فقال له: إني لا أقوم بواجبي كضابط فحسب، ولكني أدافع عن مبدأ، فإني أعتقد أن استقلال مصر عن إنجلترا سيؤدي بها إلى الانحلال والفساد، وأننا إذا خرجنا من الإمبراطورية خرجنا من الحضارة!
وتوفيت زوجته بالسكتة قبيل الحرب العظمى الثانية فدفنت على بعد أذرع من مقام الرجل الوحيد في حجرة استقبال المدفن. ولحق بها في العام الأول من الحرب بعد أن تمكن منه تليف الكبد، ومن العجيب أن اسمه لم يمح من ذاكرة جيلنا حتى اليوم، وأن الكثيرين ما زالوا يحفظون الأغنية الشعبية التي وضعت بقصد التشهير به.
عصام الحملاوي
كان بيت آل الحملاوي يطل على شارعنا بضلع كما يطل على بين الجناين بضلع آخر، وهو أكبر بيوت الشارع، وذو حديقة واسعة تحيط به من جميع الجهات، ويتراءى من فوق أسواره العالية رءوس النخيل والمانجو بكثرة مذهلة، وكان ربه عصام بك من الأعيان والمضاربين في البورصة، وكانت أسرته تتكون من زوجة وثلاث بنات، وكان الحنطور يحمله في الذهاب والإياب، معلنا برنين جرسه عن تحركاته. ولم تكن الأسرة تنتسب إلى زماننا، ولا ألوانها البراقة تنتمي إلى جنسنا، وهي وحدة كانت مستقلة بذاتها، لا سبب يربطها بمن حولها من الجيران، فلا تزور ولا تزار، ولا تتبع تقليدا، ولا تحترم موسما، وإذا خرجت الأم وبناتها - راكبات أو راجلات - خرجن سافرات فبهرن الأعين ببشراتهن العاجية، وشعورهن الذهبية، وعيونهن الملونة. وخرق عصام بك المألوف والمعقول عندما دعا إلى بيته ممثلة مشهورة، وعندما مضت تتردد عليه في أيام محددة. وسرعان ما عرف أنه اتخذها عشيقة. بل نشرت مجلة الفن أنه أهدى إليها عقدا ثمنه عشرة آلاف جنيه. وكنا نتجمع في الشارع لنشهد مقدمها واستقبالها ونسعد بذلك حتى قال جعفر خليل: نحن نشاهدها بالمجان أما بقية المسرحية فلا يمكن تخيلها!
وتساءل خليل زكي: كيف يتصرف البك القواد أمام زوجته وبناته؟
فقال سيد شعير: يتصرف أمامهن كما يتصرفن أمامه!
وكان بيت سيد شعير أقرب بيوتنا إلى بيت آل الحملاوي، وكان آل الحملاوي يثيرون اهتمامه للدرجة القصوى، فجاءنا يوما وهو يقول: انكشف الغطاء!
والتففنا حوله متلهفين فقال: الهانم تعشق محمد الكواء! - محمد الكواء!
كنا نعرفه تماما فهو كواء الشارع، وإلى ذلك كان فتوة كما كان أعور، ولم نتصور أن الهانم الجميلة التي كنا نشبهها بماي موراي يمكن أن تعشق ذلك الأعور ذا الكرش المترامية والرقبة الغليظة، والوجه المفلطح. وقال سيد شعير: وهي تذهب إلى بيته متخفية في الملاءة اللف، رأيتها بعيني!
واستغنت المرأة عن الاستخفاء فكان الكواء يحمل الملابس بنفسه، ويذهب بها إلى البيت فلا يغادره إلا بعد ساعة أو ساعتين. وحدث أن اصطحب عصام بك الممثلة إلى رحلة خارج القطر، فكان الكواء يتردد على البيت لمناسبة ولغير ما مناسبة، ومضى يبيت فيه جهارا وبلا حذر. وفي أثناء ذلك كان البنات الثلاث يخرجن معا إلى أطراف العباسية الشرقية فيقابلن المعجبين ، أو يستقبلنهم مساء في حديقة البيت، ورأيت بين أولئك عيد منصور وشعراوي الفحام وقريبي أحمد قدري وضابط قسم الوايلي وطبيب أسنان الحي ومدرس فرنسي! وتوهمنا أن واجب الرجولة يطالبنا بالتحرش بالبيت وبالمترددين عليه، ولو بالقذف بالطوب من بعيد لصغر سننا ولضعفنا، ولكن شرطيا انبرى لحماية البيت، ربما بإيعاز من ضابط القسم العاشق. وكنت إذ ذاك غارقا في حب صفاء فغضبت أضعافا على سلوك بنات عصام، واعتبرته زراية وتلويثا لأسمى عاطفة في الوجود، ولكن بدءا من عام 1930 حدث ما خيب تقديرات أهل الحي جميعا، فقد تزوجت البنات الثلاث تباعا، وفزن بزيجات ممتازة! تزوجت الكبرى من مهندس، والوسطى من سكرتير وزير، والصغرى من محام ناجح، والأعجب من ذلك أنهن قاطعن حياة بيتهن مقاطعة شاملة فكون أسرا كانت مثالا في التوفيق والاستقامة! وفي الخمسينيات وما بعدها صادفت بعضا من أبنائهن من الشباب الموفق الناجح، ومنهم من عرف بالوعي السياسي التقدمي، وقد توفي عصام بك في أيام الحرب العظمى الثانية، في نفس الأسبوع الذي قتل فيه شعراوي الفحام. ووزعت التركة فورثت الهانم دخلا كبيرا، وكانت في الخمسين من عمرها، ولكن حيويتها فاقت سنها، كما احتفظت من جمالها بقدر موفور، ومكثت في البيت وحدها، وأصبح من النادر أن تزورها إحدى بناتها، وذهبنا في تفسير ذلك مذاهب لا تخلو من سوء، والواقع أن علاقتها بالكواء كانت وما تزال مستمرة، ولكن بدا أن الرجل أراد التخلص منها، حتى إنه صفعها مرة أمام دكانه وعلى مرأى من بعض الخدم، وهي تحاوره بما لم يسمعه أحد، ولم تمض أسابيع حتى نشأت علاقة جديدة بينها وبين القصاب، حتى قال جعفر خليل ضاحكا: الولية أرستقراطية ولكنها ذات ميول شعبية!
Halaman tidak diketahui