مَسَائل أجَابَ عَنها
الحَافظُ ابن حَجر العَسقَلاني ﵀
تحقيق
أبي عبد الرحمن عبد المجيد جمعة عفا الله عنه
1 / 1
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
مقدمة
إنّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيّئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلّ له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمّدًا عبده ورسوله.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: ١٠٢].
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ [النساء: ١].
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾ [الأحزاب: ٧٠ - ٧١].
أمّا بعد، فإنّ أصدق الحديث كلام الله، وخير الهُدى هُدى محمّد ﷺ، وشرّ الأمور محدثاتها، وكلّ محدثة بدعة، وكلّ بدعة ضلالة، وكلّ ضلالة في النار.
1 / 5
وبعد، فإنّ من طرق التعليم النافعة طرح الأسئلة على أهل العلم للإجابة عنها عملا بقوله تعالى: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ [النحل: ٤٣]،
وقد ثبت في الصحيح (١) أنّ جبريل أتى النبي ﷺ، وسأله عن الإسلام والإيمان والإحسان، فأجابه النبي ﷺ عن ذلك، وقال في الأخير: "إنّه جبريل أتاكم يعلّمكم دينكم".
وقد دأب على هذا أهل العلم، فكان تلاميذهم حريصين على سؤال مشايخهم في مختلف أبواب العلم، وتدوين ذلك في كراريس لتحفظ فتاويهم، ويعمّ نفعها.
ومن هؤلاء الأعلام، شيخ الإسلام أحمد بن عليّ بن محمّد الكناني المصري الشافعي، الشهير بابن حجر العسقلاني، المتوفّى سنة ٨٥٢ هـ، فريد عصره، وإمام وقته، فقد كان قبلة يتوجّه إليه العلماء من كلّ الأمصار والأقطار، حتى ذاع صيته، واشتهر في الآفاق، وقد أذن له بالإفتاء بعض شيوخه كالحافظ العراقي والحافظ البلقيني وولده (٢)، ثمّ تولّى منصب الإفتاء بدار العدل سنة إحدى عشرة وثمانمائة (٨١١ هـ) (٣)، وقد وصف فتاويه تلميذه الحافظ السخاوي ﵀ فقال: "وأمّا فتاويه فإليها النهاية في الإيجاز، مع حصول الغرض، لا سيما المسائل التي لا نَقْلَ فيها، فإنّه كان من أحسن علماء عصره فيها تصرّفًا، لا يجارى فيها، ولا يمارى، يجرجها على
_________
(١) أخرجه مسلم (١) من حديث أبي هريرة ﵁، وأخرجه البخاري (٥٠) من حديث عمر ﵁ بنحوه.
(٢) انظر "الجواهر والدرر في ترجمة شيخ الإسلام ابن حجر" للحافظ السخاوي (١/ ٢٧١).
(٣) انظر المرجع السابق (٢/ ٦٠٠).
1 / 6
القوانين المحرّرة بالدلائل المعتبرة، وهو فقيه النفس، وكان يكتب في كلّ يوم غالبًا على أكثر من ثلاثين فُتيا" (١)، وقال
البُقاعي: "وكانت فتاويه وأماليه كالشمس في الإشراق" (٢)، ولهذا كان الناس لا يعوّلون إلاَّ على فتاويه، قال القاضي قطب الدين الخيضري: "المعوّل عند المشكلات عليه، ولا تركن النفس إلاّ إلى كلامه، ولا يعتمد الناس إلاّ على فتواه" (٣)؛ ومع ذلك لم تجمع هذه الفتاوى في مؤلف مفرد، بل بقيت منثورة في مكتبات تلاميذه، لا سيما تلميذه البار الحافظ السخاوي ﵀، فقد نقل بعض هذه الفتاوى في بعض مصنّفاته" بل عقد فصلًا في ذكر نبذة من فتاويه المهمّة، في كتابه "الجواهر والدرر في ترجمة شيخ الإسلام ابن حجر"، وكان قد همّ بإفرادها في مصنّف مفرد.
وقد رام أ. د. عبد الرحيم بن محمد أحمد القشقري -الأستاذ بقسم الحديث، بكلّيّة الحديث الشريف، بالجامعة الإسلامية، بالمدينة النبوية- جمع هذه الفتاوى من مكتبات العالم، كمكتبات العربية السعودية، وسوريا، وتركيا، ومصر، والمغرب، وتونس، ومكتبات إسبانيا، فتمكّن من جمع عشرين مجموعة مختلفة، في الحديث وعلومه، والفقه وأصوله، وشيئا من التفسير والعقيدة، طبع منها عشر مجموعات بمكتبة أضواء السلف - الرياض، فجزاه الله خيرا؛
_________
(١) المرجع السابق (٢/ ٦١٤).
