وقال أيضا: طبعا سمعت عن صحوة الموت!
ومرت أشهر، وعام وعامان وثلاثة أعوام، وتحسنت الأحوال، وصلبت الإرادة، وتجددت آمال النضال، ولكن ذلك لم يهزمه وإن أقلقه أحيانا، واعتصم بفكرته الثابتة، وغذاها بمتابعة الإذاعات المعادية والإشاعات المغرضة، ولما وجد مني ومن رضا حمادة اتهاما لوطنيته قال: لا وطن بعد اليوم إلا وطن المصالح، فإما أن تكون أمريكيا وإما أن تكون سوفييتيا، إما أن تقبل الحرية والإرادة الخلاقة والإنسانية، وإما أن تقبل النظام والعدالة العمياء والإرادة الميكانيكية!
فقد الأمل في الإنجليز، وأصبح حلمه الذهبي أن تسيطر أمريكا على الشرق الأوسط، وأن تحدد له مدارا حضاريا في مجالها الحيوي، يلعب فيه العرب واليهود دورا متكاملا.
هكذا علمته المصلحة أن يتكلم في السياسة، وما زال يعمل، يشيد العمارات ويبيعها، يقيم في مينا هاوس، يستمتع بحياته كأعزب مقطوع من شجرة، ويمارس الجنس كل شهر مرة، ويزورنا في أوقات محددة تحية لعشرة نصف قرن، صداقة بلا حب حقيقي ولا احترام، نراه مخلوقا شاذا قد من حجر، ويرانا مجموعة من الحمقى العابثين بلا قيمة حقيقية.
غانم حافظ
كان مدرس الرياضيات في المدرسة الثانوية، وكان وقتها شابا، عرف بالأدب والوقار وحسن المعاملة، فلم يخرج تلميذ في معاملته عن حدود الأدب، حتى الذين عرفوا بالشقاوة مثل جعفر خليل وبدر الزيادي وعيد منصور. طلبه عيد منصور مرة لدرس خصوصي بعد أن أقنع أباه بأن أجرة الدرس الخصوصي أرحم من مصروفات سنة إعادة. وقابل غانم أفندي حافظ والد عيد فسأله الرجل عما يطلب؛ فطلب ريالا في الساعة، ولكن الرجل فزع، وقال: إنه لا يدفع أكثر من شلن، فابتسم غانم أفندي حياء، واقترح أن يعطيه الدرس مجانا بشرط أن يحضره مع تلميذ آخر في نفس الحي، وقد كان. وتلقى عيد منصور درسا خصوصيا في الحساب مجانا طيلة شهرين! وقد رأيته وهو يبكي يوم مصرع بدر الزيادي، وكان جزاؤه منا حبا واحتراما. وبعد التحاقي بالجامعة عرفته عن كثب في مقهى الحي، فتحولت التلمذة إلى صداقة. وكان أهم ما يميزه دماثة الأخلاق وهدوء الطبع وأناقة الملبس، كان يجالسنا في يوم واحد في الأسبوع - وخاصة في العطلة الصيفية - يدخن النارجيلة، يصغي في أدب ومجاملة، وقليلا ما يتكلم. وكان يعالج شتى الموضوعات في إطار طبعه الهادئ، ومهما يكن من عنف الموضوع وشدة حرارته فإنه يتحول على لسانه همسا عذبا تحيطه هالة باسمة. لم ير غاضبا أو محتدا أو صارخا، حتى السياسة كان يترجمها حديثا جذابا لطيفا غاية في الوداعة، ولو هوجم حزبه المحبوب الوفد، وإذا تصدى للدفاع قال: إنهم ناس طيبون!
أو يقول: مصطفى النحاس؟ .. إنه رجل طيب مبارك!
وأقسى ما يذهب إليه في الدفاع أن يقول: سامحك الله!
واقتصر نشاطه السياسي على ذلك، وعلى التوجه يوم الانتخاب - إذا تقرر إجراء انتخابات حرة - إلى اللجنة لإعطاء صوته لمرشح الوفد. ولذلك لم يشترك في ثورة 1919 إلا بقلبه وحده. وكان جم التواضع، لا يخجل من أصله بخلاف الكثيرين من أهل طبقته، فحدثني مرة عن أصله قائلا: كان أبي شرطيا.
ثم قال: وكان همه أن يجعل مني شرطيا غير أن جارا لنا - تاجرا - نصحه بإدخالي المدرسة الابتدائية، ففعل، ونجحت نجاحا استحققت عليه المجانية حتى نلت البكالوريا، ولم أجد مدرسة ميسرة أمامي إلا المعلمين فدخلتها!
Halaman tidak diketahui