وكذلك كثر المغامرون أولا، وكثر معهم الاضطراب والفساد، ثم جاء المستعمرون فوجدوا كل شيء قد مهد للاستعمار، ففتحوا واستعمروا وفتحوا أبوابا من الآمال الكاذبة أمام هذه الشعوب اليائسة، حتى إذا استقرت لهم الأمور تبين اليائسون البائسون أنهم لم يخرجوا من بؤسهم ذاك إلا ليفرض عليهم بؤس أشد منه. وأي بؤس أشد نكرا من أن يتحكم الأجنبي في حياة الناس وأرزاقهم ومصالحهم، وفي آمالهم ومستقبلهم.
كانوا عبيدا أو كالعبيد لقوم يمتون لهم ببعض الأسباب، فأصبحوا عبيدا أو كالعبيد لقوم ليسوا منهم في قليل ولا كثير، يختلفون عنهم في كل شيء ولا يقاربونهم في شيء.
وإذا هم يعودون إلى شر مما كانوا فيه من البؤس والقنوط.
ولم يصر شأن علوم اللغة العربية والعلوم العقلية إلى خير مما صارت إليه أمور الفقه والكلام، تقليد في هذه كالتقليد في تلك، وجمود مطبق في هذه كالجمود المطبق في تلك. شمل القصور ملكات العقول كلها، فلم تبتكر شيئا ولم تحسن التفكير في شيء، بل لم تحتفظ بقديمها نفسه، وإنما خلت بينه وبين الجهل يلقى من دونه حجبا كثافا وأستارا صفاقا.
ولو أن هذا الجهل المطبق رد عقول الناس إلى فطرتها الأولى، وجعلها متهيئة لتلقي ما يمكن أن ينقل إليها من علم جديد، لكان قليل هذا العلم الجديد جديرا أن يذكرها بكثير علمها القديم. ولكن الناس أحبوا الجمود واطمأنوا إليه، وحرصوا على الاستمساك به، ورأوا كل جديد بدعة أي بدعة وإثما أي إثم، بل رأوا إحياء التراث القديم نفسه شرا يجب اجتنابه وينبغي للرجل الكريم أن يتقي شره، ووصفوا إحياء القديم العربي في الأدب واللغة والفلسفة بأنه عناية بالقشور وإهمال اللباب، واللباب بالطبع هو ما يبدئون وما يعيدون فيه من الكلام المعقد الذي لا يغني عنهم ولا عن غيرهم شيئا. ولم يقصر هذا الجمود على وطن بعينه من الأقطار العربية والإسلامية، ولكنه جثم على العالم الإسلامي كله كما تجثم ظلمة الليل على الأرض، وأبطأ إسفار الشمس التي تذود هذه الظلمة عن القلوب والعقول جميعا، حتى أصبح العالم الإسلامي نهبا للطامعين فيه والمعتدين عليه من المستعمرين الغربيين.
ثم كان الاتصال بهؤلاء الغربيين حين أقبلوا عليهم مستعمرين لهم، فنبههم أو نبه أقلهم من هذا النوم العميق، وإذا هم يشعرون على مر الزمن بما تتابع عليهم من الكوارث وما أطبق عليهم من الجهل، حتى ناموا واستيقظ الناس، وسكنوا وتحرك الناس. وإذا هؤلاء الأقلون يحاولون إيقاظ الكثرة النائمة، ويبلون في ذلك أحسن البلاء، ويحتملون في سبيله فنونا من النكير والتشهير والأذى.
وما أظن المصريين نسوا جهاد جمال الدين الأفغاني والشيخ محمد عبده - رحمهما الله - في هذه السبيل، وما لقيا من السخط عليهما والمكر بهما، والتنكر لمن ذهب مذهبهما أو اختلف إلى دروسهما. وليس لهذا مصدر إلا أن النائمين يكرهون اليقظة، ويكرهون بالطبع من يدعوهم إليها، كما أن الذين استراحوا إلى الجمود لا يبغضون شيئا كما يبغضون الحركة والداعين إليها.
ومع ذلك فقد نامت الأمة الإسلامية قرونا طوالا، ولكنها حين استيقظ بعض الممتازين منها ودعوها إلى اليقظة في إلحاح، أتيح لها في الوقت القصير شيء لا بأس به من التنبه، بل شيء لا بأس به من التقدم وإن لم تزل بعيدة أشد البعد عن أن تكون جديرة بتاريخها الإسلامي البعيد.
وما أحب أن أثبط الهمم، ولا أن أفل العزائم، ولا أن أشيع اليأس، ولكني أقول تقوية للأمل وتمضية للعزم وإلحاحا مع الملحين في أن يثوب الناس إلى أنفسهم، ويتمثلوا هذه الآماد البعيدة أشد البعد بينهم وبين قدمائهم من جهة، وبينهم وبين الأمم الحديثة المتحضرة المسيطرة على العالم الحديث من جهة أخرى. ليعلموا أن الطريق بينهم وبين الرقي الصحيح طويلة شديدة الطول، شاقة عظيمة المشقة، وأنهم قد أتيح لهم الآن شيء من يقظة تمكنهم من أن يختاروا بين اثنتين: إحداهما أن يظلوا كما هم الآن أيقاظا كالنيام، ونياما كالأيقاظ؛ فيتعرضوا لخطوب أشد هولا وأعظم أثرا من الخطوب التي تتابعت عليهم. والثانية أن يستيقظوا حقا ويستدركوا ما فاتهم حين وقفوا ومشى الناس، ليصبحوا أكفاء لقدمائهم من جهة، وأندادا للذين يحاولون أن يستذلوهم من جهة أخرى. ويجب عليهم أن يذكروا أن حكامهم من الأجانب في العصور الماضية كانوا جهالا ففرضوا عليهم الجهل، وأن الطامعين فيهم الآن بعيدون كل البعد عن الجهل، فسيكون ظلمهم لهم أقوى وأعنف من ظلم حكامهم الأجانب فيما مضى.
والمستعمرون في هذا العصر الحديث يوشكون أن يفرضوا عليهم ضروبا من العلم قد تخرجهم من الجهل، ولكنها ستقطع الأسباب حتما بينهم وبين تاريخهم وتفنيهم في الأمم المستعمرة إفناء.
Halaman tidak diketahui