(٢) المرجع السابق (١/ ٣٢١).
(٣) المرجع السابق (١/ ٣٣٢).
1 / 7
ولكنّه لم يهتد إلى الجزائر ليقف على كنوزها، ويطّلع على أسرارها.
وقد وقفت -فضل الله وتوفيقه- على نسخة خطّية من فتاوى الحافظ ابن حجر ﵀ بالمكتبة الوطنية بالجزائر، وهي برقم: (٢٦٣٢)، وتقع ضمن مجموعة برقم (١٠)، وكتبت بخطّ مغربي، مع استعمال اللون الأحمر.
ولا يشكّ أحد في صحّة نسبة هذه الرسالة إلى الحافظ، ويدلّ عليه أمور، منها:
أنَّه ورد اسم الحافظ ابن حجر في الجواب الأوّل، حيث قال: قاله وكتبه أحمد بن علي بن حجر الشافعي عفا الله عنه.
الثاني: الجواب الثاني، كتب بخطّ الشريف الجزري، ونقله هو من خطّ الحافظ.
الثالث: نقل بعض هذه الفتاوى تلميذه الحافظ السخاوي في كتابيه: "الجواهر والدرر في ترجمة شيخ الإسلام ابن حجر"، و"المقاصد الحسنة"، وقد نبّهت على ذلك في موضعها.
الرابع: أحال الحافظ ﵀ بعض هذه الفتاوى إلى بعض كتبه، فقال: وقد بسطته في الكلام على كتاب الأذكار. وهو كتاب: "نتائج الأفكار في تخريج أحادث الأذكار"، طبع منه ثلاثة أجزاء، بتحقيق حمدي عبد المجيد السلفي، بمطبعة دار ابن كثير. دمشق - بيروت.
هذا، وقد قمت بنسخ الرسالة حسب قواعد الإملاء المعمول بها، وخرّجت أحاديثها، وعلّقت عليها، ونبّهت على التصحيف الواقع فيها، بحسب بضاعتي المزجاة، والله المستعان، وعليه التكلان.
1 / 8
وفي الختام، أسأل الله العظيم أن يجعل عملي هذا خالصًا لوجهه الكريم.
وكتب
أبو عبد الرحمن عبد المجيد جمعة
الجزائر: ٢٢ ربيع الأول ١٤٢٦ هـ
1 / 9
الورقة الأولى من المخطوط
1 / 10
الحمد لله
سئل حافظ عصره، وإمام وقته، الشيخ شهاب الدين بن حجر الشافعي العسقلاني (١) عن رجل قال: ورد "الظَالِمُ عَدْلُ اللهِ في أَرْضِهِ، يَنْتَقِمُ مِنَ النَّاسِ، ثُمَّ يَنْتَقِمُ اللهُ مِنْهُ" (٢)، فقال له آخر: الذي سمعناه ورد: "الظالم عبد الله في أرضه، ينتقم من الناس، ثمّ ينتقم الله منه"، فقال الطالب: كيف يوصف بالظلم، وينسب الظلم إلى أنّه عدل
_________
(١) أشار الحافظ السخاوي إلى أن هذا السؤال -والذي بعده، وغيره- قد ورد من القاهرة. انظر "الجواهر والدرر" (٢/ ٩١٨).
(٢) قد سبق المصنّف إلى نفي وجوده الإمامُ الزركشيُّ ﵀، فقال في التذكرة في الأحاديث المشتهرة (١/ ١٧٤): لم أجده. لكن رواه بمعناه الطبراني في الأوسط (٣٣٥٨) عن جابر ﵁ بلفظ: "إنَّ اللهَ يقول: أَنْتَقِمُ ممَنْ أُبْغِضُ بمَنْ أُبْغِضُ، ثمّ أُصَيِّرُ كُلًاّ إلى النَّارِ"، وقال الحافظ الهيثمي في مجمع الزوائد (٧/ ٢٨٩) بعدما عزاه إلى الطبراني: وفيه أحمد بن بكر البالسي، وهو ضعيف؛ وهذا تساهل، فقد قال ابن عدي: روى أحاديث مناكير عن الثقات، ثمّ ساق له ثلاثة أحاديث، وأقرّه الحافظان الذهبي وابن حجر، وقال أبو الفتح الأزدي: كان يضع الحديث، ولهذا حكم على الحديث بالوضع غير واحد من أهل العلم. انظر الكامل لابن عدي (١/ ١٨٨) ميزان الاعتدال (١/ ٢١٩) لسان الميزان (١/ ١٤٠) المقاصد الحسنة (٦٦٨) الأسرار المرفوعة (٢٨١) الفوائد المجموعة (٦٦٨).
