لقد قيل إن الراحل السيد بيلهام (الذي لم يكن خلوا من الأخطاء بالرغم من كونه وزيرا بارعا)، عندما تعرض للهجوم في مجلس العموم بدعوى أن التدابير التي اتخذها كانت ذات سمة مؤقتة، رد قائلا: «سوف تبقى طوال حياتي.» ولو أن فكرة كارثية جبانة بهذا القدر تستحوذ على المستعمرات في الصراع الحالي، فإن الأجيال القادمة ستتذكر أسماء أسلافها بكل مقت.
إن الشمس لم تشرق قط على قضية أكثر أهمية من تلك؛ فهي ليست قضية مدينة، أو بلد، أو إقليم، أو مملكة، وإنما قضية قارة بأكملها؛ تشكل على الأقل ثمن المساحة القابلة للسكن على وجه الأرض. وهي ليست قضية يوم، أو سنة، أو عصر؛ فالأجيال المقبلة مشاركة فعليا في الصراع، وسوف تتأثر - بمقدار قل أو كثر، وحتى نهاية الزمن - بالأحداث التي تقع اليوم. وقتنا الحالي هو وقت زرع بذور الكرامة والإيمان والوحدة القارية؛ وأقل شقاق يحدث اليوم سيكون بمنزلة اسم محفور بسن دبوس على القشرة الرقيقة لشجرة بلوط؛ إذ سوف يزداد الجرح اتساعا مع نمو الشجرة وسوف تقرؤه الأجيال القادمة بحروف كبيرة واضحة.
وبتحول القضية من المقارعة بالحجة إلى حمل السلاح، بدأ عصر جديد للسياسة؛ وظهرت طريقة تفكير جديدة. أصبحت جميع الخطط والعروض والمقترحات التي سبقت تاريخ التاسع عشر من أبريل/نيسان، أي قبل بدء القتال، أشبه بتقويم العام الماضي؛ أي أنه مع أنها كانت ملائمة آنذاك فقد أصبحت لاغية وعديمة الفائدة الآن. وأيا كان ما قدمه المؤيدون لأي من جانبي القضية حينها فقد كان يلتقي عند نفس النقطة؛ وهي الوحدة مع بريطانيا العظمى : وكان الخلاف الوحيد بين الطرفين هو طريقة تفعيل تلك الوحدة؛ فطرف يقترح القوة والآخر يريد الصداقة؛ لكن ما حدث حتى الآن هو أن الأول أخفق، والثاني سحب تأثيره ونفوذه.
وإذ قيل الكثير عن مزايا المصالحة التي هلكت - كحلم جميل - وتركتنا كما كنا، فمن الصواب أن ندرس الجانب الآخر من المجادلة، ونفحص بعض الخسائر المادية العديدة التي تقاسيها هذه المستعمرات، وستظل تقاسيها دائما، من خلال ارتباطها ببريطانيا العظمى واتكالها عليها: أي أن نفحص الارتباط والاتكال وفقا لمبادئ الطبيعة والمنطق السليم، ونرى ما علينا أن نثق به، في حالة الانفصال، وما يمكن أن نتوقعه، في حالة الاتكال.
لقد سمعت البعض يؤكد أنه طالما أن أمريكا ازدهرت تحت مظلة ارتباطها السابق ببريطانيا العظمى فإن نفس الارتباط يكون ضروريا من أجل رخائها المستقبلي، وسيكون لهذا الارتباط دائما نفس التأثير. ولا شيء يمكن أن يكون أكثر تدليسا وخداعا من حجة كهذه. فبهذا يمكن أن نؤكد أيضا أنه طالما أن الطفل نما على رضاعة اللبن فإنه لا ينبغي له أبدا أن يتناول اللحم، أو أن السنوات العشرين الأولى من حياتنا يجب أن تكون سابقة تحتذى في السنوات العشرين التالية. ولكن حتى هذا يعد إقرارا بأكثر مما هو صحيح، لأنني أقول بكل صراحة وبلا مواربة إن أمريكا كانت ستزدهر بنفس القدر، وربما أكثر بكثير، لو لم تقحم أي قوة أوروبية أنفها في شئونها. فالمعاملات التجارية التي أثرت أمريكا بها نفسها هي من ضرورات الحياة، وسيظل السوق مفتوحا أمامها دائما طالما ظل تناول الطعام عادة لأوروبا.
