ممكن أن تفعل الآن أي شيء كما تشاء، وكيفما تشاء باسم الثورة!
وشعرت لأول مرة في حياتي بأن موجة من العدالة تجتاح العفونة المتصلة بلا هوادة، فتمنيت أن تواصل سيرها بلا تردد ولا اعوجاج، وفي نقاء وطهر إلى الأبد، وحاول الرجل التسلل إلى القيادات الجديدة، ولكنه لم يفلح. وما لبث أن أصيب بسرطان الدم فاعتكف في بيته فترة ثم وافاه الأجل حوالي عام 1955. ولا أنسى ساعة انتشار خبر وفاته في الوزارة، فقد خرج الموظفون على تقاليدنا المرعية، وسمعت العشرات وهم يقولون بأصوات مرتفعة شامتة: الله يجحمه! - في ألف داهية!
وكانت جنازته أفقر جنازة شهدتها، شيعها عشرة أنفار، قريب واحد وتسعة من زملائه القدامى بالجامعة، وحضرها رجل ذو شأن هو الدكتور إبراهيم عقل في عهد دروشته التي أدركته بعد وفاة ابنيه وقبيل وفاته ، وعقب وفاة عدلي المؤذن بيوم واحد انتحرت شقيقته العانس.
عبد الرحمن شعبان
شخصية لا تنسى، عندما جلست إلى مكتبي لأول مرة في إدارة السكرتارية لفت نظري بشدة كهربية، عملاق في طول العقاد وضخامة زيور باشا، أنيق الملبس فخم المنظر، تخاله وزيرا رجعيا أو مدير بنك. - حضرته أستاذنا الكبير عبد الرحمن شعبان مترجم الوزارة.
ليس هذا فحسب، ولكني عرفت أيضا مع الأيام أن مرتبه عشرون جنيها لا غير! بدا لي أول يوم منطويا متجهما كحصن فقدرت المتاعب في زمالته التي فرضتها الأقدار علي، ولكنه كان يفتح قلبه بيسر وبسرعة، وسرعان ما تنفجر قهقهاته كالقنابل ويحتقن وجهه المستدير الريان بالدم، ويتجلى في براءة الأطفال. وعند الحديث تنهمر منه المعلومات كالمطر الغزير، فهو يحب الموضوعات التي تطرق مدخراته من المعارف بقدر ما يضيق بالموضوعات التي يجهلها فتضطره إلى التزام السمع، وهو أبغض الأشياء إلى نفسه. يحب الكلام لحد العبادة، ولديه معلومات لا حصر لها عن أشياء لا حصر لها؛ السيارات والأثاث والزيوت والأمراض والساسة والأفلام والبلاد والنكت والتاريخ والجغرافيا والفلك والقانون والمصارف والدعارة. طفل كبير في الخامسة والثلاثين، خفيف الروح، دعاباته أزهار منورة، ونوادره وشي منمنم، أما غضبه فآه لو انفجر غضبه، وما أسهل أن يثور غضبه! لشيء ولغير ما شيء ينفجر غضبه، وعند ذلك تزلزل الزلازل وتنفجر البراكين، وتنطلق الأعاصير، فإذا لم يقابل بتحد هدأ وسكن وتراخى وتراجع فاعتذر وقدم السيجارة أو أمر بالقهوة. تناقش مرة مع أحد الموظفين فعانده الرجل حتى أثاره، وأراد أن يفحمه فاستشهد بنادرة من التاريخ الإسلامي - وعبد الرحمن يجهل التراث جهلا تاما - فقال: دخل بدوي على عبد الملك بن مروان فقال ...
ولكن عبد الرحمن شعبان انتتر قائما كعمود السواري، وصاح وهو ينتفض غضبا: عبد الملك بن مروان! من هو عبد الملك بن مروان؟! تستشهد لي بحيوان يا حيوان، ملعون أبوك أنت وعبد الملك بن مروان.
وهجم عليه كالوحش ففر الرجل من الإدارة كالنحلة، ولكنه لم يقدم فيه شكوى، حتى طنطاوي إسماعيل رئيس السكرتارية كان يتجاهل ذلك التمرد الصارخ على أصول الوظيفة، وكان يقول: إنه أحمق، ولكنه أنظف معدن في هذه الوزارة.
وأدركت أن معاندته غير مأمونة، وأن الخوض معه في موضوع تعرفه ويجهله مغامرة جنونية. ولعل عباس فوزي كان أول من عرف كيف يداريه بمكره ولباقته، ومع أن عبد الرحمن كان يحتقره في باطنه إلا أنه عامله باحترام ومودة، وكان أبوه وزيرا للحربية، أرسله إلى فرنسا - بالبكالوريا - ليدرس الطب فمضى يتنقل ما بين فرنسا وإنجلترا عشرة أعوام دون جدوى، مكث عاما أو عامين في كلية الطب، وعامين آخرين في كلية العلوم، كذلك الحقوق والآداب. ولكنه لم يثابر ولم يحصل على شهادة. ولما توفي والده رجع إلى مصر في الثلاثين، يحمل في رأسه دائرة معارف مضطربة غير متكاملة، وخبرة عميقة بالإنجليزية والفرنسية والنساء والقمار والحانات والمسارح والسينما وبيوت الدعارة، كما رجع بزوجة لبنانية تقاربه في العمر أو تماثله، ولم يترك أبوه له مالا، وكانت أخته الكبرى متزوجة من سفير خارج القطر، فعمل مترجما في السفارة الفرنسية. - لم أعمر في الوظيفة أكثر من عام ثم اضطررت إلى تركها بسبب لكمة وجهتها إلى الملحق الصحفي!
واشتغل بالإذاعة - قبل تمصيرها - ثم اضطر إلى الاستقالة بعد مشاجرة عنيفة، وعمل في جريدة المقطم حتى وجه إلى صاحبها كلمة نابية كاد يقدم من أجلها للمحاكمة فتركها، وأخيرا التحق بخدمة الوزارة بعد نجاحه في امتحان أعلن عنه في الصحف. وكان اعتاد الحياة الدسمة المضيئة على الطريقة الأوروبية فلم يف مرتبه بتحقيق مأربه، فاستغل قدراته في اللغتين في الترجمة للصحف ودور النشر وروايات الجيب، مكرسا جهده الضخم لرفاهية الحياة ولابنة وحيدة كان يعبدها عبادة. وأقام في شقة في شارع فؤاد الأول، وأحاط جوه العائلي بصداقات أوروبية لأسر فرنسية وإيطالية وأحيانا إنجليزية، ليكفل لنفسه البيئة التي يعشقها بكل مشتهياتها من أثاث جميل ومأكل طيب وشراب ممتع وصحبة راقية وأحاديث طلية رفيعة، وكان يقول بوجد: أوروبا روح الدنيا وأهلها ملائكة الخلق أما من عداهم فهم حيوانات أو حشرات.
Halaman tidak diketahui