ومن أهم نتائج حرب عام 1866 على النمسا غير فقدها مقاطعتين مهمتين؛ استقلال المجر منها استقلالا إداريا، وهي أيضا نتيجة من نتائج حرب القرم.
وقد استفادت كذلك من حرب القرم حكومة البيمونتي، فإنها أرسلت إلى مؤتمر باريس كما قدمنا الكونت «كافور» الشهير الذي استلفت أنظار مندوبي الدول إلى حالة إيطاليا ومظالم النمسا، وحمل على الحكومة النمساوية حملة شديدة كان لها رنة ودوي في كل أصقاع العالم، ومن حسن حظ البيمونتي أن «نابليون الثالث» كان مغرما بتحرير البلاد النازعة للاستقلال، وكان ميله لإيطاليا أشد من ميله لسواها، خصوصا وأن بغضه للنمسا كان عظيما بعد حرب القرم؛ لتلاعب هذه الدولة في سياستها وعدم وفائها في وعودها مع فرنسا وإنكلترا، ولم تمض إلا سنون قلائل بعد حرب القرم حتى نالت إيطاليا استقلالها وتكونت وحدتها، فكانت بذلك حرب القرم سببا لسقوط مقاطعتين مهمتين من أملاك النمسا في قبضة البروسيا، وسببا لاستقلال المجر استقلالا إداريا، وسببا لخروج إيطاليا من تحت نير النمسا واستقلالها، وتكوين وحدتها. وبالجملة، كانت حرب القرم سببا لضعف النمسا وتقويض أركان مملكتها.
وقد اكتسبت إنكلترا وفرنسا من هذه الحرب ازدياد نفوذهما في الآستانة، فاستعملتاه في سبيل مصالحهما، فإن الهنود كادوا يطردون الإنكليز من بلادهم في ثورة سيباي الشهيرة عام 1856 لولا تداخل المرحوم السلطان «عبد المجيد خان»؛ فإنه أصدر منشورا - بناء على رجاء إنكلترا - لمسلمي الهند أمرهم فيه بالركون إلى السكينة والطاعة لحكومة جلالة الملكة «فيكتوريا»، ومعلوم أن المسلمين في الهند أقوياء، ولهم شأن عظيم وكلمة نافذة، وكلهم يحترمون خليقة الإسلام ويجلونه أعظم إجلال، فلما وصل إليهم منشور جلالته وضعوه على رءوسهم وعملوا بما أمرهم به، فألقوا أسلحتهم، وانتهت بذلك الثورة وتوطدت سلطة الإنكليز في الهند بعد اضمحلالها.
وإنه ليتبادر للذهن أن إنكلترا شكرت الدولة العلية على عمل سلطانها الأعظم أو اعترفت لها بالجميل، نعم إنها اعترفت لها بالجميل، ولكن بمعاداتها والاعتداء على بلادها! فإنها سلطت في عام 1858 - أي بعد عامين من ثورة سيباي - إحدى سفنها الحربية الضخمة على ثغر «جدة» فاستمرت تدمر فيه نحو عشرين ساعة؛ أسيلت فيها دماء كثيرة وخربت منازل وبيوت عامرة، وكان ذلك عقب فتنة صغيرة قام فيها بعض المسلمين على بعض المسيحيين، وأصيب فيها قنصل فرنسا وقتلت زوجته، ولم يكن لعمل إنكلترا معنى ولا ضرورة؛ لأن الدولة العلية كانت قد أرسلت مندوبا عاليا من لدنها لتحقيق الأمر ومعاقبة المعتدين.
أما فرنسا فقد استعملت نفوذها في تركيا الذي ازداد بعد حرب القرم - كما قدمنا - لإعلاء كلمتها في الشرق؛ فأرسلت جيشا فرنساويا إلى الشام عام 1860 بحجة مساعدة الدولة العلية على قمع الفتنة التي أحدثها الخلاف والشحناء بين المارونية والدروز، مع أن جيش الدولة كان كافيا لإعادة الأمن والسكينة في هذه الديار، ولم تخرج العساكر الفرنساوية من الشام إلا في 5 يونيو عام 1861.
هذه هي النتائج الخطيرة التي أنتجتها حرب القرم، ومنها يعلم القارئ حظ كل دولة في هذه الحرب، وخطة الدول نحو الدولة العلية وكنه مقاصد كل واحدة منها وحقيقة أغراضها. (4) الأزمة الرابعة: الحرب بين تركيا والروسيا وما قبلها وما بعدها من عام 1875 إلى عام 1878
أبنا في ختام ما سبق أن نتيجة حرب القرم على النمسا كانت وخيمة، حيث فقدت هذه الدولة بعدها مقاطعاتها الإيطالية، وأخذت البروسيا منها في حرب عام 1866 مقاطعتين مهمتين، ونالت المجر استقلالها النوعي؛ أي ارتفعت سلطة النمسا عنها؛ فطمعت هذه الدولة في أخذ شيء من أملاك الدولة العلية يعوض عليها بعض خسائرها، فتقربت من ألمانيا عدوتها اللدودة التي قهرتها، وكونت وحدتها بانتصارها عليها وعلى فرنسا عوضا عن أن تستعد للأخذ بالثأر منها واسترجاع المقاطعتين اللتين أخذتهما منها، وصارت كذلك النمسا تستميل الروسيا إليها وتوعز لها بمحاربة تركيا.
