وفي سنة 1598 انقرضت سلالة رورك فوقعت البلاد في فوضى طالت مدتها، وانتهت سنة 1613 بقيام رجل اسمه ميخائيل رومانوف كان ابن أحد الأساقفة وأمه من بيت رورك، واستلم هذا الزعيم ملك قياصرة الروس فأسس من ذلك العهد الدولة الحاكمة في البلاد إلى الآن، وبذل جهد المستطاع هو وابنه الذي خلفه على الملك في توطيد دعائم الأمن وقطع دابر الفتن من البلاد، فنجح في ذلك وأعاد إلى روسيا شأنها الأول. ولما جاءت سنة 1689 قدر للبلاد أن يتولى أمورها رجل من أعظم رجال الدهر وأكبرهم همة وأوسعهم شهرة، نريد به بطرس المعروف باسم بطرس الكبير في التاريخ، أظهر مقدرة تندر في الرجال، وهو يومئذ فتى في السابعة عشرة من عمره، وجعل همه الأول الوصول إلى البحر الأسود وإنشاء أسطول حربي وتجاري يدور في مينه، فتوصل إلى امتلاك فرضة أزوف وهي على ضفافه بعد عناء كبير، ومن ثم شرع في بناء أسطول يعاونه على ما يريد من الفتح ومهاجمة بلاد الدولة العلية، وكان أهل بلاده إلى ذلك الحين لا يدرون من صناعة السفن شيئا ولا مال في خزينة حكومته يقوم ببناء السفن المطلوبة، ففرض مالا طائلا على أشراف مملكته وخدمة الدين فيها، واستخدم أناسا لجمع ذلك المال ثم سافر متنكرا إلى ممالك أوروبا التي اشتهرت بقوتها البحرية فأقام زمانا في إنكلترا والدنمارك على شواطئ البحار والأنهار يعمل كعامل بسيط فقير في بناء السفن ويتعلم دقائق الصناعة، والناس لا يعرفون من هو فإذا عرفوه انتقل من مكانه وعاد إلى التخفي حتى إذا أتم المراد من ذلك عاد إلى بلاده سنة 1700 واستلم مهام الملك، وبدأ بعمل الأسطول في البحر الأسود، ثم اتفق مع ملك الدنمارك وملك بولونيا على محاربة أسوج واقتسام أملاكها، ولكن أسوج كان لها يومئذ ملك باسل هو كارل الثاني عشر، فرد جموع المهاجمين وفل جنود أعدائه مرارا، ثم حدث ما ذكرناه في تاريخ أسوج وعاد بطرس الكبير إلى مهاجمتها؛ فكسرها شر كسرة في معركة بولتافا سنة 1709، ونتج عن هذه الحرب أن عدة ولايات في الشمال والغرب أضيفت إلى روسيا، وصار لها المواني على بحر البلطيق فعظم شأن روسيا من بعد هذا النصر، ولقب بطرس الكبير إمبراطور روسيا جميعها، وهو لقب القياصرة من آل رومانوف إلى الآن.
وانقطع بطرس الكبير بعد ذلك إلى إصلاح داخلية بلاده، فأدخل إليها النظامات الجديدة المصطلح عليها يومئذ في ممالك أوروبا المتمدنة، وأصلح الجيش وإدارة الأحكام والمحاكم والمالية، وفتح الترع وبنى الجسور والطرق، ووسع نطاق المتاجر وأنشأ المدارس وأبطل امتياز البطاركة الأروام في كنيسة بلاده، فجعل نفسه رئيس الكنيسة الروسية ولم يزل القياصرة رؤساء الدين في بلادهم إلى الآن. وفي سنة 1704 بنى مدينة بطرسبرج وسماها باسم القديس بطرس واسمه وجعلها قاعدة المملكة، ولما مات في سنة 1725 كانت روسيا في عداد الدول العظيمة، مع أنها لم تكن قبل أيامه على مثل هذا.