1 / 11
منه تعالى؟
قال السائل: فهل ورد في الأخبار شيء من هذين اللفظين؟ وإذا لم يرد فهل يجوز إطلاق مثل هذا؟
فأجاب: الحمد لله، اللهمّ اهدني لما اختلف فيه من الحقّ بإذنك.
هذا الحديث لا استحضره، ومعناه دائر على الألسنة، [و] (١) على تقدير وجوده فلا إشكال فيه، بل الرواية بلفظ: "عدل الله" أظهر في المعنى من الرواية (٢) بلفظ: "عبد الله".
وأمّا قول القائل: كيف يجوز وصفه بالظلم، وينسب إلى أنّه عدل [من الله تعالى] (٣)؟ فجوابه: أنّ المراد بالعدل هنا ما يقابل الفضل، فالعدل أن يعامل كلّ أحد بفعله: إن خيرًا فخير، وإن شرًّا فشرّ، والفضل أن يعفو فضلًا (٤) عن المسيء، وهذا على طريق أهل السنّة، بخلاف المعتزلة، فإنّهم يوجبون عقوبة المسيء، ويدّعون أنّ ذلك هو العدل، ومن ثَمَّ سمّوا أنفسهم أهل العدل والعدلية.
وإلى ما صار (٥) عليه أهل السنة يشير قوله تعالى: ﴿قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ﴾ [الأنبياء: ١١٢]، أي: لا تمهل الظالم، ولا تتجاوز عنه، بل عجّل عقوبته، لكنّ الله تعالى
_________
(١) زيادة من "الجواهر والدرر" (٢/ ٩٢٨) و"المقاصد الحسنة" (ص ٢٨٦).
(٢) في الأصل: رواية، والتصحيح من الجواهر والمقاصد.
(٣) زيادة من الجواهر والمقاصد.
(٤) كذا في الأصل، وفي الجواهر والمقاصد: مثلا.
(٥) كذا في "الجواهر" و"المقاصد"، وفي الأصل: صاروا، وهو على لغة: "أكلوني البراغيث".
1 / 12
يمهل من شاء، [ويتجاوز عمّن يشاء] (١)، ويعطي من شاء، ويمنع من شاء، لا يسأل عمّا يفعل سبحانه.
هذا الذي فتح الله به من الجواب عن هذا الإشكال، وربّنا الرحمن المستعان.
قاله، وكتبه: أحمد بن علي بن حجر الشافعي عفا الله عنه.
_________
(١) زيادة من الجواهر والمقاصد.
1 / 13
وسئل عن قول الشيخ زين الدين بن رجب المقدسي في كتاب "طبقات الحنابلة" (١) في مناقب الشيخ عبد القادر الكيلاني: "وقد جمع الشيخ أبو الحسين المقرئ الشطّنوفي (٢) المصري في أخباره -يعني الشيخ عبد القادر- ثلاث مجلّدات، [وهي المسمّات بالبهجة] (٣)، وقد قرأت بعض الكتاب، فلا يطيب على قلي أن أعتمد عل شيء مما فيه بالنقل منه إلاّ ما كان مشهورًا معروفًا من غيره، [وذلك لكثرة ما فيه] (٤) من الرواية عن الجهولين (٥)، وفيه من الشطح، والطامات، والدعاوي، والكلام الباطل، ما لا يحصى، ولا يجوز نسبة مثل ذلك للشيخ عبد القادر.
ثمّ وجدت الكمال جعفر الأُدْفُوي (٦)
ذكر: أنّ الشيخ الشَّطّنُوفِي (٧)
_________
(١) انظر كتاب "الذيل على طبقات الحنابلة" (١/ ٢٩٣).
(٢) في الأصل: الشضوفي، وهو تصحيف، والتصحيح عن "الذيل"، و"الجواهر والدرر" (٢/ ٩٤١)، والشطّنوفي: نسبة إلى شطّنوف -بفتح أوّله، وتشديد ثانيه، وفتح، وآخره فاء- بلد بمصر، من نواحي كورة الغربية، عنده يفترق النيل فرقتين: فرقة تمضي شرقيا إلى تنيس، وفرقة تمضي غربيا إلى رشيد، على فرسخين من القاهرة، وهو مركب. انظر معجم البلدان (٣/ ٣٤٤).