ويقول البعض في أمريكا إن بريطانيا العظمى دافعت عنا. وأقول إنه صحيح ومسلم به أنها استحوذت على أمريكا ودافعت عن القارة على حسابنا وعلى حسابها، وكانت ستفعل المثل مع تركيا بنفس الدافع؛ دافع التجارة والسلطة.
لقد ظللنا وقتا طويلا منقادين بكل أسف لأهواء وتحاملات قديمة وقدمنا تضحيات هائلة من أجل الخرافات. لقد تباهينا بحماية بريطانيا العظمى، دون التفكر في أن دافع بريطانيا العظمى كان هو «المصلحة» لا «المودة»؛ في أنها لم تكن تحمينا من «أعدائنا» على «حسابنا»، وإنما تحمينا من «أعدائها» على «حسابها»؛ من أولئك الذين ما كانوا ليتصارعوا معنا بأي حال ولأي «سبب آخر»، والذين سيظلون دائما أعداء لنا «لنفس السبب». لتتخلى بريطانيا عن ادعاءاتها في ملكية القارة، أو لتتخلص القارة من اتكالها على بريطانيا، وسوف ننعم بالسلام مع فرنسا وإسبانيا لو كانتا في حالة حرب مع بريطانيا. ولا بد أن تحذرنا مآسي هانوفر في الحرب الأخيرة من مخاطر الارتباطات.
لقد أكد البرلمان مؤخرا على أن المستعمرات لا علاقة لبعضها ببعض إلا من خلال البلد الأم، أي أن بنسلفانيا وجيرسي وغيرها من المناطق هي مستعمرات شقيقة مملوكة لإنجلترا؛ وتلك بلا أدنى شك طريقة عكسية ملتوية لإثبات علاقة الارتباط، لكنها الطريقة الحقيقية الوحيدة والأقرب إلى إثبات العدائية، لو جاز لي تسميتها بهذا الاسم. إن فرنسا وإسبانيا لم تكونا أبدا، وربما لن تكونا أبدا عدوتين لنا بصفتنا أمريكيين إلا من خلال كوننا رعايا لبريطانيا العظمى.
يقول البعض: «ولكن بريطانيا هي البلد الأم». ولو كان ذلك، فإن سلوكها لجدير بالمزيد من العار؛ فحتى وحوش البرية لا تأكل صغارها، وحتى الهمج لا يشنون الحروب على أسرهم؛ ولهذا فلو صح هذا التأكيد لكان في جوهره لوم وتقريع؛ ولكن الواقع أنه ليس صحيحا، أو صحيح جزئيا فحسب، وعبارة «البلد الأم» هي عبارة استخدمها بدهاء الملك وبطانته الطفيلية لغرض حقير هو كسب انحياز جائر غير مستحق من الناس اعتمادا على ضعف عقولنا وسذاجتنا. إن أوروبا وليست إنجلترا هي البلد الأم لأمريكا. لقد كان هذا العالم الجديد هو المأوى والملاذ لمحبي الحرية المدنية والدينية المضطهدين من «جميع أنحاء» أوروبا. إلى هنا فروا، ليس من الأحضان الحنونة لأم وإنما من القسوة الرهيبة لوحش؛ وينطبق هذا بشدة على إنجلترا، وما زال نفس الطغيان الذي أخرج المهاجرين الأوائل من ديارهم يلاحق ذريتهم.
في هذا الجزء الرحيب من العالم، ننسى الحدود الضيقة التي لا تزيد على خمسمائة وثمانين كيلومترا (وهو امتداد إنجلترا) وندير صداقاتنا على نطاق أوسع؛ إننا نؤكد مشاعر الإخوة لكل مسيحي أوروبي، ونبتهج بسخاء هذا الشعور.
Halaman tidak diketahui