وورث الملك عن بطرس الكبير امرأته كاترينا الأولى، ملكت عامين ثم ماتت، وخلفها بطرس الثاني حفيد بطرس الكبير، ومات بطرس الثاني سنة 1730 فخلفته الإمبراطورة حنة، وهي ابنة إيفان أخي بطرس الكبير حدث في أيامها حروب كثيرة مع الدولة العلية لم تستفد منها روسيا شيئا، ولما حان أجلها أوصت بالملك لإيفان حفيد أختها كاترينا، وكان إيفان هذا أميرا ألمانيا من آل هانوفر لا يزيد عمره يومئذ عن ستة أشهر، ولكن الجيش الروسي لم يرض به ملكا فخلعه بعد سنة وعين إليصابات إمبراطورة سنة 1741، وهي أصغر بنات بطرس الكبير، وحكمت هذه الإمبراطورة إلى سنة 1762 حين تنازلت عن الملك لابن خالتها أمير هولشتين، وهو أيضا ألماني فرقي العرش وسمي باسم بطرس الثالث، ولكنه أغضب رجال الدين وقواد الجيش ببعض أموره فخلعوه وأقاموا مكانه الأميرة صوفيا أوغستا من آل أنهلت زربست في ألمانيا، فحكمت روسيا باسم الإمبراطورة كاترينا الثانية أو الكبيرة ، وهي ملكة مشهورة في التاريخ بالحروب الكثيرة التي جرت بينها وبين الدولة العلية، وكان الفوز في أكثرها لرجالها، وأضيفت في أيام هذه الإمبراطورة عدة ولايات ومدن إلى روسيا من أملاك الدولة العلية، وفي أيامها أيضا جزئت مملكة بولونيا، وهي التي ملكت روسيا أو بعضها حينا من الدهر، فلما ماتت سنة 1796 كان ملكها عظيما ودولتها قوية ورثها عنها ابنها بولس الأول، وكان مشهورا بقبح الخصال وقبح الوجه، وله أمور لا تنطبق على قياس، وهو الذي سن لائحة تقضي بحرمان النساء حق الملك في روسيا، وكان له ولع خاص بالوقوف أمام المرآة زمانا والتفرج على سحنته، فلما ثقل جوره على الناس تآمر بعضهم عليه وقتلوه سنة 1801، وبذلك بطلت الحرب بين روسيا وإنكلترا التي كاد الإمبراطور يضرمها بسوء تدبيره.
وملك البلاد بعد بولس ابنه إسكندر الأول، وهو من الملوك العظام له شهرة في التاريخ بسبب تحالفه مع نابوليون الأول ومحاربته له بعد التحالف بعد ما كان من طمع نابوليون، وكان هذا الإمبراطور حكيما عادلا تروى عنه المآثر الكثيرة، وهو الذي كان السبب في سحق قوة نابوليون؛ لأنه لما دخل ذلك الفاتح بلاده تمكن من رده وكسر جنوده، ثم دخل باريس مع من دخلها سنة 1812، وقضى بإبعاد نابوليون عنها وكان في آخر أيامه صديقا حميما لدولة الإنكليز، وتوفي إسكندر الأول سنة 1825 فخلفه أخوه نقولا الأول، وكان جبارا عظيم الخلقة شديد القوة يحكي الجبابرة الأول في قوة جسمه وكبره، وله شهرة في البسالة وحب الأثرة لا تفوقها شهرة، وحدثت في أيام هذا الإمبراطور عدة حروب، منها ما كان مع بلاد إيران ونتج عنها استيلاء روسيا على ولاية أروان وما وراء نهر جيجون، ومنها مع الدولة العلية ونتج عنها وضع حماية روسيا على الفلاخ والبغدان (رومانيا الحالية)، وهي يومئذ من أملاك الدولة العلية، ومنها مع بولونيا التي حاولت استرجاع استقلالها فسحقها نقولا سحقا وبطش بقواتها إلى حد أنه أقعدها عن كل حركة قادمة، ومنها مع المجر؛ لأن إمبراطور النمسا استغاث به على قمع ثورتها وردها إلى طاعته، فأعانه وأرسل عليها جيشا جرارا سحق ثورتها وأخضعها إخضاعا تاما.
وظل نقولا الأول على المحاربة والفتح زمانا، وهو لا يكتفي بما وصل إليه، ونفسه الطماعة تتوق إلى المزيد حتى إنه لما ثار محمد علي والي مصر على الدولة العلية وعدها بالمساعدة على شرط أن يكون لدولته الكلمة الأولى في الآستانة فتم له ذلك، ثم أخضع دولة إيران لنفوذه وحملها على إرسال جيش يقوده ضباط روسيون لمهاجمة الهند فردهم الإنكليز على الأعقاب.
