وما أشك في أنك حين قرأت هذه الآيات لم تعجل في قراءتها؛ لأنها مبسوطة قد اطمأنت وتتابعت في رفق وفي مهل أيضا، فأنت تقرؤها مفكرا فيها معتبرا في أحداثها لا يعجلك عن ذلك شيء، وأنت معجب بانبساط الحديث ومضي القصة في أناة تؤدي المعاني مستوية، ويأتي الإيجاز حين يجب أن يأتي، فلا يضيع عليك شيئا من تمهلك ولا يعجلك عن التأمل والتدبر.
ولكن لنقرأ معا هذه القصة نفسها في سورة أخرى هي سورة الشعراء، ولنوازن بين الأناة هنا والسرع هناك، وسنرى أن من العسير أن نقف عند كل آية من آيات القصة في سورة الشعراء كما وقفنا بإزاء الآية والآيات في القصة نفسها من سورة هود، وسترى سبب ما يكون بين القصتين من فرق في السورتين.
وسورة الشعراء كلها تروع وتبهر بقصر آياتها وانسجامها في هذا القصر وفي اتساق الفواصل في الآيات كلها حتى الآيات الأخيرة التي يقال إنها أنزلت في المدينة. وإن كانت الآية الأخيرة من السورة أطول شيئا من سائر الآيات، وهي منسجمة كذلك بآيتين تأتيان بنصهما في آخر كل قصة، بل في آخر كل حديث ما عدا آخر السورة وهما قول الله عز وجل:
إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين * وإن ربك لهو العزيز الرحيم .
فهما تأتيان ختاما لكل حديث، وتوطئة للانتقال إلى حديث آخر أو قصة أخرى، وقد فصلت آيات السورة على قدر واحد حتى كأن إحداهما لا تزيد على الأخرى أو تنقص عنها.
وهذا الأسلوب مألوف في القرآن تراه في سورة الصافات مثلا، وترى شيئا منه في قصار السور التي أنزلت بمكة والتي تقرؤها في آخر المصحف.
وفي سورة الشعراء هذه يتجه الحديث أولا إلى المشركين من العرب وإلى قريش منها خاصة، فيذكرون بآيات الله ويعاب جحودهم وإصرارهم على العناد والكفر، ويختم هذا القسم من الحديث بالآيتين اللتين تلوناهما آنفا. ثم تأتي قصة موسى وإرساله إلى فرعون وما كان من حديث موسى مع السحرة وما كان من إخراج موسى لبني إسرائيل من مصر عن أمر الله، واتباع فرعون لهم وإنجاء الله لموسى وقومه، وإغراقه فرعون ومن معه، وتختم القصة بالآيتين نفسهما، ثم تأتي قصة إبراهيم ومن بعدها قصة نوح ثم قصة ثمود فقصة قوم لوط فقصة شعيب وقومه. ثم يعود الحديث فيتجه إلى قريش، حتى توشك السورة أن تنتهي فتختم بالآيات المدنية التي يذكر فيها الشعراء.
وقصة نوح هنا موجزة أشد الإيجاز، لا يذكر فيها تفصيل العذاب الذي أخذ الله به الظالمين من قوم نوح، وإنما يكتفي بذكر إغراق الله لهم، ولا يذكر فيها صنع الفلك وحمل من حمل نوح فيه، ولا وصف الموج الذي جرت فيه السفينة ولا قصة ما أصاب ابن نوح من العذاب ولا الحديث بين نوح وبين ربه؛ لا يذكر من هذا كله شيء وإنما يقص الحوار بين نوح وقومه وإعراض قومه عن دعوته وإنذارهم نوحا بالرجم إن لن ينته عن دعوته، ودعاء الله نوحا أن ينجيه، وما كان من نجاته في الفلك المشحون ونجاة من آمن معه وإغراق الظالمين. فقد اختصرت القصة هنا؛ لأن ما قصد إليه من القصص كلها في هذه السورة إنما أريد به إلى تذكير المشركين بآيات الله فيمن سبقهم من الأمم وتخويفهم أن يصيبهم مثل ما أصاب تلك الأمم وإظهارهم على بطش الله بالظالمين، وعلى الآيات الكبرى التي آتاها الأنبياء قبل محمد
صلى الله عليه وسلم .
ومن أجل هذا اكتفى بما يؤدي هذه الأغراض في قوة وعنف يملكان على السامعين والقارئين أمرهم كله، ومن أجل هذا أيضا أديت هذه الأغراض في هذه الآيات القصار المتتابعة في نسق واحد كأنها السيل المندفع الذي يغمر كل ما يلقاه أو كأنها الريح العاصفة التي لا تدع شيئا تأتي عليه إلا دمرته تدميرا.
Halaman tidak diketahui