وأوضحنا كذلك أن العلائق بين الروسيا والبروسيا صارت جيدة متينة، وأن مساعدة البروسيا للروسيا في حرب القرم حملت روسيا على ترك البروسيا تحارب النمسا وتقهرها وتحارب فرنسا وتقهرها، وتأخذ من كل دولة من الدولتين مقاطعتين عظيمتين، وتكون بذلك وحدتها، ويصير ملكها إمبراطورا لألمانيا بدون أن تعارضها في أعمالها، بل بقيت على الحيادة مظهرة ارتياحها لنجاح البروسيا ضد النمسا وفرنسا اللتين عاكستاها - أي الروسيا - في حرب القرم.
ومن ذلك يرى القارئ أن الروسيا والنمسا وألمانيا اتفقت بعد حرب عام 1870 التي قامت بين فرنسا والبروسيا واتفق إمبراطرتها على العمل بالاتحاد، فاهتمت الروسيا لتغيير الشرط المتعلق بحريتها في البحر الأسود الذي اتفقت عليه الدول في مؤتمر باريس عام 1856، ودعت الدول لعقد مؤتمر للنظر فيه؛ فأجابت الدول دعوتها، واجتمع مندوبوها في عاصمة بلاد الإنكليز في 13 مارس سنة 1871 واتفقوا - ولم تشترك فرنسا مع الدول لاشتغالها بعقد الصلح مع البروسيا - على تغيير هذا الشرط، وإعطاء الروسيا الحرية التامة في الملاحة بالبحر الأسود وتسيير سفنها فيه.
ولما تحققت الروسيا من أن ألمانيا والنمسا مستعدتان لمساعدتها، وأن إيطاليا دولة ناشئة لا يخشى منها، وأن فرنسا ضعيفة بعد الهزيمة خافت صوتها، وأن ليس لها في دول أوروبا من يستطيع معارضتها غير إنكلترا، وأنها وحدها لا تستطيع أن تضرها بشيء - فضلا عن أن الروسيا كانت تعلم أن إنكلترا لا تفيد تركيا شيئا؛ لأن مبدأها في كل أطوار سياستها أن تنتفع من غيرها ولا تنفع غيرها - اجتهدت «أي الروسيا» في تهييج أمم البلقان، وأرسلت في كل أنحاء بلاد البلقان زعماء ينادون بالثورة ضد الدولة العلية، وينشرون مبدأ اتحاد السلافيين تحت راية القيصر، ويدعون أقوام البلقان كافة للعصيان باسم الدين الأرثوذكسي ضد الحكومة العثمانية الإسلامية. وكان من مصلحة النمسا أن تهيج بلاد البوسنة والهرسك ضد الدولة العلية؛ لما كان عندها من الأمل في الاستيلاء عليها، فساعدت مهيجي الروسيا وأخذت تهيج كذلك أهالي هذه البلاد حتى هاج المسيحيون كافة في بلاد البوسنة والهرسك، وصارت المساعدات تأتيهم جهارا من بلاد الصرب والجبل الأسود، وأرسلت لهم من النمسا الأسلحة والذخائر سرا. فلما علمت الدولة العلية بذلك أرسلت إلى البوسنة والهرسك جيشا قويا بقيادة القائد الشهير والبطل العظيم الغازي «مختار باشا» فقمع الثورة ورد كيد الثائرين، ولكن دول الروسيا والنمسا وألمانيا التي كانت تريد كما قدمنا استمرار الثورات والاضطرابات في الدولة توسطت بين الثائرين وبين الباب العالي، وطلبت من الدولة أن تقبل مطالب الثوار بتخفيف الضرائب عنهم وبتركهم يعينون الشرطة «البوليس» من نفس أبناء البوسنة والهرسك؛ فوعد المرحوم السلطان «عبد العزيز خان» بالنظر في هذه المطالب، وبمنح رعاياه على اختلاف دياناتهم ما يطلبونه من الامتيازات، وما يراه موافقا لهم وللدولة. وفي 12 ديسمبر عام 1875 أصدر السلطان إرادة عالية بقبول مطالب أهالي البوسنة والهرسك، وبرهن بذلك على عدم تعصب الدولة ضد رعاياها المسيحيين. ولو كانت الدول راغبة حقيقة في خير المسيحيين وغير قاصدة ضرر الدولة وإضعافها، لكانت اكتفت بهذه الإرادة السلطانية، وساعدت الدولة على تنفيذها، وأمرت الثوار الذين هاجتهم ضد الدولة بالركون إلى السكينة وبالامتثال لأوامر الحكومة العثمانية، ولكنها كانت تعمل لبث الفتن والثورات، فأوعزت إلى الثوار بعدم نزع السلاح وبالاستعداد للكفاح.
Halaman tidak diketahui