وجملة القول أن هذا الإمبراطور العظيم كان جبارا وفعل فعل الجبابرة، وسحق أمما كثيرة لولا فعله لكانت الآن دولا زاهرة، وظل به الطمع إلى أن عول على ابتلاع ممالك الدولة العلية، وأثار عليها حربا عنيفة سنة 1854 تعرف بحرب القرم، ولم يزل خبرها يرن في الآذان، ولما كانت إنكلترا تخشى امتداد صولة الروس وصيرورة المراكز البحرية على البوسفور والبحر المتوسط إلى يدهم جهرت بمضادتهم وانتصرت للدولة العلية، وسعت في ضم غيرها إلى هذا التحالف فانضمت إليها فرنسا ومملكة سردينيا، وتحارب الفريقان زمانا أظهر فيه الروس والأتراك والإنكليز والفرنسويون من أشكال البسالة والإقدام ما تعجز عن وصفه الأقلام، وانتهت حرب القرم بفتح سباستيول، وهي فرضة على البحر الأسود في بلاد القرم التابعة لروسيا كان القيصر نقولا يظن أنها لا تفتحها قوات الإنس والجن، وأن جيشه لا يغلبه جيش في الوجود، فلما انتهى الأمر على غير ما أمل اضطر إلى عقد صلح لم تخسر منه روسيا كثيرا، ولم تستفد الدول الأخرى غير رجوع روسيا عن الفتح زمانا، وضاق صدر القيصر نقولا من هذا الحادث وهو جبار لا تذل نفسه ولا ترضى بغير النصر، فمات بعد الحرب بقليل وخلفه ابنه إسكندر الثاني، ويعده البعض أشرف القياصرة نفسا؛ لأنه حرر الفلاحين في بلاده الواسعة وكان الفلاح الروسي بمنزلة عبد للأشراف، فأبطل ذلك النظام القديم وترك له ذكرا حميدا في تاريخ البشر، وحارب إسكندر الثاني الدولة العلية الحرب الأخيرة المشهورة سنة 1876 فانتصر في أكثر المواقع، وملك بعض الأراضي العثمانية وساعد بلغاريا على الاستقلال، فاسمه مقرون بالاستقلال والحرية في جميع فعاله.
وكان هذا القيصر جميل الوجه، طلق المحيا، شريف الملامح، لم يقم بين ملوك الروس أجمل منه وجها ولا أطيب قلبا، ولكنه بلي في آخر أيامه بفئة التهلست التي قويت وامتدت صولتها وكثر أعوانها، وهم أعداء له وللحكم الاستبدادي، فقتلوه بقنبلة تفرقعت في طريقه سنة 1881، وأسفت أوروبا لفقده أسفا كبيرا، فورثه ابنه إسكندر الثالث، وهو المشهور باسم «بطل السلام»، كان ملكا شريف الخصال طيب القلب سليم النية، كبير الجسم، عظيم القوة، حكم بلاده بالعدل والإنصاف، وعمل على ترقيتها بإنماء موارد الرزق فيها، وتوسيع جوانبها بلا حرب ولا قتال، فعظم شأن روسيا في بلاده وتوددت إليها الممالك، وأبرمت بينها وبين فرنسا محالفة مشهور أمرها، واقترن هذا الإمبراطور قبل أن يرقى العرش بالأميرة داجمار ابنة ملك الدنمارك، وهي أخت ملكة إنكلترا وملك اليونان، فكان يحبها حبا مفرطا، ويعمل برأيها في أكثر الأمور، وقد رزق منها القيصر الحالي وأخاه وبنتين، وتوفي هذا القيصر في 1 نوفمبر سنة 1894.
ورقي عرش القياصرة العظام بعد إسكندر الثالث بكر أنجاله جلالة القيصر الحالي نقولا الثاني، وهو شاب في مقتبل العمر أظهر إلى الآن مقدرة في اختيار الوزراء وحبا للعدل، ورغبة شديدة في ترقية مصالح بلاده، وزادت قوات روسيا في البحر مدة الأعوام الأخيرة، واتسعت متاجرها وقوي نفوذها، وقد جال جلالة القيصر قبل توليه في الشرق والغرب مع أخيه الغراندوق جورج وابن خاله البرنس جورج أمير كريت، ورآه أهل هذه البلاد وسواها، وكان أينما حل يلقى من آيات الاحتفال والتعظيم ما لم يلقه السوى، وحاول رجل في بلاد اليابان أن يقتله فأنقذه البرنس جورج اليوناني، وقد اقترن القيصر بالبرنسيس أليس حفيدة ملكة إنكلترا السابقة، وأحب الحفيدات إليها، وهي ابنة أمير هس درامستات من أمراء ألمانيا، ورزق منها أربع بنات وولد، وهو مشهور بحبه لأهل بيته وأقاربه جميعهم، وقد عرف بحسن الخصال واشتهر في أيامه ارتباطه بفرنسا وزيارته لها وزيارة رئيس الجمهورية وبقية الملوك العظام له، وتعاظم نفوذ روسيا قبل حربها مع اليابان.
