في أواسط القرن السادس للمسيح كانت الأمة العربية متخلفة أشد التخلف بالقياس إلى الأمم التي كانت تجاورها، لها في الجنوب بقايا حضارة كانت قد درست، ولم يكن أهل الجنوب أنفسهم يعلمون من أمرها إلا أخلاطا هي إلى الأساطير أقرب منها إلى الحق.
كانوا يذكرون حمير وملوكها من التبابعة، وكانوا يذكرون سبأ، وكانوا يذكرون الأذواء، بل كان الأذواء ما يزالون يحتفظون بشيء من سلطانهم، يعيشون في حصونهم ويتسلطون على أهلها وعلى من حولها في حواضر الجنوب وبواديه.
وكانت هناك مع ذلك قبائل متبدية لا تخضع لأحد منهم، وإنما تعيش عيشة الأعراب في بواديهم. وكانت في الجنوب مدن كبار أو صغار فيها بقية من حضارة، ولكنها لا تغني عن أصحابها شيئا. ولم يكن الجنوب العربي خالصا للعرب، وإنما كان الحبشة يتسلطون على جزء عظيم منه، وعجز العرب عن إجلاء هؤلاء المحتلين فاستعانوا بالفرس على ذلك وأعانهم الفرس، ولكن لا ليردوا عليهم سلطانهم ولا ليخلصوا لهم وطنهم، بل ليقوموا مقام الحبشة الذين أجلوهم.
وكان أهل الجنوب مع ذلك قد وصلت إليهم دعوة الدينين: اليهودي والمسيحي. وأكبر الظن أن يهوديتهم ومسيحيتهم كانتا تتأثران بجهلهم وغلبة البداوة عليهم. كالذي سنراه حين نتحدث عن شمال الجزيرة.
ومهما يكن من شيء فمن الإسراف في الخطأ أن نظن أن أهل جنوب الجزيرة العربية في ذلك الوقت قد كانوا على شيء ذي خطر من الحضارة بمعناها الصحيح. ولكنهم على كل حال كانوا يحيون حياة خيرا من الحياة التي كان يحياها سائر الأمة العربية في قلب الجزيرة وشمالها.
كانت لهم بقية من زراعة وكانت تصل إليهم تجارة الهند وأشياء من تجارة الحبشة والفرس، وكان أهل الشمال كما سنرى يلمون بهم كل عام فينقلون ما عندهم من التجارة لينشروها في العالم المتحضر. وكان هذا كله يتيح لهم شيئا من ثراء، فلم يكن عيشهم قاسيا ولا غليظا كعيش غيرهم من العرب.
وكان ما ورثوا من بقايا حضارتهم الدارسة وما وصل إليهم من الديانتين السماويتين وما أتيح لهم من هذا الثراء المتواضع؛ كان كل ذلك قد جعلهم أرق قلوبا وأصفى طباعا من أهل الشمال. ولكنهم على هذا كله كانوا متخلفين بالقياس إلى الأمم المتحضرة، فكانت كثرتهم الكثيرة أمية وكان أقلهم يكتبون ويقرءون.
فإذا تركنا الجنوب إلى قلب الجزيرة العربية - أي إلى نجد - فالحياة القاسية والعيش الغليظ والجهالة المطبقة، ونظام القبائل الذي يقوم على العصبية أكثر مما يقوم على أي شيء آخر.
ولم يكن حال الشمال من تهامة والحجاز خيرا من حال نجد، وإن وجدت في الحجاز مدن أو قرى، كما كان يقال في تلك الأيام، وإن عاش أهل هذه المدن أو القرى عيشة الاستقرار والدعة لا يرحلون عن مدنهم أو قراهم تتبعا للغيث والتماسا للكلأ، وإنما يرحلون تجارا إلى الجنوب في الشتاء وإلى الشمال في الصيف، كما يحدثنا بذلك القرآن الكريم عن قريش.
كان لأهل الطائف وأهل يثرب شيء من زراعة، ولكن حياتهم كانت تقوم على زراعتهم هذه اليسيرة وعلى تجارتهم أيضا، وكانت حياة مكة تقوم على التجارة من جهة وعلى الحج من جهة أخرى، يفد إليها العرب من أقطار الجزيرة في موسم الحج فيقضون نسكهم ويتجرون أيضا وتنتفع مكة بما يحملون من ألوان التجارة.
Halaman tidak diketahui