ويمكن إيجاد وسيلة للاحتفاظ بقوة بحرية في أوقات السلم، في حال رأينا أن الاحتفاظ بقوة بحرية دائمة ليس ضروريا. فإذا قدمنا منحا للتجار كي يبنوا ويستخدموا سفنا مزودة بعشرين أو ثلاثين أو أربعين أو خمسين مدفعا (على أن تكون تلك الأموال متناسبة مع قدر الخسارة التي سيتحملها التجار في حجم تجارتهم)، فإن خمسين أو ستين من تلك السفن، مع بعض سفن الحراسة المعينة بصفة دائمة، سوف تشكل أسطولا كافيا، وهذا دون أن نحمل أنفسنا ذلك العب الثقيل الذي تحمله إنجلترا التي تجأر فيها الأصوات بالشكوى من المعاناة مع أسطولها البحري، الذي يظل في زمن السلم قابعا بلا عمل على أرصفة المرافئ. إن الجمع بين مناقب التجارة والشئون الدفاعية معا لهو سياسة حصيفة؛ لأنه عندما تتحد قوتنا مع ثروتنا وتتعاونان معا، فلن نخشى أي عدو خارجي.
إن أرضنا زاخرة بأغلب المواد التي نحتاجها لأمور الدفاع. فمحصول القنب الذي تصنع منه الحبال ينمو بوفرة، بحيث لن نحتاج لاستيراد الحبال؛ وحديدنا متفوق على حديد سائر البلدان الأخرى؛ وأسلحتنا الصغيرة تعادل مثيلتها في أي مكان في العالم؛ ويمكننا بكل يسر صب مواسير المدافع؛ كما أننا ننتج كل يوم ملحا صخريا وبارود المدافع؛ ومعرفتنا تتعاظم كل ساعة؛ والعزيمة صفة موروثة فينا، والشجاعة لم تفارقنا قط. فما الذي نريده أكثر من هذا؟ لماذا نتردد؟ إننا لا يمكن أن ننتظر شيئا من بريطانيا سوى الخراب والدمار. فلو سمحنا لها بحكم أمريكا مرة أخرى، فسوف تستحيل هذه القارة أرضا غير جديرة بالعيش فيها. سوف تزداد مشاعر الغيرة باستمرار؛ وستظل ثورات العصيان المسلح تندلع؛ ومن الذي سيتقدم لقمعها؟ من الذي سيغامر بحياته ويضحي برجال بلاده من أجل إخضاع تمرد أجنبي؟ إن الخلاف بين بنسلفانيا وكونيكتيكت، على بعض الأراضي، يبين مدى ضآلة الحكومة البريطانية، ويثبت بالدليل القاطع أنه لا يمكن سوى لسلطة قارية أن تنظم شئونا قارية.
وهناك سبب آخر وراء كون الوقت الراهن أفضل من غيره، ألا وهو أنه كلما كان عددنا أقل كانت مساحة الأرض غير المأهولة بالسكان أكبر، التي بدلا من تركها فريسة للملك ليمنح منها ويهب لحاشيته التافهة ما يشاء، يمكن فيما بعد استغلالها ليس فحسب لسداد الدين الحالي، وإنما كدعم دائم للحكومة، ولا توجد أمة على وجه الأرض تملك ميزة كهذه.
إن طور الطفولة الذي تعيشه المستعمرات الآن - كما يسمونه - هو حجة لصالح الاستقلال وأبعد ما تكون عن أن تناهضه. فنحن نتمتع بعدد كبير كاف، ولو كنا أكثر من هذا، فلربما أصبحنا أقل اتحادا. وهناك أمر جدير بالملاحظة، وهو أنه كلما زاد تعداد سكان بلد ما، قل عدد جيشه. ففيما يتعلق بأعداد الجيوش العسكرية تفوق القدماء على المحدثين: والسبب واضح؛ فالتجارة تأتي نتيجة لتزايد أعداد السكان، والرجال يصيرون أكثر انشغالا بها حتى إنهم لا يلتفتون إلى أي شأن آخر. فالتجارة تضعف الروح، سواء أكانت روح الوطنية أم روح الدفاع العسكري. والتاريخ يخبرنا بأن أشجع الإنجازات كانت دوما تقع في طور طفولة الأمم. فإنجلترا فقدت روحها مع تزايد اتجاهها نحو التجارة، ومدينة لندن، مع ما تكتظ به من أعداد البشر، تبتلع الإهانات المتواصلة بصبر الجبناء. وكلما زاد ما يملكه الناس ويخشون خسارته، قل استعدادهم للمخاطرة. فالأثرياء عموما عبيد لمخاوفهم، وهم يذعنون لسلطة البلاط الملكي في مهانة كلب ذليل مداهن .
