وإذا قدر لمدن أوروبا أن تفنى بالقنبلة الذرية وبقيت السوربون سليمة فإن حضارة أوروبا يمكن أن تحيا بعد الموت وأن تنمو وتسبق.
عندما أقارن بين 1912 و1952 أجد كثيرا من التغيرات الظاهرية التي تدل على سيادة الروح العصري، فإني قبل أربعين سنة، لا أذكر أني رأيت امرأة تتخذ البنطلون وتسير به في مشية مألوفة كما تفعل الحسناء والشمطاء في باريس هذه الأيام، كذلك كنت في 1912 أركب عربة الأمنبوس التي كانت لا تزال تجرها الخيول، وقد انقرضت هذه انقراضا تاما، وكذلك انقرض الحنطور، والنقل كله يجري بالوسائل الموتورية، أجل لقد داس الأتومبيل الحصان في باريس وقتله.
وقبل أن أصل إلى باريس كنت أتوقع أن أجد اختلافات كثيرة بين المباني في 1912 وبين المباني الحاضرة، ولكني لم أجد هذا، فإن الروح الأميركي في بناء الشواهق التي تنطح السحاب لم يدخل باريس، ولست تجد مبنى يزيد على ست طبقات، والكثيرة الغالبة خمس طبقات.
ولكل شارع طرازه، تسير فيه العين فلا تجد مبنى يختلف عن آخر، كلها سكة واحدة، وهذا ما يكسب الشارع شخصية.
ولقد قلت: إن البنطلون قد فشا بين الفتيات والسيدات، ولكني أرجو ألا يظن أحد من ذلك أن الفرنسيات يستهترن في اتخاذ البنطلون، فإن كل ما فهمته من تفشي هذا الزي أنه يعين المرأة على العمل والحركة أكثر مما يعينها الفستان. •••
وفي باريس ثلاثة أشياء عرفتها في 1912 وما زلت أجدها فيها إلى الآن: الرشاقة والأنسة والفن.
فالرشاقة سمة فرنسية، ومن ليس رشيقا في الزي أو اللهجة أو الإيماءة فليس فرنسيا، ولقد رأيت سيدات وفتيات يسرن تحت وابل المطر وعلى رأس كل منهن طرطور، وعلى جسمها معطف يتسع لاثنين من حجمها، ومع ذلك كنت أتعجب من جمال الطرطور والمعطف، رشاقة في التفصيل، واختيار في الألوان، ورشاقة في المشية والنظرة والقوام.
وإني لأذكر هنا سيدة يونانية كنت أتحدث إليها، وكانت قدمت باريس للتنزه والاستجمام، فكان مما قالته: إن الباريسية ليست جميلة ولكنها تتجمل، فتعنى بهندامها وتنسيق شعرها، وتشتري المساحيق الغالية كي تكسب وجهها بهاء ونضرة، فقلت لها: إن هذا كله يدل على أن نفسها جميلة؛ إذ هي تنشد الجمال حين تفقده، وهي تتأنق؛ لأن نفسها أنيقة، وكل هذا يرفع منها ولا يخفض، وإنما نحن نستنكر الجمال أو التأنق حين نجدهما باهظين مسرفين قد زادا على الحد، وهذا ما لا تقع فيه الباريسية، أو حين نجدهما في غير مكانهما، وهذا ما لم أره في باريس.
أما الأنسة فهي ملكة فرنسية يتعلموها جميعا منذ الطفولة، فليس هناك ذلك الحياء المتردد الذي يشبه الجبن والخوف، فهم يجابهونك بلغة صريحة وابتسامة عريضة تسقطان جميع الحواجز وتحفزك على الحديث، بل أيضا على المصارحة.
وأخيرا هناك هذا الفن الذي لا يخلو منه البيت أو الشارع أو المتجر، وكثيرا ما وجدت تماثيل من المرمر أو الحجر كاسية بالذهب، أي: مطلية به في ميادين الشوارع، والتماثيل خاصة من خواص باريس، وظني أن بها ما لا يقل عن ألف تمثال في الكنائس والميادين.
Halaman tidak diketahui