من شعر لبيد فيما روى الشيخان:
ألا كل شيء ما خلا الله باطل
وكل نعيم لا محالة زائل
ولكن علمهم بوجود الله كان ساذجا لم يبلغ أعماق قلوبهم ولم يصل إلى دخائل ضمائرهم ولم يمتزج بنفوسهم، فاتخذوا من دون الله آلهة قريبة منهم يرونها بأبصارهم ويلمسونها بأيديهم، بل قد يصنعون كثيرا منها بأيديهم كهذه الأصنام التي كانوا يتخذونها من الحجارة أو من الخشب، وكهذه الأشجار التي كانوا يعظمونها ويطيفون بها. ثم لم يكتفوا بذلك بل اعتقدوا أن الأرض التي يعيشون عليها ليست خالصة لهم، وإنما يعيش عليها معهم كائنات أخرى حية هي أقوى منهم قوة وأشد منهم بأسا، كائنات لا يرونها ولكنهم قد يسمعونها، وقد يخيل إليهم أنهم يرون آثارها، وهي كانت - فيما زعموا - تخالط آلهتهم وتجري على أيديها بعض الأحداث، وربما خالطت أفرادا منها فأنطقتهم بأشياء فيها إنباء بما كان وإنباء بما سيكون، وهذه الكائنات هي الجن؛ أي الكائنات المستخفية المستورة التي لا يراها الناس ولكنهم يرون - فيما زعموا - بعض ما تفعل ويتلقون منها - فيما زعموا أيضا - بعض ما تقول.
ربما اعتقدوا أن الآلهة التي كانوا يتخذونها ليست في أنفسها خالقة لشيء ولا مدبرة لشيء، ولكنها واسطة بينهم وبين الإله الأعظم الذي خلق السموات والأرض والذي يدبر الأمر كله؛ فهم لا يعبدون هذه الآلهة لأنها تستطيع وحدها أن تنفعهم أو تضرهم، وإنما يعبدونها لتشفع لهم عند الله ولتقربهم إلى الله زلفى كما نقرأ في القرآن الكريم.
فهم مشركون لا يجحدون الله ولا يعبدونه وحده، وإنما يعبدون معه آلهة أخرى يتخذونها واسطة بينهم وبينه.
وتمضي القرون على هذا النحو من الوثنية فتضاف إليه على مر الزمان الخرافات والسخافات، وإذا هم يقربون إلى آلهتهم كأنهم يرشونها لتشفع لهم عند الله، وهم يستشيرونها في أكثر أمرهم ويستقسمون عندها بالأزلام، وهم يرضون عنها حين ترضيهم ويسخطون عليها حين تسخطهم لا يخطر لهم أنها أعجز من أن ترضى أو تسخط، وإنما يحاولون الأمر ويستعينون بآلهتهم، فإن تم لهم ما حاولوا من الأمر رضوا وزعموا أن الآلهة قد سمعت لهم وأجابتهم إلى ما طلبوا، وإن لم يتم ما حاولوا سخطوا وزعموا أن آلهتهم لم تستجب لهم ولم تعنهم.
كذلك كانت هذه الوثنية ساذجة إلى أقصى حدود السذاجة، سخيفة إلى أبعد غايات السخف. ولم يفكر هؤلاء العرب الوثنيون فيما يمكن أن يكون بعد الموت، بل قدروا أن لهم حياتهم هذه التي يحيونها على الأرض، وأن آلهتهم وسطاء بينهم وبين الله على أن يقضوا آرابهم وينفقوا حياتهم هذه كأحسن ما يحبون، فإذا أدرك الموت جيلا منهم مضى لسبيله وجاء جيل بعده وقد ورث عنه دينه وآراءه في الله الذي خلق السموات والأرض، وفي هذه الآلهة التي تسعى لهم عند الله فيما يريدون من الخير، وفي رد ما يخافون من الشر والمكروه.
وكثير من هؤلاء العرب الوثنيين كانوا يتصلون بالمسيحيين واليهود يسمعون منهم ويقولون لهم ويعاملونهم في شئون الحياة على اختلافها، ولكنهم على ذلك لا يتأثرون بما يرون من دينهم ومن مذاهبهم في الحياة.
4
Halaman tidak diketahui