سن الشباب هو التوقيت الأنسب لغرس العادات الطيبة، وينطبق هذا على الأمم كما ينطبق على الأفراد. وقد يكون من العسير - إن لم يكن من المستحيل - جمع القارة في حكومة واحدة بعد نصف قرن من الآن. فالتنوع الواسع للمصالح، الذي يتسبب فيه ازدياد حجم التجارة وتعداد السكان، من شأنه أن يصنع ارتباكا. سوف تعادي المستعمرات بعضها بعضا، فمع قوة كل واحدة منها يمكن أن تزدري معاونة الأخرى: وبينما يتفاخر المتباهون والحمقى بمستعمراتهم الصغيرة المنفصلة، سوف ينتحب الحكماء وينوحون لأن الاتحاد لم يتشكل من قبل. لذا فإن «الوقت الحاضر» هو «الوقت المناسب» للاتحاد. فالحميمية التي ترعرعت في الطفولة البريئة، والصداقة التي صهرت في بوتقة المحن، هما الأكثر دواما وثباتا بين جميع المقومات الأخرى. إن اتحادنا الحالي يتميز بهاتين الصفتين: إننا شباب وقد ابتلينا بمحنة؛ لكن تآلفنا تغلب على محنتنا، وصنع مساحة بارزة جديرة بأن تذكرها الأجيال القادمة بكبرياء واعتزاز.
الوقت الراهن كذلك وقت مميز لا يمر بأي أمة على الإطلاق سوى مرة واحدة في عمرها، لأنه الوقت الذي تتجمع فيه الأمة لتشكل حكومتها. ومعظم الأمم تركت تلك الفرصة تنساب من بين يديها، وبهذا أرغمت على الخضوع لقوانين فرضها عليها غزاتها، بدلا من أن تضع هي قوانينها بنفسها. ففي البداية يكون لهم ملك، ثم يشكلون حكومة؛ بينما يجب أن تتشكل مواد ومواثيق الحكومة أولا، ثم ينتخب رجال يعهد إليهم بتنفيذها بعد ذلك، ولكن دعونا نتعلم الحكمة من أخطاء الأمم الأخرى، ونتشبث بالفرصة السانحة لنا الآن؛ «أن نبدأ تشكيل الحكومة من النقطة الصحيحة.»
عندما أخضع ويليام الفاتح إنجلترا لسلطانه، منحها القانون فوق سنان سيفه؛ وما لم نتفق جميعا على أن مقعد الحكومة في أمريكا يجب أن يشغل على أساس شرعي وبتفويض من الشعب، فسنظل عرضة لخطر أن يشغل هذا المقعد بربري متوحش يمتلك ثروة، ويعاملنا بنفس أسلوب ويليام الفاتح، ومن ثم، أين ستذهب حريتنا؟ وأين ستذهب ممتلكاتنا؟ وفيما يتعلق بالدين، فإني أعتبر أن الواجب الحتمي للحكومة أن تحمي سائر المؤمنين أصحاب الضمير، ولا أعرف شيئا آخر يتعين على الحكومة أن تنشغل به غير ذلك، أن تجعل الإنسان يتخلى عن ظلام روحه، وأنانية مبادئه، التي يتمسك بها البخلاء من جميع المذاهب بلا أدنى استعداد للتخلي عنها، وبذلك سوف يتحرر من مخاوفه. إن الشك هو رفيق النفوس الوضيعة، وآفة جميع المجتمعات الصالحة. أما عن نفسي فإنني أؤمن مخلصا وبصدق أن إرادة الله عز وجل شاءت أن يكون هناك تنوع في الآراء الدينية السائدة بيننا: فهذا يتيح ميدانا أعظم لطيبتنا بوصفنا مسيحيين. ولو كنا جميعا نتبع أسلوبا واحدا في التفكير، لصارت توجهاتنا الدينية بحاجة للاختبار؛ وبناء على هذا المبدأ التحرري، أعتبر الطوائف الدينية المختلفة الموجودة بيننا بمنزلة أطفال في أسرة واحدة، لا يختلفون إلا في الأسماء.
