إن القوم أنفقوا على تذهيب هذه الكنيسة مقادير وافرة من الذهب، فإن أدوات العبادة و24 إنجيلا كانت كلها من الذهب الخالص، وكان الهيكل قطعة من الذهب الثمين مرصعا بالحجارة الكريمة، ومائدته قائمة على أربعة عمد من هذا المعدن النفيس، ووزن سقفها 118 رطلا من الذهب الخالص، وعليها صليب وزن ذهبه 80 رطلا مصريا ولا حصر للأموال التي أنفقت على هذا المعبد العظيم، واحتفل بتدشينه رسميا بعد الفراغ من البناء والزخارف وعمل 16 عاما متواصلا، وكان الإمبراطور حاضرا في ذلك الاحتفال فوقف في ختامه، وقال: «الحمد لله الذي اختارني لإتمام هذا العمل، وها إني قد غلبتك يا هيكل سليمان»، ثم ما زالوا يفرقون الصدقات ويرتلون ويسبحون بعد ذلك مدة 14 يوما كاملا.
ولما فتحت الآستانة في 29 مايو سنة 1453 دخل السلطان محمد الفاتح هذه الكنيسة وهو على جواده والسيف مشهر في يده، ونادى «لا إله إلا الله محمد رسول الله»، ثم جعلها جامعا للمسلمين وأبقاها على أصلها، فلم يخرب منها إلا الذي لا يجوز في الشرع الإسلامي؛ ولذلك ترى داخل الجامع الآن على شكل الكنائس وفيه من آثار العبادة النصرانية شيء كثير، وأضاف هذا السلطان الفاتح مئذنة إلى الجامع الجديد ثم أضاف السلاطين من بعده مآذن أخرى، وكان آخر من أنفق الأموال الطائلة عليه السلطان عبد المجيد، فإنه أصلح فيه كثيرا، واستخدم لذلك مهندسا إيطاليا مشهورا، فلما تم الترميم والبناء احتفل السلطان بذلك احتفالا عظيما في سنة 1849، وهو الآن من أعظم جوامع الأرض وأشهرها، دخلته من أحد أبوابه التسعة ومشيت في رواق طوله 60 مترا وعرضه عشرة أمتار، وفي جدرانه قطع من الفسيفساء تلمع وتسطع مع قدم عهدها - والفسيفساء قطع من الزجاج تلصق بعضها ببعض وتدهن بالذهب فيكون لها منظر شهي رائق - فظللت أسير في ذلك الرواق وأتأمله حتى انتهيت إلى ساحة الجامع الداخلية، وهي لا تقل عن 75 مترا في الطول و70 في العرض، ولها قبة مركزية علوها 65 مترا وقطرها 31 مترا، قامت على ستين عمودا ولها منظر غاية في الفخامة والبهاء ، وقد كتب على جدران القبة وجوانبها آيات من القرآن بخط جميل، ومن حولها اسم الجلالة واسم النبي
صلى الله عليه وسلم
وأسماء الصحابة، وكل ذلك بأجمل أنواع الخط، وفي الوسط نقوش وزخارف فاخرة نفيسة، وإلى جانب المحراب سجادة قديمة يقال إن محمدا الفاتح صلى عليها يوم دخوله هذه الكنيسة، وهناك مكان خاص بجلالة السلطان يحجبه حاجز من الشعرية المحلاة بماء الذهب. وصعدت الطبقة العليا من الجامع وهي التي كانت على عهد النصرانية موضع النساء حين الصلاة.
محمد الفاتح على جواده يوم فتح القسطنطينية.
Halaman tidak diketahui