على أننا إذا درسنا شئون الأمم القديمة وأحوال القبائل التي لا تزال على الفطرة أو في أدنى درجات الحضارة، عرفنا أن الفن كان خادما للدين منذ البداية؛ ولذا كانت أهم مظاهره الأولى بناء المعابد والهياكل، وعمل تماثيل الآلهة، وصنع التحف والأواني والأدوات التي تستعمل في العبادة. وحسبنا دليلا على صحة ذلك أننا لا نستطيع أن ندرس الفنون المصرية القديمة أو الصينية أو الإغريقية من غير أن نعرف شيئا عن ديانات الأمم التي ازدهرت فيها هذه الفنون، وبغير أن تكون الطقوس الدينية نبراسا هاديا في فهم معظم التحف والمنتجات الفنية. بل إن الأمم المسيحية نفسها ساد فيها زهاء خمسة عشر قرنا فن ديني قوامه تصوير الأحداث الدينية وتوضيح تاريخ الكنيسة باللوحات الفنية والتماثيل. أما الحياة العادية البعيدة عن الدين فلم يكن لها من الفن نصيب يذكر، إلا منذ عصر النهضة بإيطاليا في القرن الخامس عشر.
وطبيعي أن بني إسرائيل لم تكن بيئتهم وتعاليمهم الدينية مرتعا خصيبا لنمو الفنون وازدهارها، كما كان الإغريق أو قدماء المصريين مثلا. فإن نواة الفن عند هذين الشعبين الأخيرين كانت تصوير الآلهة والأبطال، وعمل التماثيل لهم، أو تصوير الأفراد لأغراض دينية، أو صنع التماثيل لتدفن معهم، وما إلى ذلك مما له اتصال قوي بمعتقداتهم الدينية. والإغريق مثلا كانوا شعب حس ومادة يتصورون آلهتهم شبه آدميين وإن نسبوا إليهم الخلود، ويظنون أن العالم أكبر وأعظم من أن يكفيه إله واحد، ولم يكن المثل الأعلى عندهم الإله الواحد الذي لا جسم له والذي لا يمكن تصوره، وإنما كان الإله الجميل أو القوي الذي يرضي العين ويسعد اللب.
أما بنو إسرائيل فقد كانوا في البداية يتصورون ربهم مخلوقا يتميز بقوة غير عادية، ولكنهم وصلوا سريعا إلى الاعتقاد في إله واحد روحي لا مادة له؛ فلا يمكن تصوره أو تصويره أو عمل التماثيل له، ولذا فقد كانوا يكرهون تمثيل هذا المعبود الواحد في صورة أو رسم أو تمثال، وتأيد هذا الكره بالتحريم الصريح الوارد في الوصية الثانية من الوصايا العشر في سفر الخروج.
وطبيعي أن يتخلى بنو إسرائيل في خيالهم عن الصور والتماثيل، منصرفين إلى الصلوات والحكم والأغاني. ولا عجب فإن الفنون التصويرية أو التجسيمية تنشأ من البعد عن الروحية، فإن أساسها استطاعة تسجيل المتصورات في تحف فنية، وهي بطبيعة الحال بعيدة عن الروحية، والاكتفاء بالتفكير في الشيء دون تصويره وتسجيله في صورة أو تمثال. وقد كان اليهود يحرمون تصوير الإله كأنهم كانوا يذهبون إلى أن مثل هذا التصوير لا يتفق مع فكرة الألوهية العظمى.
ولكن الشريعة الموسوية لم تحرم إلا التصوير. أما العمارة والفنون الزخرفية فلم تعرض لها بشيء. والمعروف أن تحريم التصوير كان قائما في الإسلام أيضا، فكيف نشأ للإسلام فن نما وازدهر، واتسعت مناطق نفوذه، بينما لم تستطع اليهودية أن تطبع بطابعها الخاص بعض أساليب فنية يمكن عدها فنا يهوديا قائما بذاته؟
والرد على هذا السؤال يشمل البحث في المسألة الثانية التي أشرنا إليها قبلا، وهي قومية اليهود ومصيرهم السياسي.
ولسنا نريد أن نعرض هنا لما اختلف فيه العلماء بشأن تعريف اليهودية، وهل اليهود أبناء جنس واحد أو هم أمة واحدة أو هم أتباع دين واحد؟
وحسبنا أن نشير إلى أن الإسلام انتشر انتشارا عظيما وامتد سلطانه إلى كثير من البلاد التي كان للفن فيها شأن عظيم، واختلط العرب بكثير من الأجناس الأجنبية عنهم، وساهم العرب والإيرانيون والترك كل منهم بنصيبه في قيام الفنون الإسلامية التي جمع الإسلام بين عناصرها المتفرقة، وطبعها بطابع مشترك جعل أفضل تسمية لها أن ننسبها إلى الإسلام على الرغم من أنها لم تكن قبل كل شيء وسيلة لشرح الأفكار الدينية والتعبير عنها كما كانت سائر الفنون في العصور الوسطى.
أما بنو إسرائيل فقد نشئوا في الصحراء ثم استقروا في فلسطين، وامتزجوا بالكنعانيين في الألف الثاني قبل الميلاد، وكان من ملوكهم داود بين عامي 1000 و960ق.م. ثم ابنه سليمان «960-930ق.م». وانقسم اليهود في عصر ابنه إلى مملكة إسرائيل في الشمال وعاصمتها سامريا، ومملكة يهوذا في الجنوب وعاصمتها أورشليم، وسقطت مملكة إسرائيل حين استولى الآشوريون على سامر وسامريا سنة 721ق.م، وحل ببني إسرائيل أول أسر في بلاد الجزيرة، ثم سقطت المملكة الجنوبية حين استولى نابوخد ناصر «بختنصر» - ملك الكلدانيين - على أورشليم سنة 586، واقتاد اليهود إلى بابل حيث ظلوا في الأسر إلى أن استولى الفرس على بابل، فعاد بنو إسرائيل إلى فلسطين سنة 539، وشيدوا معبدهم المشهور في بيت المقدس، ولكنهم فقدوا ملكهم السياسي، وآلت الرياسة بينهم إلى رجال الدين، وتوالت الأحداث السياسية على البلاد فخضعت للإسكندر ثم للسلوقيين. ودخلها الرومان بقيادة بومبي سنة 63ق.م. وفي سنة 70م هدم طيطوس الروماني المعبد اليهودي الأكبر في أورشليم، ثم كانت نهاية اليهود كأمة متحدة ذات وطن قومي، وكان ذلك على يد الإمبراطور الروماني هادريان سنة 130م.
ويمتاز تاريخ اليهود بتشتتهم في أنحاء الأرض - وهو ما يعبرون عنه في اللغات الأوروبية باسم
Halaman tidak diketahui