50

Masalah Kubra

المأساة الكبرى: رواية تشخيصية في الحرب الحاضرة

Genre-genre

فالجسم الحي لا يصح ويقوى إلا إذا سلمت أعضاؤه كلها وإلا تشوه، ويفضي ذلك به إلى الموت إذا كانت الأعضاء المأوفة جوهرية، كذلك الجسم الاجتماعي لا يصح ويقوى إلا إذا سلمت له أعضاؤه وتعاونت على إنهاضه. وأعضاؤه هم الأمم، فإن لم تتعاون وقامت بعضها على بعض؛ ضعفت هي وأضعفته معها، وقط ما كانت الأمة الاجتماع كله، وهذا التنازع الهمجي بين الأمم هو السبب في تباطؤ ارتقاء العمران؛ لتقهقره أجيالا ووقوفه أجيالا بسبب ذلك. وطب الاجتماع كطب الأحياء يداوي ما يداوى، ويبتر الأعضاء الفاسدة إذا تعذر شفاؤها، ولا يجوز كما يذهب برناردي ومشايعوه بتر الأعضاء السليمة النافعة، ومحاولة تهشيمها، وهم يدعون خدمة العمران بذلك كما هي الحال في هذه الحرب. وأنكى من ذلك مشايعة الدول التي لا ترجى ، والتي بقاؤها في جسم العمران كبقاء الأعضاء الفاسدة في الجسم الحي، والتي ينبغي بترها صيانة له، بل كان يجب بترها منذ زمان طويل لولا أن الدول ذات الكلمة الراجحة كانت يومئذ جميعها ذلك الرجل. (بعض القضاة يمتعضون.)

ويا ليت الأمة الألمانية اقتصرت من العلم على الغاية الكبرى منه، وهي خير المجتمع - كما قصد جنر الإنكليزي، وباستور الفرنساوي، وماركوني الطلياني - واستئمرته مالا ما شاءت، كما فعل كوخها وأهرليخها، وزاحمت العالم بذلك ما استطاعت حتى بذته، لكان لها من كل ذلك عمل مشكور وفضل مأثور، ولكوفئت عليه بسبقها إلى ما تصبو إليه في هذا السباق المشروع بين الأمم الحية، ولكنها لم ترض بهذا، بل صرفت العلم عن هذه الغاية الشريفة إلى أقبح أوجه استعماله واستعملته للتقتيل والتدمير والقرصنة والرجوع بالعالم إلى عصور التوحش، بقيام الأمم السليمة بعضها على بعض، وتعمد الشر بعضها لبعض، حتى قلبت الغاية منها إلى ضدها، وحتى صار الناس يحمدون عليه الجهل، وما كان الجهل قبل ذلك قط محمودا. •••

وليس الملام على الأمة الألمانية المتضامنة مع حكومتها في السراء والضراء، مهما أساءت فهم مصلحتها؛ بقدر الملام على مجموع الهيئة الاجتماعية التي يجب عليها أن تكون هي نفسها متضامنة لدفع الشر عنها، وتوفير المصلحة لها عموما، وهذا انحطاط في هذه الأمم وحكوماتها يخجل منه اليوم، فعوضا من أن تهب جميعها هبة واحدة لنصر المجتمع والقبض على الجاني، تركته يسرح ويمرح ويعيث في الأرض فسادا، وادعت الحياد كأن لا ناقة لها في ذلك ولا جمل، وزعمت أنها تستفيد من ممالأته فشرعت تنصره في السر، وهي تدعي العزلة في الجهر، وهو لو أتيح له النصر لما كان حظها منه إلا الإذلال.

وكيف يكون غير ذلك، وحظ حلفائه منه ليس أفضل، انظروا إلى حليفتيه العظيمتين النمسا وتركيا، كيف أنه قبض عليهما بيد من حديد، واستخدمهما لمصلحته دون مراعاة أقل مصلحة لهما، حتى لو أرادتا الانفصال اليوم عنه لما استطاعتا، كأنهما جزء من مملكته، أو مستعمرة من مستعمراته، بل انظروا إلى معاملة جنوده لجنودهما ، فكأن هؤلاء درع لأولئك يضعونهم في مقدمتهم، ويستقبلون بهم الممالك، وما كان جزاؤهما لو تم له الانتصار إلا الاستلحاق - لا للضم والشم - بل للاستثمار والاستعباد، وخاصة تركيا، وهذا أقل ما كان ينويه لهما من الغنم، وكان ينوي أن يكون عليهما كل الغرم في الانكسار لو بقي له بعض الحول، وغريب جدا أن ترضى أمة بمثل هذا المقام لولا الجهل، وسهولة ابتياع ذمم الحكام الطغام.