(٣) زيادة من الجواهر (٢/ ٩٤١)، ولم ترد في الذيل.
(٤) كذا في الذيل والجواهر، وفي الأصل كلمة غير واضحة، لم أهتد إلى قراءتها.
(٥) في الجواهر: المجهول.
(٦) في الأصل: الأدفري، وهو تصحيف، والتصحيح من الذيل والجواهر؛ والأدفوي: نسبة إلى أدفو -ضمّ الهمزة، وسكون الدال، وضمّ الفاء، وسكون الواو- اسم قرية بصعيد مصر الأعلى بين أسوان وقوص، وهو كمال الدين أبو الفضل جعفر بن تغلب بن جعفر بن الإمام العلامة الشافعي، ولد في شعبان سنة خمس وثمانين، وقيل: خمس وسبعين وستمائة، وسمع الحديث بقوص والقاهرة، وأخذ المذهب والعلوم عن علماء ذلك العصر، منهم ابن دقيق العيد، قال أبو الفضل العراقي: كان من فضلاء أهل العلم، صنّف تاريخًا للصعيد، ومصنّفًا في حلّ السماع، سمّاه: "كشف القناع"، وغير ذلك، توفي في صفر بمصر سنة ٧٤٨، ودفن بمقابر الصوفية. انظر شذرات الذهب (٣/ ١٥٣) معجم البلدان (١/ ١٢٦).
(٧) في الأصل: الشضوفي.
1 / 14
نفسه (١) كان متّهمًا فيما يحكيه في هذا الكتاب بعينه. وادّعى ابن رجب أيضًا أنّ كتابي: "الغنية" (٢)، و"فتوح الغيب" من تصانيف الشيخ، فهل صحّ ذلك أم لا؟.
وقال الذهبي (٣): كان الشطنوفي (٤) مغرمًا ببهجة الشيخ عبد القادر، فراج عليه فيها حكايات مكذوبة.
والمسؤول من صدقات شيخ الإسلام إشباع الكلام في ذلك، وأن يبيّن ما تبيّن من حال "البهجة" ما يزيل اللبس، وما معنى قوله: وقدمي هذه على رقبة كلّ وليّ لله؟
فأجاب: أمّا ما يتعلّق بالبهجة فقد طالعت أكثرها، فما رأيت [الأمر كما ذكره الحافظ ابن رجب] (٥) على إطلاقه، بل هي مشتملة على أقسام:
القسم الأول: ما لا منابذة لقاعدة الشريعة فيه بحسب الظاهر، بل هو جائز شرعًا وعقلًا، وهذا معظم الكتاب، فإنّ ظهور الخوارق على البشر واقعة في الوجود، ولا ينكرها إلاّ معاند.
القسم الثاني: منابذ لقوانين الشريعة في الظاهر، فإن أمكن حمله بالتأويل على
_________
(١) في الأصل: في نفسه، والتصحيح من الجواهر والذيل.
(٢) في الأصل: "المضمنة"، وهو تصحيف، والتصحيح من الذيل (١/ ٢٩٦)، وهو "الغنية لطالبي طريق الحقّ".
(٣) عبارته في تاريخ الإسلام (٣٩/ ١٠٠): جمع الشيخ نور الدين الشطّنوفي المقرئ كتابًا حافلًا في سيرته وأخباره، في ثلاث مجلدات، أتى فيه بالبرّة وأذن الجرّة، وبالصحيح والواهي والمكذوب، فإنّه كتب فيه حكايات عن قوم لا صدق لهم.
(٤) في الأصل: الشضوفي
(٥) في الأصل: الآن كما نقله الشيخ زين الدين.
1 / 15
أمر [ظاهر سائغ] (١) فذاك، وإلاّ، فينبغي اجتنابه؛ وتحسين الظنّ بقائله يحتاج إلى أن يدّعي أنّ ذلك [صدر] (٢) في حال غيبة له من غير اختيار.
القسم الثالث: ما تردّد بين الأمرين، فهذا ينبغي الجزم بحمله على المحمل الصحيح، ولو بالتأويل، بخلاف الذي قبله، فإنّه يجوز أن يكون غير ثابت.
ولا شكّ أنّ من ليست له بصيرة بنقد الرواة ثم قصد الإكثار فإنّه يصير حاطب ليل، يجمع الغثّ والسمين، وهو لا يدري، وهذا حال جامع "البهجة".