بعد صفحات قليلة، أطرح بضع أفكار حول ما أسميه «الميثاق القاري» (وأفترض هنا أنني أقدم تلميحات فقط، وليس خططا تفصيلية)، وهنا، أمنح نفسي حرية إعادة ذكر الموضوع، بملاحظة أنه يجب علينا فهم الميثاق باعتباره رابطا من الالتزام المقدس، على الجميع أن يرتبطوا به من أجل مؤازرة حق كل طرف مستقل سواء أكان هذا الحق حرية دينية أم حرية شخصية أم ملكية. إن صفقة قائمة على أساس وطيد وحسابات صحيحة تبني علاقة صداقة قوية ومستمرة.
في صفحة سابقة ذكرت كذلك ضرورة وجود تمثيل كبير ومتساو لأفراد الشعب؛ ولا يوجد شأن سياسي جدير باهتمامنا أكثر من هذا الشأن. قلة عدد الناخبين أو قلة عدد النواب كلاهما أمر على نفس الدرجة من الخطورة. ولكن إذا كان عدد النواب ليس قليلا فحسب وإنما لا يتسم بالمساواة أيضا، يصبح الخطر أعظم. وكمثال على ذلك أذكر ما يلي: عندما طرح التماس «مؤسسي الاتحاد» على مجلس نواب بنسلفانيا؛ لم يكن حاضرا سوى ثمانية وعشرين عضوا فقط، وصوت جميع الأعضاء الممثلين لمقاطعة باكس - وعددهم ثمانية - ضده، ولو فعل مثلهم سبعة من أعضاء مقاطعة تشيستر، لصار المتحكم في سائر الإقليم مقاطعتين فحسب، والإقليم عرضة دوما لهذا الخطر. وبالمثل ينبغي أن يكون هذا الضغط غير المبرر، الذي مارسه هذا المجلس خلال آخر جلساته من أجل كسب سيطرة غير مستحقة على ممثلي هذا الإقليم، بمنزلة تحذير لكافة أفراد الشعب من أن السلطة تتسرب من بين أيديهم. لقد وضعت مجموعة من التعليمات للممثلين، تعد من منطلق المنطق والأعمال عارا حتى على صبية المدارس، وبعد أن أقرها «قليلون»، استطاعت «قلة قليلة» دخول المجلس، وهناك صوتوا على القرارات «نيابة عن المستعمرة بأكملها»؛ في حين لو علمت المستعمرة بأكملها بالنية السيئة التي استخدم بها أعضاء المجلس بعض الإجراءات العامة الضرورية، لما ترددوا لحظة في اعتبارهم غير أهل لتلك الثقة.
إن الضرورة المباشرة تجعل كثيرا من الأمور ملائمة، لكنها لو ظلت تمارس فسوف تتحول إلى إجراءات ظالمة جائرة. كما أن النفعية والحق أمران مختلفان. فعندما استدعت المصائب التي حلت بأمريكا التشاور، لم تكن هناك وسيلة جاهزة - أو بالأحرى وسيلة مناسبة في ذلك الوقت - إلا تعيين أشخاص ينتمون إلى مجالس نيابية متعددة لهذا الغرض؛ وحافظت الحكمة التي تحلى بها هؤلاء على هذه القارة من الخراب. ولكن لما صار من غير المناسب الآن أن نظل دون «مجلس نواب» موحد، فإن كل من يتمنى بصدق نظاما صالحا، يجب عليه أن يقر بأن أسلوب اختيار أعضاء ذلك المجلس أمر يستحق الدراسة. وإنني أطرح الأمر على هيئة سؤال على هؤلاء الذين يدرسون الجنس البشري، أليس التمثيل النيابي والانتخاب سلطة هائلة يجب ألا تمتلكها نفس المجموعة من الناس؟ عندما نخطط لأجيالنا المقبلة، علينا أن نتذكر دوما أن الفضيلة ليست وراثية.
Halaman tidak diketahui