وذكرته بالزملاء وأخبرته عن المصائر، فاتضح أنه لا يعرف إلا رضا حمادة معرفة غير شخصية، ولما سألته عن حاله رحب بالحديث جدا كأنما كان يبحث عن متنفس له. قال: بعد الابتدائية التحقت بالمدرسة الثانوية في أسيوط لانتقال أبي إليها، ولكني رفت في عهد محمد محمود، ورجعت في عهد النحاس، ثم رفت مرة أخرى في حكم صدقي، ثم اتهمت في قضية الشروع في اغتياله وسجنت، حكم علي بعشرة أعوام ولكني خرجت بعفو في حكومة النحاس التي عقدت المعاهدة، ووجدت أنه من العبث أن أحاول إتمام دراستي الثانوية، فعينني الوفد وكيلا لجريدة الجهاد في الإسكندرية.
وسكت قليلا متجهم الوجه للذكريات لا أدري بها ثم قال: لم أحزن في حياتي مثلما حزنت للخلاف بين مصطفى النحاس والنقراشي، كان النحاس زعيمي، وكان النقراشي أبي الروحي، ولم أتصور الدنيا صالحة للحياة مع وجود عداوة بين الرجلين، وسارت الأحداث في المجرى الذي تذكره، فبلغ بي التقزز مداه. ولما كانت المعاهدة قد ختمت ثورة 1919 وتحقق لنا الاستقلال ولو بعد حين، فقد قررت اعتزال السياسة، وصادف ذلك وفاة أبي ووراثتي لقدر لا بأس به من المال، ففتحت مطعم سمك في سيدي جابر وفتح الله علي. - إذن اعتزلت السياسة؟ - منذ عام 1937.
ثم وهو يعتدل في اهتمام: ولكني لم أنقطع عن متابعة الأحداث، لعلي السماك الوحيد الذي يفلي الجريدة قبل أن يقول يا فتاح يا عليم.
ثم وهو يهز رأسه في أسى: وكنت أتابع تدهور الأحوال بحزن، وكلما تسلل إلى الوفد ضعف أو انصرف عنه جيل من الشباب تقطع قلبي، ولكن ما باليد حيلة.
فقلت: لكل شيء شباب وشيخوخة، تلك سنة الحياة. - ولكن الوفد في حياتنا يمثل عصر الفتوة والبعث، دلني على أي فترة تاريخية منذ عهد ما قبل الأسر حتى اليوم ساد فيها الشعب وتعملق كما ساد وتعملق أيام الوفد!
ثم وهو يضحك: ولما قامت ثورة يوليو حمدت الله على القرار الذي اتخذته بملء حريتي قبل أن أرغم عليه أو على ما هو أسوأ منه. - ولكنك قدرت للثورة أعمالها المجيدة بلا شك؟ - الاعتراف بالحق فضيلة، ولكني لا أغتفر لها محاولة النيل من زعامة سعد زغلول.
فقلت: للسياسة مقتضياتها، وأظنك لا تنسى موقف مصطفى كامل من أحمد عرابي.
فسألني باهتمام: هل شاهدت جنازة مصطفى النحاس؟ كانت رد اعتبار شعبي لسعد وللوفد ولأكبر ثورة شعبية في حياتنا.
وأخبرني أنه يزور القاهرة من حين لآخر منذ عامين لانتقال كريمته إليها بحكم الزواج، ثم حدثني عن أسرته فقال: ابني الأكبر سماك مثلي، الأوسط مهندس، الأصغر ضابط طيار.
ومنذ ذلك التاريخ واظبت لدى كل تصييفة في الإسكندرية على تناول العشاء ولو مرة في مطعم زعيمي القديم. وفي صيف عام 1969 وجدته حزينا على غير عادته. وقال لي: في أواخر العام الماضي هاجر ابني المهندس إلى كندا!
Halaman tidak diketahui