وفي هذا الميدان محطة الترامواي العمومية، ومنه تتفرع أحسن شوارع المدينة، بدأت الفرجة بأحسنها، وهو شارع سيجين، على اسم أحد القواد الفرنسويين، يشبه شارع الموسكي في مصر بحركته التجارية المهمة وكثرة المختلفين إليه من وكلاء المعامل الأوروبية، ولا سيما معامل ألمانيا، يعرضون مصنوعاتها على التجار الأجانب والوطنيين، ويشترون منهم أنواع الجلد والصوف والشمع. ولما انتهيت إلى آخر هذا الشارع سلكت شارعا آخر ينتهي إلى ضاحية باسم غامبتا، وفيه تمثال السياسي الشهير المعروف بهذا الاسم، كتب على قاعدته أنه تذكار من أهل وطنه العارفين فضله، وهنالك حانات يختلف إليها جماهير الناس، وهي تشرف على الوادي الكائن تحت المدينة، وسرت أيضا ذلك النهار في شارع سفاستوبول، فانتهيت منه إلى قرية المغاربة، واسمها عند الفرنسويين قرية العرب، رأيت الأولاد يلعبون في طرقاتها، والرجال جالسين أمام الأبواب، والقرية واطئة الموقع، ولكنها نظيفة قد لا يخلو منزل فيها من شجرة تين أو عناب أمامه؛ طلبا للظل وفرارا من أشعة الشمس الكاوية. وأمامها قرية العبيد إذا دخلها المرء حسب نفسه في داخلية السودان. وعلى مقربة من ميدان السلاح جامع الباشا، بناه محمد باشا حاكم وهران سنة 1791، وتهدم على ممر الأيام، فذهب وفد من أهالي المدينة إلى باريس يرجو الإمبراطور نابوليون الثالث بترميمه على نفقته؛ فأذن وكتبوا على بابه هذه العبارة: «إن نابوليون الثالث أمر بترميم هذا الجامع سنة 1857.» قرأتها ودخلت الجامع، فوجدت فيه أروقة ملبسة بالقيشاني الأزرق ، وفيها مدرسة للصبيان، وفي داخل الجامع مغاربة التفوا بالأحرمة بعضهم في صلاتهم والبعض نائم، وقد دعاني شيخ هذا الجامع للصعود معه إلى الصومعة، أو هي المئذنة، ففعلت ورأيت البلدة بكل ضواحيها من ذلك المكان.
وزرت بعد ذلك الأحياء السفلى من المدينة، يسمونها بذلك تمييزا لها عن الأحياء العليا. وهذه الأحياء مثل بلد قائم بنفسه، سرت في شارع كليبر، منها وشارع ملاكوف وشارع الجمهورية، وكلها أسماء فرنسوية حلت محل الأسماء العربية القديمة، حسب عادة الفرنسويين في أملاكهم، وقد زرعوا بعض الشجر في هذه الأحياء السفلى، فنمت فيها خلافا للأحياء العليا. ويتصل بها متنزه يبتدئ من رأس المدينة، اسمه لتانج على اسم قائد فرنسوي تفرد في حرب الجزائر، ثم صار حاكما لإقليم وهران. ويمتد هذا المتنزه إلى الأحياء السفلى متعوجا ملتفا، فيرى السائر فيه البحر ونهر الرحى - سمي بهذا؛ لأن الرحى أو المطاحن أقيمت عليه في أيام العرب وكانوا يديرونه بضغط الماء - وقد غرسوا في الصف الأيسر من هذا المتنزه أشجارا من الرمان والتين والزيتون.
ويقال على الجملة إن هواء وهران على غاية الجودة، وهو ناشف خال من الرطوبة، وقد زرت مدة إقامتي فيها عدة أماكن غير التي ذكرتها، ولكنها لا تهم القراء، وتركتها بعد ذلك قاصدا تلمسان، وهي على بعد 165 كيلومترا، يجتازها القطار في 5 ساعات، وكان أول هذه المسافة سهلا فسيحا لا ترى العين آخره، زرعت فيه الحبوب والكروم وأشجار التين والزيتون، وكثرت فيه القناطر الحديدية فوق جداول الأنهر، وفيه عدة ينابيع يتفجر الماء من أرضها، وتروى بمائها المزارع والأغراس. وظللنا على هذه الحالة حتى بلغنا بلدة أبي العباس، وهي في منتصف الطريق، اسمها بلسان المغاربة بلعباس، وتعد مركز قبيلة بني عامر التي اشتهرت بالحرب تحت قيادة الأمير عبد القادر؛ ولذلك رأت حكومة فرنسا في سنة 1850 أن تجعلها من مراكز الجيش الفرنسوي، فهي اليوم مدينة فرنسوية محضة، فيها مياه كثيرة من نهر مخارة، وأرضها خصبة طيبة فلا يقل سكانها الآن عن 27000 نفس. ووقف القطار في هذه المحطة نصف ساعة انتهزت فرصتها وركبت عربة دارت بي في الطرق والشوارع، فألفيتها نظيفة زرعت أشجار الدلب إلى جانبيها مثل شوارع مرسيليا، ولها تياترو يأتون له بجوق فرنسوي كل سنة، وفيها سوق على شاكلة أسواق المدن الأوروبية. وعدت إلى القطار في موعد قيامه، فعاد بنا إلى المسير في واد بين جبلين، وفيه نهر تليتات، مثل كل أنهر هذه البلاد، أو بلاد الشام، وهي جداول قليلة المقدار.
