قلت: «لا، ولكن يجب أن تسأل: لماذا أنت حي؟ وكيف تزيد حياتك حيوية؟ فإنه لا يزال أمامك نحو 30 أو 40 سنة من العمر، فهل يليق بك أن تنفقها فيما أنفقت في الماضي؟ إن الحياة حب وعمل وإنتاج، ونور يضيء في الذهن نسميه الذكاء، ومعارف تستخرج منها الحكمة وتفهم بها نفسك والطبيعة والكون، وهي مجتمع تعيش فيه وتسأل وتستطلع عما فيه من فضائل تدعمها ورذائل تكافحها، وهي بعد ذلك كله خير، فأين الخير في نفسك؟ عش وكافح واستمتع».
الفصل السابع عشر
تربية العظماء
قبل سنين كنت أقرأ سيرة الرحالة الأمريكي ستانلي، ووقفت عند قول كاتب السيرة إن هذا الرحالة كان يعنى وهو في مجاهل أفريقيا بحلق لحيته كل صباح كما لو كان في لندن أو أدنبره.
لقد أمضى ستانلي سنوات وهو يقطع الصحارى والغابات في وسط أفريقيا، ويواجه الوحوش ويأكل الجشب من الطعام وينام على الغليظ من الفراش، ولا يرى غير الزنوج الذين لا يعرفون معنى لحلق اللحى ولا يبالون الرجل كاسيا أم عاريا حافيا أم ناعلا.
ولكن ستانلي كان يعنى في الصباح بهندامه، ويحلق لحيته، ويرجل شعره، ويأكل فطوره، بالشوكة والسكين، فإذا أتم كل ذلك نهض للرحلة كأنه يقصد إلى مكتب في أحد شوارع لندن.
وإنما كان يفعل ذلك خشية أن تنهار شخصيته أو تضعف أمام المشاق التي كان يعانيها في وسط أفريقيا، وكان يحس أنه إذا أهمل الحلاقة صباح كل يوم فان التبذل يأخذ في نفسه مكان التجود، والإهمال يأخذ مكان العناية، ثم تنحل أخلاقه وينتقل هذا الانحلال إلى سلوكه في الوصول إلى الهدف الذي نصب نفسه له وهو الاكتشاف، فهنا رجل عظيم أراد أن يؤيد عظمته بالعادات الصغيرة التي تبدو تافهة في ذاتها ولكنها جليلة في دلالتها، لأنها إحدى اللبنات التي تبنى منها عظمة الرجل.
وإزاء هذه العظمة نجد حقارة حين نقرأ أن فاروق التافه كان يؤدي أعمال الدولة وهو في السرير، فكان يقرأ ويوقع القوانين وهو في جلباب النوم.
شئون الدولة وشئون الجنس تجتمعان في السرير ... مع الضحكات المخنثة والحركات المتهتكة ...
ولذلك يتمجد اسم ستانلي في التاريخ، ويتعفن اسم فاروق في التاريخ.
Halaman tidak diketahui