وكانت سبب هذه الحرب أنه لما مدت روسيا سكة الحديد من بلادها إلى الشرق الأقصى عظم نفوذها هنالك وتجسمت مصالحها، ولا سيما بعد أن احتلت منشوريا وبدأت بنيل الامتيازات في كوريا، وزادت حصون بورت أرثر زيادة كبرى، كل هذا واليابان ترى أن في تقدم روسيا على هذا المنوال خطرا عليها عظيما؛ لأن تلك البلاد مواجهة لها ومتصلة بها، وهي مورد الأرز الذي يعول عليه اليابانيون في الغذاء، فإذا ملكتها روسيا أصبحت اليابان نفسها تحت تحكم الروس؛ ولذلك جعلت حكومة اليابان تخابر روسيا في الرجوع عن كوريا والوقوف على حد معلوم في منشوريا، فلم تعتد روسيا بها كثيرا؛ لأنها حسبت قوات اليابان دون الصحيح بمراحل، وكان هذا هو الرأي الغالب في العالم المتمدن إلى ذلك الحين، فاضطرت اليابان إلى إضرام نار الحرب قبل إعلانه رسميا حسب عادة الدول، وهجمت بخدعة على مينا بورت أرثر، فأضرت بأسطولها ضررا بالغا وانقضت بوارجها على بارجتين صغيرتين كانتا في ثغور كوريا فأغرقتهما، وعند ذلك هاجت روسيا وطفقت تسير الفيالق البرية عن طريق سيبريا لمواقعة الأعداء، وأرسلت الأميرال مخاروف إلى بورت أرثر ليقود قواتها البحرية، وبدأ السير في حرب كبيرة دامت أكثر من سنة، كان القائد العام فيها لدولة الروس الجنرال كورباتكين الذي تولى وزارة الحرب في بطرسبرج عدة سنين، والقائد العام لليابان الجنرال أوياما، ولكن روسيا لقيت من المتاعب في هذه الحرب شيئا كثيرا؛ لأنه لم يكن لجيوشها طريق إلى الحرب غير سكة الحديد المنشورية ومركزها في خربين يبعد 15 يوما عن عاصمة روسيا على الأقل، هذا غير أن أهل منشوريا كانوا أعداء لروسيا في الحرب، وأن اليابانيين أظهروا علما بتلك البلاد وخبرة بما فيها يفوقان التصديق.
وقد جرت في هذه الحرب عدة معارك بحرية وبرية، فأما البحرية فمنها المعركة الأولى في ثغر بورت أرثر وقد ذكرناها، ومعركة أخرى في شهر مارس من سنة 1905 أصاب فيها بارجة الأميرال مخاروف نسافة أغرقتها، وكان الأميرال المذكور في جملة القتلى، ومنها معركة في 10 أوغسطس من تلك السنة حين حاول أسطول روسيا الإفلات من ثغر بورت أرثر ففقد بعض بوارجه وتعطل البعض الآخر، وكانت آخر المعارك البحرية من المواقع المعدودة في تاريخ الأمم، وهي معركة بحر اليابان حدثت على مقربة من جزيرة تسوشيما حين التقى أسطول البلطيك لروسيا وقائده الأميرال رودجفنسكي بأسطول اليابان وقائده الأميرال توجو؛ فكان انتصار اليابانيين يومئذ عظيما؛ لأن معظم الأسطول الروسي وقع في أيديهم، وأما المعارك البرية فكانت كثيرة، منها معركة نهر يالو عند حدود كوريا ومنشوريا حدثت في أوائل الحرب، ومعركة لياوتنج كانت من المواقع الكبرى والفوز فيها لليابانيين، ومعارك بورت أرثر، وهي مدينة حصنها الروسيون وأقام مائة ألف جندي من اليابانيين على حصارها تحت قيادة الجنرال نوجي نحو عشرة أشهر، ثم سلمت حاميتها حين قطعت الرجاء من وصول المدد إليها، وقد حوكم الجنرال سنوسل قائد حاميتها كما حوكم الأميرال نبوجاتوف الذي سلم في معركة بحر اليابان؛ لأن قوانين روسيا الحربية لا تبيح التسليم للأعداء على أي حال، فصدر أمر المحكمة الحربية بإعدام الرجلين، وأبدل القيصر هذا الحكم بالسجن في قلعة بولس وبطرس المشهورة في بطرسبرج، ثم عفا عنهما مراعاة للسن والصحة بعد 3 سنين.
Halaman tidak diketahui