تلمسان
وأما تلمسان فإنها من أجمل مدن الجزائر الداخلية، وجدت في بقعة من الأرض تكثر فيها ينابيع الماء، فهي ملأى بالحدائق والبساتين، تزرع فيها كل أشجار فرنسا وأثمارها، ولمنظرها عامة رونق وبهاء، يبلغ عدد سكانها الآن حوالي 35000، منهم 3500 فرنسويون، و4500 يهود، والبقية من الأهالي . وقد بنيت على جبل ارتفاعه ألف متر، ومن حوله الأودية مرصعة بالقرى تحكي مناظر جبل لبنان. وفي المدينة وضواحيها مواضع ومتنزهات كثيرة تستحق الذكر، مثل غاب بولونيا والشلال وبلدة سيدي أبي مدوين وجامعها المشهور، ومدينة المنصورة بنيت سنة 530 هجرية/1145 مسيحية. وبداخلها قلعة يسمونها قصر المشورة؛ لأن العرب كانوا يعقدون المجالس فيها للمشاورة، وقد دخلناها من باب عال متسع فوقه ساعة فلكية من الساعات العربية القديمة، كان لها شهرة مثل ساعة ستراسبرج في هذه الأيام، ولكنها تخربت من طول الزمان، وقد جعلوا هذا الموضع الآن مركزا للإدارة العسكرية الفرنسوية، وبنوا فيه أبنية كثيرة على النسق الأوروبي. ولهذه القلعة ساحة داخلية طولها 500 متر، وعرضها 300، ولها سور سمكه 3 أمتار تقريبا. ومما يروى عن محاسن هذا القصر في أيام العرب، أن يوسف بن تاشفين أمر بأن توضع في ساحته شجرة من الفضة، وفيها الطيور على أشكالها من الفضة أيضا، وأنها تتحرك وتخرج أصواتا كلما هب عليها الهواء.
وسرت في شارع فرنسا من شوارع هذه المدينة، ما بين أبنية ذات دور واحد وصفوف من الحوانيت تباع بها السلع الإفرنجية والعربية. وفيها القهاوي، بعضها للفرنسويين، والبعض للعرب، وهم يجلسون فيها على مقاعد من الجريد، ويشربون القهوة من فناجين كبيرة من غير ظرف، والأولاد أمامهم يلعبون أو يمرنون الكلاب على النباح، وبعض الأولاد يلبس العباءة البيضاء أو اللبدة أو المركوب الأصفر، وبعضهم حفاة أو عراة، وقد لحظت أنهم ذوو شدة وعناد لا يسمعون كلام الرجال الذين ينتهرونهم ويردونهم عن الصياح، ورأيت بعض المراكشيين الذين يأتون هذه المدينة يستغربون نور الغاز وأعمدته، فيتسلقها بعضهم ويضعون يدهم على النور؛ ليروا إذا كان من نار تحرق أو لا. وفي طرف هذا الشارع ميدان الجمهورية، أذنت الحكومة للأهالي أن يبيعوا فيه السلع والخضر والفواكه، فهم يبسطونها في أرضه مدة النهار ويغسلون الأرض عند الغروب، ثم ينصرفون. وعلى مقربة من هذا الميدان متحف دخلته فرأيت فيه كثيرا من الآثار العربية، وجد أكثرها في جوار هذه المدينة. وفي جملة ذلك الذراع الذي قرر طوله يوسف بن تاشفين، ما زال يعرف باسم ذراع الملك، وهو قياس الناس في أعمالهم يرجعون إليه منعا للغبن، والذراع المذكور من زجاج فرض عليه النصف والثلث والربع وبقية الأجزاء، وجده ضابط فرنسوي في قيصرية «سوق» تلمسان، فنقل إلى هذا المتحف، وعلق فيه داخل غطاء من البلور فيراه الراءون ولا يمسونه، وهو من الآثار النفيسة، حتى إن فرنسا فكرت حينا في نقله إلى اللوفر في باريس، ولكنها عادت وأبقته في موضعه الحالي.
