فليس لعين لم يفض ماؤها عذر وسب أحد الأمراء ، المعري أبا العلاء ، وهجاه أشد هجاء ، وسب أستاذه سيد الشعراء ، فقال أبو العلاء : لا تسبه أيها الأمير ، فإنه شاعر قدير ، ولم يكن له إلا قصيدة،
لك يا منازل في القلوب منازل
أقفرت أنت وهن منك أواهل
ففهم الأمير ماذا يريد ، لأنه قصد آخر القصيد ، وهي قوله :
وإذا أتتك مذمتي من ناقص
فهي الشهادة لي بأني كامل
ولما زار أبو جعفر المنصور المدينة طلب شيخا كبيرا ، وجعله عنده أجيرا ، يخبره ببيوت المهاجرين والأنصار ، فدار به إلى آخر النهار ، ولم يعطه مالا ، ونسيه إهمالا ، فقال الشيخ يا أمير المؤمنين : هذا بيت الأحوص الشاعر المبين القائل :
يا بيت عاتكة الذي اتعزل
حذر العدا وبك الفؤاد موكل
فتذكر أبو جعفر القصيدة ، وهي فريدة مجيدة ، يقول في آخرها :
وأراك تفعل ما تقول وبعضهم
مذق الكلام يقول ما لا يفعل
ففهم المراد ، وأعطى الشيخ الزاد .
أقبل عالم كبير القدر ، ظاهر الأمر ، على شاعر قاعد ، فقام لهذا العالم الوافد ، وكان العالم يرى أن القيام للقادم باطل ، ولو أن القادم رجل كامل ، فقال للشاعر دع القيام ، فأنت لا تلام ، فقال الشاعر :
قيامي والإله إليك حق
وهل رجل له لب وعقل
وترك الحق ما لا يستقيم
يراك تسير إليه ولا يقوم
وفد شاعر على وزير خطير ، بالمكرمات شهير ، فلما أبصر جلبابه ، وشاهد حجابه ورأى أصحابه هابه ، فأراد أن يقول مساك الله بالخير ، قال من شدة الخجل ، ومن دهشة الوجل : صبحك الله بالخير ، فقال الأمير : أصباح هذا أم مساء ، أم تريد الاستهزاء ، فقال الشاعر بلا إبطاء :
صبحته عند المساء فقال لي
ماذا الصباح وظن ذاك مزاحا
فأجبته إشراق وجهك غرني
Halaman 3