وقد ذكر أئمّتنا لما يظنّ (٣) من الخوارق ضابطًا يتميّز به المقبول من المردود، فقالوا: إن كان الواقع ذلك له أو منه على المنهاج المستقيم فهي كرامة، كالشيخ عبد القادر، وقد قال شيخ الإسلام عزّ الدين بن عبد السلام: ما وصلت إلينا كرامات أحد بطريق التواتر مثل ما وصلت إلينا
كرامات الشيخ عبد القادر، وروينا هذا الكلام بمعناه (٤) بسند صحيح عن الحافظ شرف الدين علي بن محمّد اليونيني، أنّه سمع ابن عبد السلام يقوله، وفي رواية الذهبي عنه (٥)، قيل له: -مع ما عرف من اعتقاده، يعني من المسائل التي يخالف فيها الحنابلة والشيخ منهم، والأشاعرة، وابن عبد السلام منهم-، فقال: نعم، إذ (٦) لازم
_________
(١) في الجواهر: شائع.
(٢) زيادة من الجواهر.
(٣) في الجواهر: يظهر.
(٤) في الأصل: بمعنى، والتصحيح من الجواهر.
(٥) انظر سير أعلام النبلاء (٢٠/ ٤٤٣) تاريخ الإسلام (٣٩/ ٩٢).
(٦) في الأصل: إذا، والتصحيح من الجواهر.
1 / 16
المذهب ليس بلازم (١)؛ وإن كانت الواقعة منه أوّله على الوجه المباين للشريعة المطهّرة فليست فيها دلالة على الولاية والكرامة (٢)؛ فهذا هو الحدّ الفارق بين الكرامة الدالّة على الولاية، والخارق الذي لا يدلّ عليها، بل ربما دلّ على ضدّها، كما يظهر في كثير من أحوال المبتدعة المتمسكين بما يباين الأمور الشرعيّة، فإنها أمور (٣) شيطانية، لا يغترّ بها إلاّ الجهلة، وربما ظهرت من أناس في حال غيبتهم وذهولهم، وهم على قسمين:
من كان قبل ذلك على المنهج القويم، فتلك كرامة، ولكن لا يُقتدى (٤)
بأقوال من كان هذا سبيله (٥)، ولا بأفعاله، بل يعذر على ما يصدر منه لكونه في حال غيبة عقله الذي هو مناط التكليف، والأولى منع جهلة العامة من ملازمة مثل هذا لئلاّ يُظنّ (٦) أنّ الذي يصدر منه في حال غيبته هو الحقّ، فيُقتدى (٧) به، ومن هنا ضلّ كثير منهم، وبالله التوفق.
وإذا عرف ذلك فالشيخ عبد القادر لم يكن من هؤلاء، بل كان حاضر الحسّ،
_________
(١) علّق الحافظ الذهبي ﵀ على هذه العبارة في السير (٢٠/ ٤٤٣) فقال: "قلت: يشير إلى إثباته صفة العلو ونحو ذلك، ومذهب الحنابلة في ذلك معلوم، يمشون خلف ما ثبت عن إمامهم ﵀ إلاّ من يشذّ منهم، وتوسّع في العبارة".
(٢) في الجواهر: ولا كرامة.
(٣) في الجواهر: أحوال.
(٤) في الأصل: يعتمد، والتصحيح من الجواهر.
(٥) في الأصل: فعله، والتصحيح من الجواهر.
(٦) في الجواهر: يظنّوا.
(٧) في الجواهر: فيقتدوا.
1 / 17
يتمسّك بقوانين الشريعة، ويدعو إليها، وينفر من مخالفتها، ويشغل (١) الناس فيها، مع تمسكه بالعبادة والمجاهدة، ومزج ذلك بمخالطة الشاغل غالبا (٢) عنها كالأزواج والأولاد، ومن كان هذا سبيله كان أكمل من غيره، لأنّ هذه صفة صاحب الشريعة، ومن هنا قال تلك الكلمة المشهورة، لأنّه لا يعرف في عصره من كان يساويه في الجمع بين هذه الكمالات.
وإذا تقرّر هذا، فلا يضرّ ما وقع في هذه "البهجة" مما ينسب (٣) إليه، لأنّه إن كان على قانون الشريعة فنسبته إليه جائزة، وما عدا ذلك، إن كان ثابتًا عنه حمل على أنَّه صدر (٤)
منه في حال غيبته (٥)، وإن كانت أحواله الغالبة لم تكن له فيها غيبة، وإن لم يكن ثابتًا فالعهدة على ناقله؛ والغرض تعظيم شأنه؛ وهو بلا شكّ يستحقّ التعظيم، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم (٦).
قاله وكتبه أحمد بن علي بن حجر الشافعي حامدًا مصليًّا مسلّمًا، ومن خطّ تلميذه الشريف الجزري نقلت، وهو نقل من خطّه، والله الموفّق.