نعم، إن الذنب الأكبر في وجود مثل هذا الجاني إنما هو على المجتمع الذي حتى الساعة لا يفهم مصلحته الكبرى من انضمام الأمم فيه كأنها أعضاء من جسمه للتعاون على العمار لا القيام بعضها على بعض للفساد والدمار، ولو كان يفهم لأطفأ منذ زمان جذوة النار التي أوقدت هذه الحرب، ولم يذر عليها الرماد كلما أوشكت أن تفنى،

2

ولكانت له اليوم أمة عظيمة نافعة، أو أمم يفتخر بها عوضا من استمرار هذه المجازر الدائمة التي أقلقت الزبانية في جهنم، والملائكة في السماء، وعوضا من هذا التذبذب الشنيع من هذه الدويلات الطامحة إلى الاستقلال والراسفة في الأغلال تتخبط في الحال والمصير، ولكان له أراض واسعة تدر الخير عليه وعلى أهلها، عوضا من هذه الصحارى القاحلة التي تأوي إليها وحوش الحيوان، وتعيث فيها فسادا لصوص الإنسان، فمن من الدول الراقية لا يحس اليوم بثقل ما كان يرتاح إليه في الماضي؟ بل من منها يستطيع أن يقف أمام محكمة العقل العليا، ويقول إنه كان فاهما جيدا حقيقة التعاون، وسعى لمصلحته من وراء مصلحة المجتمع؟ «وما هذا الوحل الذي يتخبط العالم فيه اليوم إلا من ذلك المطر».

وإذا كنت أشدد اللوم على الهيئة الاجتماعية عامة، والأمة الألمانية خاصة؛ فليس ذلك لأني أريد تخفيف العقاب عن المجرم الأصيل، فالهيئة الاجتماعية قد يلتمس لها عذر الغفلة، وقد عوقبت عليها شر عقاب، والغفلة من جهة لا تشفع بجريمة التعمد من الجهة الأخرى، بل تجعلها أشد قبحا إذ لا شيء أقبح من اغتيال الآمن المطمئن والغدر به، حتى إن البشر في عصور توحشهم كانوا يأنفون أن يأخذوا عدوهم على غرة، ويفتخرون بأن ينذروه لينازلوه نزال الرجال للرجال، والأبطال للأبطال، لا كما فعل هذا المجرم العاتي مع البلجيك خاصة، وقد شن عليها غارة أقل ما يقال فيها: إنها حرب الجبناء، أو حرب الأفاعي الخبيثة التي يرتفع عنها إباء الأسود الضراغم، والقوة تحتقر وتهان إذا لم تقرن بالنبل والشهامة وحماية الضعيف، ولا سيما إذا كان الضعيف نظيفا صحيحا، نظيفا في عقله، نظيفا في أعماله، وكان خصمه القوي على ضد ذلك نتنا في أفكاره، قذرا في مطامعه، معتلا في بنيانه كمجرم اليوم.

والأمة الألمانية جزء منه، فهي شريكته في جريمته، ولا تخفف شيئا من عقوبته، فإذا كانت هي يده الأثيمة؛ فهو رأسها الشرير، فإذا قطعنا يد السارق، فهل أتينا على ما في «معمل» رأسه من الأفكار الشيطانية والمطامع الجهنمية؟ وإذا كانوا قد قالوا: إن الوظيفة تولد العضو، فالوظيفة هنا في الرأس لا في اليد، أو هما كالأسباب المعدة والمتمة كما في الطب، والحقيقة أنهما شريكان متضامنان كما في العلوم الاجتماعية، فكما أنهما ينويان الاشتراك في الغنم، يجب أن يكونا شريكين في الغرم.

على أن الأمة الألمانية نالت حتى الآن شيئا غير قليل من هذا العقاب، إذ قتل أبناؤها، ورملت نساؤها، ويتم أطفالها، وبارت تجارتها، وسلخت منها مستعمراتها، وأضاعت في هذا الزمن القصير ما أحرزته من النجاح الباهر بعد تعب أكثر من نصف قرن، نالت جزاءها هذا بالشرائع الطبيعية التي لا تغفل ذنبا بلا عقاب، لا بالشرائع الوضعية الاجتماعية التي كثيرا ما تغفل عن ذلك، ولعل هذه الشرائع تعرف اليوم كيف يجب أن تعاقب الأمم المسئولة إذا أهملت واجباتها، وطمحت إلى سلب حقوق سواها قوة واقتدارا، ولا تكتفي بالعقاب الطبيعي وحده الذي يذهب غالبا بدون أن ينتبه إليه، وبدون أن يكون له الأثر النافع في الاجتماع، بخلاف العقاب الاجتماعي؛ فإن به وحده العبرة غالبا، والعبرة هنا لازمة لتنبيه الغافلين، وكبح جماح أصحاب المطامع الغير الموزونة. •••

Halaman tidak diketahui