وقفت له حتى أتى فرمانيا
رماني ثلاثا ثم إني طعنته
فرويت منه صعدتي وسنانيا
وقد علم الوليد بعد هذه المخاتلات المتكررة أن حياته أصبحت في خطر داهم، وأنه إذا نجا مرة وأخرى فلن ينجو في كل مرة، وتحدث مع أمه وندمائه في الأمر، فعقدوا العزم على أن يفر بنفسه في البوادي، وأن يتنقل بين المنازل والمناهل فلا يعلم مستقره إلا أخلص خلصائه، فهجر دمشق مع بعض جواريه وأصحابه، وخلف كاتبه عياض بن مسلم بالرصافة ليكون له جاسوسا على هشام، ولينبئه بأخباره.
ونزل على ماء يسمى «الأغدف» بعمان بين أرض بلقين وفزارة، ونسي الناس بدمشق الوليد، وأطرقت أفاعي أعدائه إلى حين.
ومرت أيام وشهور على الوليد وهو يعاني الهم والضيق، وينتقل بين أحياء العرب كالطريد المنبوذ في خشونة لم يتعودها، وجفوة ليس له بها عهد.
وفي ليلة الأربعاء لست خلون من شهر ربيع الآخر سنة خمس وعشرين ومائة، أحس هشام ضيقا في صدره واختناقا، فأخذ يئن أنينا، ويدلي رأسه من النوافذ ليلتقط بعض النسيم، ويهمس في ضعف ويأس: هذه الذبحة! هذه الذبحة! لقد عاودتني، ليس لي منها نجاة هذه المرة، مروا فيروز يحضر دواء الذبحة فإني ما أراني إلا مائتا.
وأسرع فيروز فأحضر الزجاجة، ولم يكن بها إلا ماء ملون، فجرع هشام منها مرات فلم تفده شيئا، واشتد به الداء فألقى رأسه على الوسادة، وأخذ يردد أنفاسا قصارا.
وعلم عياض بن مسلم بمرضه وإشرافه على الموت، فأسرع وختم على خزائن الأموال، وأمر خزانها أن يحتفظوا بما في أيديهم، وألا يخرجوا من خزائنهم شيئا، وإلا كان جزاؤهم الموت.
وأفاق هشام من غشيته فطلب مروحة من بيت المال يجتذب بها بعض الهواء إلى صدره، فقيل له: إن الخزائن مقفلة موصدة، فزفر زفرة قصيرة، ثم قال بصوت يزاحمه الموت: «أرانا كنا خزانا للوليد»، ثم مات، وحينما هم أهله بغسله طلبوا قميقما ليسخن فيه ماء الغسل، فقيل لهم: إن الخزائن مقفلة موصدة، فاستعاروا قمقما من الجيران، ثم طلبوا له كفنا، فقيل لهم: إن الخزائن مقفلة موصدة، فكفنه أحد عبيده من حر ماله.
Halaman tidak diketahui