...
_________
(١) في الأصل: شغل، والتصحيح من الجواهر.
(٢) في الأصل: غائب، والتصحيح من الجواهر.
(٣) في الجواهر: نسب.
(٤) في الأصل: صار، والتصحيح من الجواهر.
(٥) في الجواهر: غيبة ما.
(٦) قال الحافظ الذهبي في السير (٢٠/ ٤٥٠ و٤٥١): "قلت: ليس في كبار المشايخ من له أحوال وكرامات أكثر من الشيخ عبد القادر، لكن كثيرًا منها لا يصحّ، وفي بعض ذلك أشياء مستحيلة. ثمّ قال: وفي الجملة، الشيخ عبد القادر كبير الشأن، وعليه مآخذ في بعض أقواله ودعاويه، والله الموعد، وبعض ذلك مكذوب عليه".
1 / 18
وسئل الشيخ شهاب الدين بن حجر ﵁، هل قال أحد من المسلمين بجواز إهانة الخبز، وما سقط منه من اللباب؟ وبجواز وطئه بالأقدام؟ وما يجب على فاعل ذلك؟ وهل يجوز إلقاؤه في الأرض؟ وما قيل في تعظيمه: "عَظِّمُوا الخُبْزَ، فَإِنَّهُ مَا أَهَانَهُ قَوْمٌ إِلاَّ ابْتَلاَهُمُ اللهُ بالجُوعِ" (١)؟
وهل هذا الحديث صحيح؟ وهل ما قيل: "إنّ النبي ﷺ تسليمًا دخل على سيّدتنا عائشة، فوجد كسرة ملقاة في الأرض، فأخذها، وقبّلها، ووضعها على رأسه، ثمّ قال: يَا عَائِشَةُ! أَجلِّي نِعَمَ اللهِ، فَإِنَّهَا قَلَّ مَا نَفَرَتْ عَنْ قَوْمٍ وعَادَتْ إِلَيْهِمْ" (٢)؟ وهل هذا حديث أم لا؟
_________
(١) أخرجه أبو نعيم في الحلية (٩/ ٣٩٧) عن أبي هريرة ﵁ بلفظ: "أكرموا الخبز فإنّ الله تعالى سخّر له بركات السماء والأرض، ولا تسندوا القصعة بالخبز، فإنّه ما أهانه ... " وذكره، وذكره الديلمي في الفردوس (رقم: ٢٠٠ و١٠٤٩) بدون إسناد، وضعّفه الشيخ الألباني ﵀ في الضعيفة (٤/ ٤٢٢)، وعزاه الحافظ ابن حجر في اللسان (٤/ ٢٦٧) إلى أبي سعيد الماليني في المؤتلف له، في ترجمة علي بن يعقوب بن سويد الورّاق، ونقل عن أبي سعيد بن يونس أنه قال فيه: كان يضع الحديث، وساق له هذا الحديث. وله شاهد عن ابن عباس ﵁ مرفوعًا بلفظ: "ما استخفّ قوم بحقّ الخبز إلاّ ابتلاهم بالجوع"، أخرجه الخطيب في المتفق والمفترق (١/ ٤٣٠) وابن الجوزي في الموضوعات (٢/ ١٩٥)، لكن لا يفرح به، قال ابن الجوزي: هذا حديث موضوع، قال أحمد بن حنبل: إسحاق بن نجيح أكذب الناس، وقال: يحيى: هو معروف بالكذب، ووضع الحديث، وقال ابن حبان: يضع الحديث، وقال الحافظ الذهبي في تلخيصه (رقم: ٦٢٥): فيه كذّابان: الحسين بن أحمد الصفّار، وإسحاق بن نجيح
(٢) سيأتي تخريجه بعد قليل.
1 / 19
فأجاب بما نصّه: لا أعلم أحدًا من العلماء قال بجواز إهانة الخبز، كإلقائه تحت الأرجل، وطرح ما تناثر منه في المزبلة مثلًا أو نحو ذلك، ولا نصّ أحد من العلماء على المبالغة في إكرامه، كتقبيله مثلًا، بل نصّ أحمد ﵁ على كراهة تقبيله (١)، ومع عدم القائل بجواز الإهانة فيضاف إلى من أهانه استلزام ارتكاب عموم النهي عن إضاعة المال، فيمنع من طرحه تحت الأرجل، لأنّ الغير قد يتقذّر بعد ذلك، فيمتنع من أكله، مع الاحتياج إليه.