وفي المتحف المذكور حجارة على شكل القنابل صنعت من الرخام الأبيض والأزرق، طول الواحد منها متر، وعرضه نصف متر، ووزنه من 100 كيلو إلى 130، ومنظرها يقرب من منظر قوالب السكر، أو قنابل المدافع في المدرعات الحربية، وبعضها كرات مستديرة وكلها من الرخام، كانت تلقى على الأعداء في زمان الحصار، وهناك كثير من حجارة القبور أو هي التي تكتب عليها أسماء المتوفين وتاريخ وفاتهم، منها حجر كتب عليه اسم أبي عبد الله سنة 760. ورأيت هنا مدفعا من الرخام الأبيض يحشى بالبارود فيه من ثقب في طرفه، وأظنه نادر المثال؛ لأن المدافع لا تصنع من الرخام، وتجاه هذا المتحف الجامع الكبير، وهو بقية ما بقي من 61 جامعا كانت في تلمسان دليل ما كان لها من الأهمية السابقة. وبناء هذا الجامع متين كغيره من جوامع هذه البلاد ، فربما بقي قرونا أخرى بعد الآن، وسقفه واطئ كغيره في بلاد المغاربة، وهم لا يبنون الجوامع الشاهقة كالتي نعرفها في مصر وبلاد الدولة العلية، وقل أن يزيد ارتفاع جوامعهم عن 25 مترا أو 30. والجامع الذي نحن بصدده قائم على 13 قنطرة، وهي قائمة على 72 عمودا مستدقا من الرخام، وله ثمانية أبواب وسقفه من خشب السنديان طلي باللون الأسود، وقناطره كلها مطلية بالجير الأبيض الناصع، وليس يخلو الجامع من بعض المصلين في كل حين، ولكنه يكثر اجتماع الناس فيه للتحدث بشئونهم العمومية، وهم يقعدون على شكل دائرة ويتكلمون بصوت خافت، وعليهم أدلة الوقار والخشوع، وهم لا يأنفون من دخول الزائرين جامعهم، إذ كانوا من غير المسلمين. وأما مآذن هذه البلاد فإنها تختلف عن المآذن العالية المستدقة التي نعهدها هنا، بل إن أكثرها واسع قليل الارتفاع يستريح المرء في صعوده. وقد صعدت مئذنة هذا الجامع فأشرفت منها على المدينة كلها، وهي عادة لي أينما كنت أرتقي هذه المرتفعات؛ حتى أرى المدن بشكلها التام، وأنصح لكل سائح أن يتبع هذه الخطة؛ لأنها تفيده في رؤية المناظر أينما كان.
المنصورة:
وعزمت في هذا النهار على زيارة ضواحي تلمسان الجميلة، فركبت عربة بلغت بها المنصورة في نصف ساعة تقريبا، وهي بلدة بناها أبو يعقوب سنة 702 هجرية - أي سنة 1302 مسيحية - وغزاها من بعده فريق من العرب فهدموها عن آخرها. وقد كانت المنصورة في أيام عزها كثيرة القصور، واسعة التجارة مع الأقطار العربية المجاورة، ولكنني ما رأيت منها حين وصولي إليها غير سورها العالي، طوله 400 متر، وقد تخرب أكثره الآن، وبقيت آثار أبراجه القديمة التي كانوا يحاربون الأعداء منها، ومن موجبات الأسف أن آثار المدينة لم تحفظ كما يفعل القوم المتمدنون في بقايا مدنهم القديمة؛ لأن أرضها صارت كروما للعنب، وما أبقوا منها غير الجامع وساحته وبركة الوضوء، والجامع لم يبق منه غير باب كبير عني الفرنسويون بحفظه، فأقاموا حوله سياجا من قضبان الحديد، وهو يشبه باب جامع السلطان حسن في مصر. وفي هذه الجهة تربة سيدي محمد السنوسي ، فإنه توفي هنا سنة 859 هجرية/1489 مسيحية. وقد دهنوا القسم الواطئ من القبة بالجير الأبيض، والقسم الأعلى مدهون بالأخضر، وفي داخل القبة طبول وأعلام خضراء وحمراء عليها آيات وعبارات دينية. وبينا أنا راجع من طريق غير الذي جئت به رأيت حيا جميل الشوارع كثير الحدائق والأغراس، والناس فيه من الأوروبيين، فعلمت أنهم نحو 100 عائلة من الفرنسويين نزحوا من بلاد الألزاس حين استولت ألمانيا عليها بعد حرب 1870، وقد أعطتهم الحكومة هذه الأرض فزرعوها وعمروها، وهم يستخرجون الخمر من كرومها ويبيعونه لمعامل بوردو. وقد بقيت سائرا في العربة حتى دخلت حرجة دعيت باسم غاب بولون المشهور في باريس، فيها شجر الصنوبر مرت عليه القرون حتى علت فروعها وتشبكت أغصانها، فأصبحت قوسا يسير من تحته المتنزهون إما في العربات أو الدراجات أو على الخيل، وأكثرهم من الضباط الفرنسويين يمتطون الجياد العربية الكريمة، وقد اعتنوا بأمر الحدائق في هذه الجهة وجاءوا ببذور الأثمار من فرنسا، مثل الخوخ والكمثرى وغيرهما، فنمت في أرض الجزائر نموا عظيما.
أبو مدوين:
Halaman tidak diketahui