وأمّا الأحاديث الواردة في ذلك فمنها حديث: "أَكْرِمُوا الخُبْزَ، فَإِنَّ اللهَ أَكْرَمَهُ، فَمَنْ أَكْرَمَ الخُبْزَ أَكْرَمَهُ اللهُ " أخرجه الطبراني (٢) من حديث
أبي سكينة، وسنده ضعيف، وفي لفظ: "فَإِنَّ اللهَ أَنْزَلَ لَهُ مِنْ بَركَاتِ السَّمَاءِ، وسخَّرَ لَهُ مِنْ بَرَكَاتِ الأَرْضِ" أخرجه البزار والطبراني وابن نافع (٣) من حديث عبد الله بن أمّ حرام، وسنده ضعيف جدًّا.
_________
(١) انظر "منار السبيل" (٢/ ١٨٨) "الإنصاف" للمارداوي (٨/ ٣٣٤).
(٢) أخرجه الطبراني في الكبير (٢٢/ ٣٣٥)، وقال الحافظ الهيثمي في مجمع الزوائد (٥/ ٣٤) بعدما عزاه إليه: وفيه خلف بن يحيى، قاضي الريّ، وهو ضعيف، وأبو سكينة، قال ابن المديني: لا نعلم له صحبة. كذا قال في خلف، وهو من تساهله، فقد قال فيه أبو حاتم: متروك الحديث، كان كذّابًا، لا يشتغل به، ولا بحديثه. ومن هنا تعلم أنّ قول المصنّف: سنده ضعيف، قصور، لا سيما وقد أقرّ أبا حاتم على كلامه في موضع آخر. انظر الجرح والتعديل (٣/ ٣٧٢) ميزان الاعتدال (٥/ ٤٥٤) لسان الميزان (٢/ ٤٠٥)
(٣) أخرجه الطبراني في مسند الشاميين (١٥) وكذا البزار (٢٨٧٧ - كشف الأستار) وابن حبان في المجروحين (٢/ ١٣٤) والعقيلي في الضعفاء (٣/ ٢٧)، وقال الحافظ الهيثمي في المجمع (٥/ ٣٤): رواه البزار والطبراني، وفيه عبد الله ابن عبد الرحمن الشامي، ولم أعرفه، وصوابه: عبد الملك بن عبد الرحمن الشامي، وهو ضعيف. كذا قال، وعبد الملك هذا، قال فيه البخاري: منكر الحديث، وقال أبو حفص الفلاس: كذّاب، ولهذا أورده غير واحد في الموضوعات. انظر الموضوعات لابن الجوزي (٢/ ١٩٣ - ١٩٤) تنزيه الشريعة (رقم: ٦) اللآلئ المصنوعة (٢/ ١٨١) الفوائد المجموعة (رقم: ٢٦ و١٥٣) السلسلة الضعيفة (٦/ ٤٢٠).
1 / 20
ومنها حديث أبي هريرة: "أَنَّ النَّييَّ ﷺ تسليمًا نَهَى عَنْ قَطْعِ الخُبْزِ بالسكينِ" أخرجه ابن حبان في كتاب الضعفاء (١)،
وسنده واه، وأخرجه الطبراني (٢) من حديث أمّ سلمة، وسنده ضعيف أيضًا.
_________
(١) أخرجه ابن حبان في الضعفاء والمجروحين (٣/ ٤٨) وكذا ابن عدي في الكامل (٧/ ٤٣) كلاهما في ترجمة نوح بن أبي مريم أبي عصمة، وقال فيه ابن حبان: كان ممن يقلب الأسانيد، ويروي عن الثقات ما ليس من حديث الأثبات، لا يجوز الاحتجاج به بحال، وقال ابن عدي: هذا حديث منكر، وقال الحافظ العراقي في تخريج أحاديث الإحياء (رقم: ١٣١٥): رواه ابن حبان في الضعفاء، وفيه نوح بن أبي مريم وهو كذّاب؛ ولهذا حكم على الحديث بالوضع غير واحد، انظر موضوعات الصغاني (رقم: ١١٩) الموضوعات لابن الجوزي (٢/ ١٩٤) وتلخيصه للحافظ الذهبي (رقم: ٦٢٤) الفوائد المجموعة (رقم: ٤٠)
(٢) أخرجه الطبراني في المعجم الكبير (٢٣/ ٢٨٥) وكذا البيهقي في شعب الإيمان (رقم: ٦٠٠٧)، وقال الحافظ الهيثمي في مجمع الزوائد (٥/ ٣٧): رواه الطبراني، وفيه عباد بن كثير الثقفي، وهو ضعيف. كذا قال، قال أبو طالب: سمعت أحمد بن حنبل يقول: عباد بن كثير أسوؤهم حالًا، قلت: كان له هوى؟! قال: لا، ولكن روى أحاديث كذب لم يسمعها، وكان من أهل مكّة، وكان رجلًا صالحًا. قلت: كيف كان يروي ما لم يسمع؟ قال: البلاء والغفلة، وقال ابن المبارك: انتهيت إلى شعبة، وهو يقول: هذا عباد بن كثير! فاحذروا روايته، وقال البخاري: تركوه، وقال النسائي: متروك الحديث. انظر الكامل في "الضعفاء" (٤/ ٣٣٣) الضعفاء للعقيلي (٣/ ١٤٠) المجروحين (٢/ ١٦٦) الجرح والتعديل (٦/ ٨٤).
1 / 21
ومنها حديث: "أكْرِمُوا الخُبْزَ، فَإِنَّ كَرَامَةَ الخُبْزِ أن لاَ يُنْظَرَ بِهِ الأُدُمُ" أخرجه الحاكم في المستدرك (١) من حديث عائشة، وأخرج ابن ماجه (٢)
من وجه آخر عن عائشة قالت: "دخل النبي ﷺ تسليمًا عليّ فرأى كسرة ملقاة فأخذها يمسحها، ثمّ أكلها وقال: يَا عَائِشَةُ! أَكْرِمي نِعَمَ اللهِ، فَإِنَّهَا مَا نَفَرَتْ عَنْ قَوْمٍ قَطّ فَعَادَتْ إِلَيْهِمْ" وسنده ضعيف، ولم أر في شيء من طرقه أنّه قبّلها، ومداره على
_________
(١) أخرجه الحاكم (٤/ ١٣٦) بلفظ: "أكرموا الخبز، وإنّ كرامة الخبز أن لا ينتظر به، فأكله وأكلنا"، وقال: هذا الحديث صحيح الإسناد، ولم يخرّجاه، وأقرّه الحافظ الذهبي، لكن قال: قلت: المرفوع منه "أكرموا الخبز".
(٢) أخرجه ابن ماجه (٣٣٥٣) بلفظ: "أكرمي كريما فإنّها ... "، وقال البوصيري في مصباح الزجاجة (٤/ ٣١): هذا إسناد ضعيف، لضعف الوليد بن محمد الموقري أبو بشر البلقاوي؛ وهذا تساهل، قال الحافظ فيه في التقريب: متروك؛ وقد ورد من طرق أخرى كلّها ضعيفة. انظر الإرواء (١٩٦١)؛ وللحديث شواهد أخرى، لكنّها ضعيفة أو موضوعة.
قال الحافظ السخاوي ﵀ في "المقاصد الحسنة" (ص ٩٨): "وفي الجملة، خير طرقه الإسناد الأوّل على ضعفه، ولا يتهيّأ الحكم عليه بالوضع مع وجوده، لا سيما، وفي المستدرك للحاكم من طريق غالب القطان عن كريمة ابنة همام عن عائشة أنّ النبي ﷺ قال: "أكرموا الخبز"، حسب، قال شيخنا (يعني الحافظ ابن حجر): فهذا شاهد صالح"، ومال إلى تصحيح رواية الحاكم أيضًا الشيخ الألباني ﵀ فقال في الضعيفة (٦/ ٤٢٤): "وجملة القول: إنّ الحديث ضعيف من جميع طرقه، لشدّة ضعف أكثرها، وإضراب متونها، اللهمّ إلاّ طرفه الأول: "أكرموا الخبز"، فإنهّ النفس تميل إلى ثبوتها، لاتّفاق جميع الطرق عليها، ولعلّ ابن معين أشار إلى ذلك بقوله: أوّل هذا الحديث حقّ، وآخره باطل، ولأنّ حديث عائشة يمكن اعتباره شاهدًا له، لا بأس به، لخلوّه من الضعف الشديد، بل قد صحّحه الحاكم والذهبي كما تقدّم، ونقل الحافظ السخاوي في "المقاصد الحسنة" عن شيخه أنَّه قال فيه: فهذا شاهد صالح، والله ﷾ أعلم".
1 / 22
الوليد بن محمّد المُوقري، وهو ضعيف جدًّا.
وبالجملة لا ينبغي مع ورود هذه الأحاديث إهانة الخبز احتياطًا، ولا تعظيمه. وأمّا بأن يجعل فوق الرأس أو يقبّل، فلا يشرع، والله سبحانه أعلم بالصّواب.
...
1 / 23